هل حان الوقت لاستبدال نموذج الشركات العامة؟ نحتاج إلى نموذج يركز حقاً على المكاسب طويلة الأجل.
ظلت الشركات المساهمة العامة (المطروحة للتداول بالبورصة) والمدارة بشكل احترافي هي النموذج السائد في قطاع الأعمال على مدار الأعوام المائة الماضية. كان هذا النموذج قد ظهر في أعقاب الركود العظيم نظراً لفاعليته في جذب رؤوس الأموال من مستثمري القطاع الخاص وضخها في المشاريع الإنتاجية، حتى امتلكوا بحلول الستينيات أكثر من 80% من أسهم الشركات المتداولة. واستطاع النموذج تمكين المسؤولين التنفيذيين من التركيز على النمو والربحية على المدى البعيد لصالح الكثير من الأفراد الذين يمتلكون أسهماً في شركاتهم.
غير أن الملاءمة الوظيفية للشركة العامة كانت موضع شك على مدار السنوات الأربعين الماضية. حيث يوجّه النقّاد أصابع الاتهام إلى هذا النموذج في أسواق رأس المال التي يجري تداول الأسهم فيها اليوم بصورة مكثفة، وبالتالي يحفز المسؤولين التنفيذيين بشكل متزايد على ممارسة الإدارة من منطلق أطر ضيقة تحرص على المكتسبات قصيرة الأجل، مع التركيز على تعويضاتهم القائمة على الأسهم إلى جانب التخوف من صناديق التحوط النشطة. ويمكننا أن نستشف من هذه المعطيات أن هناك خطأ ما، سواء كانوا محقين في اتهاماتهم تلك أم لا، فقد انخفض عدد الشركات العامة في الولايات المتحدة إلى النصف في الفترة من عام 1997 إلى عام 2015، في حين ارتفع عدد الشركات المسيطر عليها (تلك التي يهيمن عليها مساهم معين أو مجموعة معينة من المساهمين) في مؤشر "ستاندرد آند بورز 1500" بنسبة 31% في الفترة من 2002 إلى 2012. وارتفع عدد الشركات ذات الأسهم متعددة الأصوات بين الشركات المدرجة في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 140% في الفترة من 2007 إلى 2017.
لم تعد الشركة العامة تخدم مصالح أهم مساهميها ممثلين في مستثمري مدخرات التقاعد، ولا الشريحة الأكثر أهمية في قوة العمل التابعة لها ممثلين في موظفي المعرفة.
وسأتتبع في هذه المقالة تراجع الشركة العامة، وأشرح أسباب قصور هذا النموذج عن تلبية الاحتياجات الأساسية لأصحاب المصلحة الأساسيين، وسأقدم نموذجاً جديداً أعتقد أن بمقدوره أن يحل محل الشركة العامة باعتبارها النموذج السائد في قطاع الأعمال.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
لم تعد الشركة العامة مناسبة للغرض الذي أنشئت من أجله، كما أن شعبيتها كنموذج للملكية آخذة في التراجع.
لماذا يحدث ذلك؟
يحفز النموذج المسؤولين التنفيذيين في أسواق رأس المال الحالية على ممارسة الإدارة من منطلق أطر ضيقة تحرص على المكتسبات قصيرة الأجل، ويفشل بالتالي في تلبية الاحتياجات الأساسية لأصحاب المصلحة الأساسيين ممثلين في مستثمري مدخرات التقاعد وموظفي المعرفة.
طريقة الحل
الانتقال إلى نموذج يعطي حق الملكية للعاملين من خلال خطة ملكية أسهم للموظفين (ESOP) وصندوق واحد أو أكثر للتقاعد، وبالتالي تركيز الحوكمة على ضمان الأداء الحقيقي طويل الأجل بدلاً من تمحورها حول تقلبات أسعار الأسهم على المدى المنظور.
