ملخص: الاستراتيجية لعبة تنافسية تتطور استجابةً للمنافسة الدائرة، ولكن حجم التغيير في البيئات الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية يستدعي إخضاع استراتيجيات المؤسسات لعملية إعادة ابتكارٍ نوعية كي تصبح ملائمة للظروف الجديدة. يناقش هذا المقال 6 عوامل تحفز هذه التغييرات: 1) الديناميكية، 2) عدم اليقين، 3) الإمكانات، 4) الاتصال بالتكنولوجيا الرقمية 5) الارتباط بالسياق، 6) الإدراك المعرفي.
في سبعينيات القرن الماضي كانت استراتيجية المؤسسات تعدّ مماثلة لإدارة المحفظة الاستثمارية، حيث تخصص الشركة الكبرى رأس المال لوحدات العمل المختلفة بأعلى كفاءة ممكنة، وذلك لأن مدراء الشركة يتمتعون بموقع أفضل من موقع المستثمرين الماليين لصنع قرارات قائمة على المعلومات الكافية حول تخصيص رأس المال لمختلف فرص الأعمال. ونظراً لضيق أسواق رأس المال، يتعين على المدراء الموازنة بحذر بين الأعمال التجارية التي تولد الأموال والأعمال التي تستهلكها.
ولكن بدءاً من الثمانينيات، مع زيادة فعالية الشركات في تمويل الأعمال التجارية التي لا تزال في مراحلها الأولى، اعتبرت استراتيجية المؤسسة "إدارة للقيمة" حيث لم يعد مدراء الشركة وكلاء عن المستثمرين وتمثل دورهم في استخراج أعظم قيمة من الأعمال التجارية التي يتولونها. ضمن هذا المشهد العالمي، أصبح الاستثمار في الأعمال التجارية الجديدة مرتبطاً بمفهوم أوجه التعاون بين هذه الأعمال التجارية فيما يتعلق بالأصول الحقيقية والقدرات، وأصبحت مسؤولية مركز الشركة متمثلة في تعظيم أوجه التعاون بين مجموعة الأعمال وتطبيق نموذج الإشراف المناسب بدءاً من المالك غير المشارك في الإدارة وصولاً إلى المدير المشارك فيها.
ولكن بيئة الشركات تتطور باستمرار، وهي تفرض مطالب جديدة ومختلفة على استراتيجيات المؤسسات، وتسهم 6 عوامل في تحفيز هذه التغييرات
1. الديناميكية
لم تعد الميزة التنافسية قادرة على الاستمرار كما كانت من قبل، ونرى في تسارع معدل تلاشي التنافسية، الذي يقيس سرعة تراجع السوق والعائدات التشغيلية إلى المتوسط، أن هذا التراجع تسارع بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، ومن الناحية العملية تتمثل النتيجة في أن معدل الخسارة في الشركات التي تندرج في قوائم مثل "فورتشن 500" ازداد بدرجة كبيرة.
إحدى تبعات هذه الزيادة هي عودة أهمية الإدارة الفعلية لمحفظة الشركة الاستثمارية؛ إذ يجب أن تضمن الشركة إعادة التوازن في مجموعة أعمالها باستمرار كي تحافظ على توقعات النمو، والتبعة الأخرى هي أنه أصبح من الضروري بدء الأعمال الجديدة بمعدلات أعلى، ما يدفع الشركات للتعامل معها من موقع رواد الأعمال وبناء المهارات والبنى التنظيمية اللازمة لضمان ذلك. أما التبعة الثالثة فهي أن عملية التحول أصبحت قدرة سائدة واستراتيجية لإصلاح أو تجديد الأعمال التجارية التي مرت بزعزعة تنافسية أو وصلت إلى مرحلة النضج أو بدأت بالتراجع.
2. عدم اليقين
لم تعد خطط العمل قابلة للتوقع كما في السابق نتيجة للثورة التكنولوجية وعوامل أخرى، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه مع تزايد موجات الزعزعة التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي الذي يجتاح اقتصاد الشركات، ويبدو أن التكنولوجيات ونماذج العمل القائمة على المناخ توقع أثراً مماثلاً على أقل تقدير.
وكان من آثار ذلك على استراتيجية المؤسسات تشكّل منطق جديد كلياً لميزة الحجم؛ ففي بيئة الأمس الأكثر استقراراً، قدّم الحجم ميزة عبر خلق الكفاءة، ولكن في بيئة تنطوي على معدلات تغيير عالية من المحتمل أن يساعد الحجم الشركات على إدارة المخاطر عن طريق القدرة الأكبر على الوصول إلى المعلومات والحفاظ على حواجز الحماية التشغيلية والمالية وإجراء التجارب السريعة. تجتمع هذه القدرات لتخلق ميزة ديناميكية جديدة: القدرة على التحمل التي تحقق المستوى المطلوب من أداء المدى الطويل في أثناء فترات عدم اليقين.
