أصدرت الحكومة الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي تقريراً يفصل الأثار المدمرة لظاهرة الاحتباس الحراري وعدم تقليل استهلاك الطاقة على الاقتصاد الأميركي، إذ تنبأ التقرير بتقلص الناتج المحلي الإجمالي بما يزيد عن 10% بحلول نهاية القرن إذا لم يتم فعل أي شيء للحد من ارتفاع درجات الحرارة.
ويوضح التقرير وجوب تقليل استهلاك الطاقة بشكل كبير للمساعدة في عدم وصول الأرض إلى عتبة درجات الحرارة الحرجة. وتتطرق أبحاثنا الجديدة التي أجريناها إلى طريقة تساعد المستهلكين على تحقيق هذا الهدف. ولا تعتمد طريقتنا على تغيير معتقدات الأفراد الشخصية حول تغير المناخ، بل إلى شيء آخر أكثر أهمية. إذ تشير أبحاثنا إلى أنّ اعتدال المرء في استهلاك الطاقة سيتحفّز أكثر إذا كان يؤمن أنّ جيرانه يهتمون أكثر بترشيد الطاقة.
أهمية تقليل استهلاك الطاقة
في محاولتنا إيجاد العوامل التي تحدد إذا ما كان المرء سيقوم بزيادة استهلاكه للطاقة أو ترشيد استهلاكه، عقدنا شراكة مع مقدمة خدمات الطاقة شركة أوباور (Opower) التي استحوذت عليها أوراكل في العام 2016. وتقدّم أوباور "تقرير الطاقة المنزلية" والذي يوضح لسكان المنازل كمية الطاقة التي يستهلكونها من جهة، ومقدار الطاقة التي يستهلكها جيرانهم من جهة ثانية. وقد وجدت أبحاث سابقة أنّ ذاك التقرير المكون من صفحة واحدة يساعد العملاء على تقليل استهلاكهم للطاقة وسطياً بمقدار 1% إلى 2% في السنة.
لكن لا تقدم تلك المؤشرات الحكاية كاملة، إذ إنه وفي كل مرة تدخل فيها أوباور إقليماً جديداً أو تتعاقد مع شركة مرافق جديدة، تقوم بإجراء تجربة عشوائية مضبوطة تقارن فيها مجموعة تتلقى تلك التقارير بمجموعة لا تتلقاها. وحصلنا بدورنا على إمكانية الوصول عشوائياً إلى 211 تجربة من تلك التجارب المضبوطة التي أجرتها أوباور على مدار العقد الماضي والتي شملت ما يزيد عن 16 مليون منزل في 27 ولاية.
اقرأ أيضاً: نجيب صعب .. أربعون عاماً من النضال في سبيل البيئة
وكان الأمر المثير للحيرة أننا وجدنا تفاوتاً في معدلات استهلاك الأسر التي تتلقى تلك التقارير للطاقة. ففي بعض الحالات، وصل مستوى ترشيد الطاقة لدى بعض الأسر إلى 2.55%، في حين كان لدى البعض الآخر 0.81% فقط. ويعود سبب هذا الاختلاف إلى المبادئ الأساسية وطريقة التحفيز الموجودة في كل تقرير: والممثل بالعادات الاجتماعية.
إنّ تقرير الطاقة المنزلية عبارة عن رسم بياني بسيط يتكون من 3 شرائح يقدم مقارنة مع الجيران. ويوضح التقرير للأسرة مقدار الطاقة الذي تستهلكه ومقدار ما يستهلكه "الجيران ذوي الكفاءة في الترشيد" ومقدار ما يستهلكه "كل الجيران". كما يقوم أيضاً بتصنيف تلك الأسر فيما يتعلق بما يقومون به لترشيد استهلاك الطاقة. ويوصّف الرسم البياني "معياراً اجتماعياً" عبر إيصاله ما يقوم به الآخرون من ذوي الوضع المشابه، ويتحداهم للقيام بعمل أفضل من جيرانهم إذا كان استهلاكهم للطاقة أعلى من جيرانهم.
وتوقعت أوباور أن يكون أثر تقرير الطاقة المنزلية متساو على جميع المستهلكين انطلاقاً مما توصلت إليه عقود من أبحاث علم الاجتماع والتي أظهرت أنّ الناس يريدون بشكل عام أن يكونوا مثل أقرانهم (أو حتى أفضل). ولا أحد يريد أن يُنظر إليه على أنه أقل اهتماماً بالبيئة مقارنة بجيرانه، إلا أننا نجد بأنّ ذاك التقرير له أثر تحفيزي ضئيل على البعض مقارنة بالبقية.
اقرأ أيضاً: 5 خطوات لربط مكافآت المسؤولين التنفيذيين بالاستدامة
ولمعرفة ما الذي يتسبب في هذا الاختلاف، أجرينا مسحاً ضم أفراداً يعيشون في تلك الولايات السبع والعشرين التي أجرت فيها أوباور تجاربها العشوائية المضبوطة. وقمنا خلال المسح بطرح سؤالين عليهم: الأول: إذا كانوا أنفسهم يؤمنون بأنّ ترشيد استهلاك الطاقة يساعد على إنقاذ البيئة، والثاني: إذا كانوا يظنون بأن غالبية جيرانهم يؤمنون بأن ترشيد الطاقة يساعد على إنقاذ البيئة. ثم استكشفنا بعد ذلك ما إذا كانت فعالية تجارب أوباور العشوائية المضبوطة مرتبطة باستجابات المشاركين في تلك الحالات نفسها.