تغير مجرى الأحداث
يمكن إرجاع النفور من نموذج الشركة العامة إلى أواخر السبعينيات. وكان أحد مؤشراته الرئيسية مقالاً نُشر عام 1976 في "مجلة الاقتصاد المالي" بقلم مايكل جنسن وويليام مكلينغ بعنوان "نظرية الشركة: السلوك الإداري وتكاليف الوكالة وهيكل الملكية" (Theory of the Firm: Managerial Behavior, Agency Costs and Ownership Structure).
فقد ارتأى الكاتبان أن المدراء المحترفين يُعتبرون وكلاء غير مثاليين الذين إذا أُوكلوا إلى ضمائرهم فسيجنحون إلى رعاية مصالحهم هم إلى أقصى الحدود الممكنة وإهمال مصلحة المساهمين. وتصورا أن حل هذه المشكلة يكمن في التعويضات القائمة على الأسهم. أدت هذه الفكرة وفرضيتها الأساسية القائلة بأن المساهم هو صاحب المصلحة الأساسي في الشركة إلى التوسع المهول في منح الأسهم وخيارات الأسهم على مدى العقود التالية.
وللأسف، لا يتوافر الكثير من الأدلة (كما أشرت في موضع آخر) على تحسن أداء الشركات نتيجة لذلك. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن ثورة القيمة السهمية للشركة التي أسهم جنسن ومكلينغ في إطلاق شرارتها كان لها نتيجة عكسية غير مقصودة تتمثل في تركيز كبار المسؤولين التنفيذيين على التحركات قصيرة الأجل في أسعار أسهم شركاتهم بدلاً من خلق قيمة مستدامة على المدى البعيد. ومن هنا، بدأ الرؤساء التنفيذيون في تكثيف اجتماعاتهم مع المستثمرين والمحللين الذين اتبع هؤلاء المستثمرون نصائحهم. وراحوا يشددون على مقدار القيمة السهمية للشركة التي نجحوا في تحقيقها منذ آخر اجتماع بغرض إثبات صحة استراتيجياتهم. وأدى في الوقت نفسه انخفاض تكاليف المعاملات والمنهجيات الجديدة لإدارة المحافظ الاستثمارية إلى تشجيع كبرى المؤسسات الاستثمارية المدارة باحتراف على تداول أسهمها بكثافة أكبر.
ثم ظهر غزاة الشركات في مطلع الثمانينيات فعملوا على تضخيم آثار هذه الاتجاهات. حيث أعطى نشاطهم المكثف للمسؤولين التنفيذيين حافزاً إضافياً لتوجيه قدر أكبر من الاهتمام بأسعار الأسهم. وإن قصروا في أداء هذه المهمة، فيمكن لهؤلاء الغزاة طرح عرض بالاستحواذ العدائي على الشركة والسيطرة على مقدراتها ومن ثم إقالة مسؤوليها التنفيذيين، وربما تمزيق الشركة إرباً لانتزاع أقصى قيمة فورية منها، كما فعل كارل آيكان مع "خطوط عبر العالم الجوية" (Trans World Airlines) بعد استيلائه عليها عام 1985. وتسير صناديق التحوط النشطة اليوم حيثما يقودها غزاة الشركات، ولكن برأسمال أكبر بكثير تحت تصرفها.
وبات الأداء الإداري الجيد أو السيئ يحتكم بوضوح إلى تصوّر واحد بعد ظهور خدمة "الاستدعاء الأول" (First Call) عام 1980 والتي جمعت توقعات المحللين للتوصل إلى "توقّعات إجماعية" للإيرادات والأرباح ربع السنوية لكل شركة. إذ يعرف الفريق التنفيذي أنه إذا لم يلبِّ التوقّعات الإجماعية، فسوف يهزم المتداولون أسهم شركته، ما يزيد من خطر الاستحواذ العدائي. ويوفر ذلك للمسؤولين التنفيذيين حافزاً قوياً لتلبية الإجماع ربع السنوي حتى لو كان ذلك يعني التضحية بالأهداف بعيدة الأجل. وتؤكد الأبحاث أنهم يجرون هذه المقايضة بالفعل، بل قد يورطون أنفسهم في ممارسات احتيالية. فقد كان المسؤولون التنفيذيون الساعون إلى رفع أسعار أسهمهم في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة ضالعين في فضائح محاسبية لم يسبق لها مثيل من قبل، مثل تلك الفضائح المتعلقة بشركة "إنرون" عام 2001 و"أديلفيا" (Adelphia)، و"غلوبال كروسينغ" (Global Crossing) و"وورلدكوم" و"تايكو" (Tyco) عام 2002.