3. الإمكانات
كما أشرنا، أصبحت بيئة الأعمال وسطياً أكثر ديناميكية وغموضاً، ولكن إذا نظرنا إلى الصورة المجزأة في مختلف الشركات والقطاعات سنرى أن تنوع البيئات التنافسية التي تواجهها الأعمال التجارية ووحدات العمل ضمن الشركات قد ازداد أيضاً. بناءً على غموض كل بيئة أو مرونتها أو قسوتها، يتعين على الشركات تبني مناهج متباينة بدرجة كبيرة في صنع استراتيجيات المؤسسات وفقاً لعمليات كل منها وأدواتها المميزة، ومن هذه المناهج: الاستراتيجية الكلاسيكية (حيث تتنافس الشركات في الحجم والموقع) والاستراتيجية التكيفية (حيث تتنافس في القدرة على التعلم) والاستراتيجية القائمة على الرؤية (حيث تتنافس الشركات في التخيل والإبداع والابتكار) واستراتيجية التشكيل (حيث تتنافس الشركات في قدرتها على التعاون مع الشركاء) واستراتيجية التحول (حيث تتنافس الشركات في قدرتها على تجديد أعمالها). وبالنتيجة، يجب أن تنمي استراتيجية المؤسسة قدرات تنفيذ أطر العمل المتنوعة هذه وموازنتها واختيار النهج المناسب لوضع استراتيجية كل عمل تجاري وإنشاء منصة مشتركة لتنفيذ هذه الاستراتيجيات.
4. الاتصال بالتكنولوجيا الرقمية
قبل 10 أعوام فقط كانت المصارف وشركات النفط تهيمن على قائمة أكبر شركات العالم، في حين تهيمن عليها اليوم الشركات التي تنظم بيئات العمل الرقمية مثل شركة أمازون التي تنشئ عروضاً بالتعاون مع مئات أو آلاف الشركات الأخرى. هذا يؤدي إلى تغيير جذري في دور استراتيجية المؤسسة بما أن تنوع العروض والقدرات التي تسهم في خلق قيمة الشركة يتعدى حدود الشركة. وبذلك يصبح الهدف من استراتيجيات المؤسسات هو خلق موقع تنافسي ضمن بيئة عمل متميزة، ما يشوش الحدود بين استراتيجية المؤسسة واستراتيجية الأعمال. وبصورة أوسع، أصبحت الاستراتيجية أكثر عرضة للتأثير الخارجي والعمل التعاوني حتى بالنسبة للأعمال غير القائمة على المنصات.
5. الارتباط بالسياق
على مدى السنوات الخمسين الأخيرة كان نجاح الأعمال التجارية يتوقف على مجموعة صغيرة نسبياً من المتغيرات المتمثلة في العملاء والمنتجات والشركات المنافسة والمستثمرين، ولكن حجم أثر الأعمال التجارية الكبير وحجم كل شركة كبرى والمخاوف المتزايدة حول العوامل الخارجية الاجتماعية والبيئية لم تعد تتيح للمدراء تبني هذه الرؤية البسيطة؛ إذ يتعين على الشركات اليوم إثبات التزامها من حيث الغاية والمساهمة الاجتماعية والمسؤولية البيئية وجدارتها بالثقة. هذا لا ينطوي فقط على مسائل المقاصد والقياس والامتثال والتواصل فحسب وإنما على مسائل الميزة التنافسية أيضاً. يجب أن تعمل استراتيجية الشركة على خلق المصداقية والمساهمة الاجتماعية وتوليد الفائدة عبر التعامل بأساليب إبداعية مع القيود الاجتماعية والبيئية الجديدة إلى جانب تحقيق النتائج المتعلقة بالمتغيرات التقليدية.
6. الإدراك المعرفي
حتى وقت ليس ببعيد كانت استراتيجيات المؤسسات تتعلق بالتحليلات وصناعة القرار التي يقوم بها الإنسان، ولكن تعلم الآلة اليوم وصل إلى مستوى من التطور ينافس قدرات الإنسان الخبير بل يتفوق عليها في مجموعة مهام آخذة بالاتساع، وآثار ذلك في استراتيجية المؤسسة عميقة وتبدأ بتحول الميزة المعرفية للشركات إلى محور محتمل للمنافسة، ولا يتوقف ذلك فقط على قدرتها على استخدام الذكاء الاصطناعي في كل عمل تجاري بفعالية، وإنما على نقل تركيز العقل البشري نحو مجالات أكثر تميزاً مثل الأخلاق والتعاطف والإبداع أيضاً. وبالمثل، سوف تتنافس الشركات في تصميم أنواع جديدة من المؤسسة "ذات الأعضاء الإلكترونية" وتنظيمها على نحو يتيح دمج الإدراك المعرفي لكل من الإنسان والآلة وتآزرهما.
***
الاستراتيجية لعبة تنافسية تتطور استجابةً للمنافسة الدائرة، ولكن حجم التغيير في البيئات الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية يستدعي إخضاع استراتيجية المؤسسات لعملية إعادة ابتكارٍ نوعية كي تصبح ملائمة للظروف الجديدة.