وكان ما يثير الدهشة معرفة اهتمام من كان يُستطلع آراؤهم بوجهة نظر جيرانه حيال أهمية ترشيد استهلاك الطاقة في الحفاظ على البيئة، إذ كان الواحد منهم يرى ذلك على أنه أكثر أهمية حتى من مواقفه ومعتقداته (بمعنى آخر، مدى قلقنا بشأن استخدامنا للطاقة والبيئة). يزيد تأثير تقرير الطاقة المنزلية المقدم للمرء والذي يضم معلومات حول استهلاك جيرانه للطاقة بشكل كبير على استهلاكه الخاص لها عندما يُدرك أنّ جيرانه ينظرون إلى ترشيد الاستهلاك على أنه قضية مهمة.
تخيل أنك تلقيت تقرير استهلاك طاقة يفيد بأنك تستهلك طاقة أكثر من جيرانك. هنا ستسأل نفسك: "ما الذي يفعله جيراني الأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة؟"، وقد تقفز إلى استنتاجات مثل أنّ سبب فاتورة الطاقة الأقل يعود إلى ذهابهم في إجازة، أو لعدم وجود أطفال لديهم بسبب ارتيادهم الجامعة في ولاية أخرى، أو حتى قد تراه على أنه ضربة حظ لهذا الشهر. وفي حال اكتشفت فعلاً أنّ جيرانك استهلكوا طاقة أقل مما استهلكته عن طريق الصدفة، وليس بسبب اهتمامهم بالبيئة، لن تقوم بتغيير المصابيح الكهربائية والتقليل من استخدام مكيف الهواء لتقلل من استهلاك الطاقة بدورك.
إلا أنه في حال كنت تؤمن بأنّ جيرانك يهتمون بشدة بترشيد استهلاكهم للطاقة، عندها قد ترى استهلاكك للطاقة من منظور مختلف، حيث قد تسأل نفسك: "ما هي الخطوات التي يقومون بها لترشيد الطاقة؟" "هل أطلب منهم المساعدة؟" أو قد تقول، "يبدو أنهم يأخذون ذلك على محمل الجد". وبعبارة أخرى، كلما زاد إيمانك بأن جيرانك يهتمون حقاً بترشيد استهلاك الطاقة لمساعدة البيئة، زاد مقدار مشاركتك في ممارسات ترشيد استهلاك الطاقة.
وما نقترحه هنا هو أنّ القصص التي نرويها لأنفسنا عن سبب تصرف الآخرين بتلك الطريقة هي التي تقود سلوكنا بقدر ما تقوده مواقفنا ومعتقداتنا الشخصية وملاحظتنا لما يفعله الآخرون. ويمكن تطبيق هذه الفكرة على أمور أخرى بخلاف ترشيد استهلاك الطاقة.
اقرأ أيضاً: حان الوقت لربط تعويضات المسؤولين التنفيذيين بالاستدامة
لنتخيل أنك مدير، وتسعى إلى تحسين التوازن بين العمل والحياة لموظفيك. وبالنظر إلى ما درسته حول ممارسات الإدارة الناجحة وعلوم السلوك، فإنك تنظر إلى البيانات وتقرر استخدام رسالة حول العادات الاجتماعية على غرار: "لا يتحقق 70% من زملائك من بريدهم الإلكتروني ليلاً وفي عطلة نهاية الأسبوع" أو "يستخدم 85% من زملائك أيام عطلاتهم بحلول نهاية السنة". إلا أنّ نتائجنا تلمح إلى أنك قد تحتاج إلى وضع إضافة صغيرة في تلك الرسالة، حيث تحتاج إلى مساعدة موظفيك على فهم أنّ الآخرين في الشركة يشاركون في هذه السلوكيات من جهة، ومن جهة أخرى يهتمون بالشركة بشدة. بالتالي قد يكون من الأفضل تعديل النص ليصبح، "نقدّر كلنا الوقت الذي نقضيه مع عائلاتنا، والوقت الذي نقضيه في شركتنا. لهذا السبب، يستخدم 85% من زملائك جميع أيام العطلة المتاحة لهم بنهاية كل عام".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لمدراء المسؤولية الاجتماعية إلهام قادة آخرين لتحقيق الاستدامة؟
وقبل كل شيء، تذكرنا النتائج التي توصلنا إليها أنه عندما نحاول تغيير السلوك البشري، يجب أن نذهب إلى ما هو أبعد من مجرد تغيير ما يعتقده الشخص والعمل على تركيز انتباهه على ما يظن الآخرون بأنه يؤمن به. نحن كائنات اجتماعية ونهتم بعمق بما يفعله جيراننا وزملاؤنا في العمل، وأيضاً ما يفكرون به حول كيفية تقليل استهلاك الطاقة في خضم العمل.
اقرأ أيضاً: أهمية استدامة تعويضات المسؤولين التنفيذيين