فشل الشركة العامة
بُذلت محاولات حثيثة لتحسين حوكمة الشركات العامة. فقد استحدث "قانون ساربينز أوكسلي" (Sarbanes-Oxley Act) لعام 2002، على سبيل المثال، قواعد جديدة تتعلق باستقلالية أعضاء مجلس الإدارة ووضع اشتراطات الخبرة المالية اللازم توافرها في مجالس الإدارة في محاولة لتجنب المزيد من الفضائح المحاسبية. وألزم القانون الرؤساء التنفيذيين والمدراء الماليين بتحمل المسؤولية الشخصية عن البيانات المالية للشركة. كما جرى إلزام محللي الأسهم بالكشف عن أي تضارب في المصالح وانهيار شراء الأسهم وتوصيات الاحتفاظ بها وبيعها. لكن مثل هذه الإصلاحات لا تعالج المشكلة من جذورها والتي تتمثل في أن الشركة العامة لم تعد تخدم مصالح أهم مساهميها ممثلين في مستثمري مدخرات التقاعد، ولا الشريحة الأكثر أهمية في قوة العمل التابعة لها ممثلين في موظفي المعرفة.
مستثمرو مدخرات التقاعد. كان بيتر دراكر محقاً في عام 1976 كعادته دائماً عندما توقع صعود صناديق التقاعد إلى الصدارة بحجة أن العاملين الأميركيين سيمتلكون وسائل الإنتاج من خلال ملكية الأسهم من قبل صناديق التقاعد التي تحتفظ بأصولهم التقاعدية، وليس من خلال ثورات البروليتاريا العنيفة. حيث يشكل الأشخاص الذين يدخرون أموالهم للانتفاع بها خلال فترة التقاعد أكبر شريحة من المستثمرين اليوم.
وعادةً ما يكون لدى هؤلاء المستثمرين نظرة مستقبلية طويلة الأجل تمتد لنحو 20 أو 30 أو 40 عاماً، وتكون خطط صناديق التقاعد محددة المزايا مسؤولة بشكل صارم عن مزايا التقاعد المعلنة (مثل شركات التأمين على الحياة التي تتوافق مصالحها إلى حد كبير مع تلك الخطط). ورغم أن خطط صناديق التقاعد المحددة المساهمة، مثل 401 (ك) وحسابات التقاعد الفردية (IRAs) لا تحمل مثل هذه المسؤولية، فإن مدراء تلك الاستثمارات يشاركونها الهدف المتمثل في إنتاج عوائد مرتفعة طويلة الأجل لتعظيم دخل تقاعد المستفيدين. ويمكنهم الاستثمار في السندات طويلة الأجل والعقارات والبنى التحتية. ولكن تحقيق الربح بالمستويات المطلوبة يوجب عليهم أيضاً الاستثمار في الأسهم التي عادةً ما تقدم أعلى معدلات العائدات.
بيد أنه من الواضح أن حوافز المسؤولين التنفيذيين لا تتماشى في ظل الوضع الحالي مع حاجة مستثمري مدخرات التقاعد لخلق قيمة طويلة الأجل. علاوة على ذلك، فإن المستثمرين عاجزون إلى حد كبير عن تغيير هذا الوضع. قد يفترض المرء أن المؤسسات الكبيرة مثل "بلاك روك" (BlackRock) و"فيديليتي" (Fidelity) و"ستيت ستريت" (State Street) وغيرها من أكبر صناديق التقاعد لديها فائض كبير من رأس المال بحيث يمكنها إرغام المسؤولين التنفيذيين على التصرف لصالح عملائهم. ورغم أن البعض يحاول فعلاً التصرف على هذا النحو، فإن قدرتهم على القيام بذلك محدودة لأن أكبر الصناديق ضخم جداً بحيث يمتلك كل منها حصصاً في معظم الشركات المتداولة في السوق. وهذا يعني أمرين. أولاً: لا يمكن لكبرى المؤسسات أن تذهب بعيداً في معاقبة أي شركة لأنها إذا قامت بتصفيتها وبالتالي خفض أسعار أسهمها، فإنها ستتيح الفرصة ببساطة لشراء حصة مسيطرة برافعة مالية أو إتاحتها أمام صندوق تحوط نشط. ثانياً: ليس لدى الصناديق الكبيرة والمتنوعة حافز لتشجيع شركة معينة على العمل بصورة متقنة لأنها تمتلك جميع منافسيها، وهو ما يعني أن أي نجاح بارز من جانب شركة معينة يأتي على حساب منافسيها وأسعار أسهمها. قد يعتقد المرء أن إحدى المؤسسات المساهمة في "كيمبرلي كلارك" (Kimberly-Clark) تود أن ترى الشركة تتوصل إلى ابتكار رائع يمكّن حفاضات "هغيز" (Huggies) من سحق حفاضات "بامبرز" التابعة لشركة "بي آند جي". ولكن نظراً لاحتفاظها في الغالب بحصة كبيرة في "بي آند جي" كما هو الحال في "كيمبرلي كلارك"، فسيتم في الغالب انتقاص مكاسبها على سهم الأخيرة بخسائرها في أسهم "بي آند جي".
خلاصة القول: لا تملك المؤسسات الاستثمارية القدرة ولا الحافز لضبط المسؤولين التنفيذيين أو حماية الشركات من جشع صناديق التحوط أو حتى تشجيع الشركات على المنافسة بقوة.
موظفو المعرفة. نبّه دراكر العالم في عام 1959، أي قبل نحو عقدين من توقعه بشأن الصناديق التقاعدية، إلى ظهور فئة جديدة من الموظفين ممثلة في موظفي المعرفة. حيث يستخدم هؤلاء العمال عضلاتهم الذهنية، بدلاً من عضلات أذرعهم وأرجلهم وظهورهم. وحذّر من صعوبة إرضائهم بسبب طبيعة عملهم الذي يتم في أذهانهم وبواسطة عقولهم، بما يعني أنهم وعملهم سواء.
هذا هو جوهر مشكلة الشركة العامة. إذ يمثل موظفو المعرفة القيم الأساسية للشركة، وهم مطالبون بالعمل لصالح مساهميها، ومطالبون كذلك بتقديم تضحيات لتحقيق الأهداف المالية ربع السنوية. وعندما تتدخل صناديق التحوط النشطة، يُطلب منهم الموافقة على تسريح أصدقائهم وزملائهم في مختلف أفرع الشركة لتحسين الأرباح.
من هم المساهمون في الشركة؟ سيعرض سجل الأسهم أسماء مثل "بلاك روك" و"فيديليتي" و"ستيت ستريت" و"فانغارد" (Vanguard). لكن هذه مجرد مؤسسات تقتضيها الأمانة المهنية الاستثمار نيابة عن المساهمين الحقيقيين. وينطبق الشيء نفسه على صناديق التقاعد مثل "كالبيرز" (CalPERS) و"صندوق التقاعد المشترك لولاية نيويورك" (New York State Common Retirement Fund) و"نظام تقاعد المعلمين في تكساس" (Teacher Retirement System) والمستثمرين الناشطين: "بيرشينغ سكوير" (Pershing Square) و"ثيرد بوينت" (Third Point) و"فاليو آكت كابيتال" (ValueAct Capital). حيث تمثل هذه المؤسسات مجتمعة 80% من إجمالي المساهمين المفترضين. ولا يتناقش المساهمون الفعليون مع الشركات التي يمتلكونها، بل قد لا يعرفون حتى أنهم يمتلكونها.
لذا فإن النموذج السائد يطلب من العاملين أن يكدحوا في ظل مسؤولين تنفيذيين يتحدد رفاههم المالي من خلال سعر السهم، لصالح مالكين لا يعرفهم أحد. يبدو هذا ملائماً لبيئة عمل يشعر فيها 31% فقط من الموظفين بالاندماج في محل عملهم ويشعر 54% منهم بعدم الاندماج ويشعر 14% منهم بالاندماج الشديد، وفقاً لنتائج مؤسسة "غالوب" لعام 2020. ربما كان دراكر سيتوقع هذه الأرقام لو كان يعرف البيئة التي يعمل فيها موظفو المعرفة. فقد أصبحت الشركة العامة الحديثة سجناً رهيباً بالنسبة لهم.
ما الذي قد يحل محلها؟
نموذج جديد
يبدو أن ملكية الأسهم الخاصة بشكل مباشر في الشركات هي المرشح البديهي للحلول محل الشركات العامة المتداول أسهمها في البورصة. فقد نما صافي قيمة أصول الأسهم الخاصة منذ عام 2002 بأكثر من سبعة أضعاف، أي ضعف قيمة الأسهم العامة. وكان هذا النمو مدفوعاً إلى حد كبير بصناديق التقاعد الرئيسية التي أصبحت أكبر المستثمرين في الأسهم الخاصة. وقد توقع مايكل جنسن نفسه نمو الأسهم الخاصة عام 1989 في مقالته الاستفزازية المنشورة في "هارفارد بزنس ريفيو" تحت عنوان "غروب شمس الشركة العامة" (Eclipse of the Public Corporation)، وقد أثبت الزمان أنه كان على حق.
لكن الأسهم الخاصة ليست بديلاً عن الشركة العامة لأنها مبنية على وجودها. حيث يتوقع مستثمرو الأسهم الخاصة تحقيق عائد بعد خمس إلى سبع سنوات، لذا يجب على صناديق الأسهم الخاصة بيع الشركات التي اشترتها خلال تلك الفترة. وكان ذلك يعني في الأعراف التقليدية إعادتها إلى الأسواق العامة، إما عن طريق طرحها للاكتتاب العام الأولي في البورصة أو بيعها لشركة عامة. لكن اتباع مثل هذه الطرق في التخارج (خاصة الاكتتابات الأولية) بات أكثر صعوبة في الآونة الأخيرة، وهناك اتجاه متنامٍ يتمثل في بيع صناديق الأسهم الخاصة لشركات صناديق أسهم خاصة أخرى. وهذا لا يلغي بالطبع العودة في النهاية إلى الأسواق العامة، فما هي إلا عملية يجري فيها تقاذف المسؤولية بين أطراف اللعبة.
وتعتبر قصة شركة "ديل" مثالاً حياً على ذلك. فقد حوّلها مؤسسها، مايكل ديل، وشركة الأسهم الخاصة "سيلفر ليك بارتنرز" (Silver Lake Partners) عام 2013 إلى شركة خاصة مقابل ما يقرب من 25 مليار دولار لأنهم استشعروا عجز "ديل" كشركة عامة عن تحويل نفسها من لاعب أساسي في تصنيع أجهزة الكمبيوتر الشخصية إلى مزود لخدمات المؤسسات. وكانت "ديل" بصفتها شركة خاصة قادرة على هندسة العملية التكتيكية للاستيلاء على شركة "إي إم سي" (EMC) التي تمتلك حصة ضخمة في مزود الحوسبة السحابية "في إم وير" (VMware). وهكذا أعادت "ديل" الشركة المحولة إلى السوق العامة بعد خمس سنوات بقيمة تقريبية للمؤسسة تبلغ 70 مليار دولار. وبات بإمكان مستثمري صناديق التقاعد الذين قاموا بتصفية الشركة مقابل 25 مليار دولار إعادة شرائها بمبلغ 70 مليار دولار، ولكن في غضون ذلك ذهب 45 مليار دولار إلى مستثمري القطاع الخاص، منها 28 مليار دولار ذهبت حسب بعض التقديرات لخزينة مايكل ديل نفسه.
ولو لم تكن الشركة العامة وأسواق رأس المال موجودة لتمكين صناديق الأسهم الخاصة من تحويل استثماراتها إلى سيولة نقدية، فما كانت لتتم صفقة كهذه، ولما وُجدت صناديق الأسهم الخاصة. وتستبعد هذه الآلية كل الأسهم الخاصة باعتبارها النموذج الجديد التالي.
لفهم ما قد يحل محل نموذج الشركة العامة، دعونا نفكر فيما ينطوي عليه تلبية احتياجات موظفي المعرفة ومستثمري مدخرات التقاعد، مبدعي القيمة المستدامة وأهم المستفيدين منها. إذ يجب أن يتغلب أي نموذج جديد على مشكلة الحوكمة الأساسية للشركات المملوكة لعامة الجمهور من أجل تلبية احتياجاتهم. وتتمثل هذه المشكلة في تعارض حوافز الرؤساء التنفيذيين مع المصالح طويلة الأجل لأصحاب المصلحة هؤلاء. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يقلل النموذج من قدرة صناديق التحوط الناشطة على جني المكاسب على حسابهم.
أعتقد أن الوريث الأنسب لهذا النموذج هو ما أسميه المؤسسة طويلة الأجل (LTE)، وهي عبارة عن شركة خاصة تقتصر ملكيتها على أصحاب المصلحة الأكثر اهتماماً بالقيمة طويلة الأجل ممثلين في مستثمري مدخرات التقاعد والموظفين. سيعمل هذا النموذج على النحو التالي: دخول خطة ملكية أسهم الموظفين (ESOP)، سواء كانت موجودة أو تم إنشاؤها خصيصاً لهذه المعاملة، في شراكة مع صندوق تقاعد واحد أو عدة صناديق تقاعد لتكوين الشركة وجعلها خاصة، بحيث تركز الحوكمة على الأداء الحقيقي طويل الأجل بدلاً من تقلبات أسعار الأسهم على المدى القصير لأنه لن يكون هناك سعر سهم. قد تجد فئات أخرى من المستثمرين على المدى البعيد النموذج جذاباً أيضاً. ويمكن لشركات مثل "بلاك روك" و"فيديليتي" و"ستيت ستريت"، على سبيل المثال، إنشاء أدوات يمكن من خلالها لمستثمري حسابات التقاعد الفردية (IRA) الاستثمار جنباً إلى جنب مع خطة ملكية أسهم الموظفين.
والآن، لنلق نظرة على ما سيجنيه أصحاب المصلحة الرئيسيون من هذا النموذج.
مستثمرو مدخرات التقاعد. لا يعتبر النموذج مألوفاً تماماً لهؤلاء المستثمرين. وقد تم خصخصة عدد من كبرى شركات التطوير العقاري الكندية من قبل اثنين من أكبر ثلاثة صناديق تقاعد في كندا (والتي تعد أيضاً من بين أفضل 20 صندوقاً للتقاعد في العالم). حيث أقدمت مؤسسة "سي دي بي كيو" (CDPQ) التي تتخذ من كيبيك مقراً لها على خصخصة شركة "إيفانوي" (Ivanhoé) عام 1990 وشركة "كامبريدج شوبنغ سنترز" (Cambridge Shopping Centres) عام 2000، ودمجهما لإنشاء شركة عملاقة خاصة بالكامل في القطاع العقاري. كما استحوذ صندوق "خطة معاشات المعلمين في أونتاريو" (OTPP) على شركة أخرى من كبرى شركات التطوير العقاري، وهي شركة "كاديلاك فيرفيو" (Cadillac Fairview)، وحولها إلى شركة أسهم خاصة عام 2000. لم تكن تلك الصفقات صفقات تقليدية في مجال شركات الأسهم الخاصة. إذ لم يكن يسعى المستثمرون إلى تغيير اتجاه الشركات وإعادة طرحها للاكتتاب العام مرة أخرى بعد خمس سنوات، بل كانوا يبحثون عن عوائد ثابتة على المدى البعيد.
لكن لكي نكون مُنصفين، فقد جرت عمليات الاستحواذ هذه في قطاع واحد وهو القطاع العقاري الذي تدخل فيه صناديق التقاعد كمشترٍ رئيسي للأصول الفردية، ولم تقرب الشركات الاستهلاكية أو الصناعية التقليدية. ويجب أن تطمئن صناديق التقاعد وغيرها من المؤسسات الاستثمارية في مدخرات التقاعد إلى امتلاك الشركات العاملة في مجموعة متنوعة من القطاعات لكي تصبح المؤسسة طويلة الأجل هي نموذج الملكية السائد. ويبدو أن هذا في سبيله إلى الحدوث، فقد استحوذ أكبر صناديق التقاعد الكندية عام 2019، "سي بي بي آي بي" (CPPIB)، على شركة "باترن إنيرجي" (Pattern Energy) للطاقة البديلة وحولها إلى شركة أسهم خاصة بمبلغ 6.1 مليار دولار أميركي.
يستلهم هذا النهج فِكْر وارن بافيت المستثمر الأشهر في العالم الذي اشتهر بامتلاكه حصصاً ضخمة (بأكثر من 15 مليار دولار) في شركات عامة مثل "آبل" و"بنك أوف أميركا" و"كوكاكولا" و"أميكس" و"ويلز فارغو". لكن هذه الاستثمارات تشكل أقل من نصف القيمة السوقية لشركة "بيركشاير هاثاواي" البالغة 313 مليار دولار (حتى كتابة هذه السطور). أما النسبة الأكبر من قيمتها فتُعزى إلى ملكيتها لشركات مخصخصة بالكامل مثل "جيكو" (GEICO) و"بيرلنغتون نورذرن سانتا في" (Burlington Northern Santa Fe) للسكك الحديدة و"ديري كوين" (ديري كوين) و"فروت أوف ذا لووم" (Fruit of the Loom) و"لوبريزول" (Lubrizol) و"دوراسيل" (Duracell). وربما كانت الحصة الخاصة الأكثر قيمة هي شركة "جيكو" (تبلغ قيمتها حوالي 50 مليار دولار)، ولكن ربما كانت الحصة الأكثر إثارة للاهتمام هي شركة "بيرلنغتون نورذرن سانتا في"، الشركة الأم لشركة "بيرلنغتون نورذرن سانتا في ريل واي" (BNSF Railway)، أكبر مشغل لخطوط السكك الحديدية في أميركا. فقد استحوذت "بيركشاير هاثاواي" عام 2009 على 77.4% من أسهم "بيرلنغتون نورذرن سانتا في" التي لم تكن تمتلكها بعد مقابل 26 مليار دولار، ما جعل الحيازة بقيمة 44 مليار دولار مع الديون المكتسبة. كانت النية المعلنة هي خصخصة إدارة السكك الحديدية إلى الأبد.
ومن المنطقي أن يسبق بافيت الآخرين في اكتشاف الأساليب المثمرة. لقد بنى مسيرته المهنية على هذه الحنكة. وهو يحبّذ الملكية المركزة والخالصة، ويعمل نحو أفق طويل الأجل، ويفضل تحفيز الرؤساء التنفيذيين من خلال تعزيز القيمة، وليس تحركات أسعار الأسهم، ويعمل على حمايتهم من صناديق التحوط النشطة ومحللي الأسهم وتجارها، أي الجهات الفاعلة في السوق التي تدفع باتجاه المكتسبات قصيرة المدى.
موظفو المعرفة. يتمنى كل موظف أن يعمل لدى شركة مملوكة بالكامل لشركة "بيركشاير هاثاواي" لما لها من مزايا جذابة. فهو يعرف أنه يعمل لدى مساهمين يصبرون على أسهمهم لفترات طويلة للغاية. لكن لا يكفي أن تعرف مساهميك فحسب، لكن يجب في الاقتصاد الحديث أن يمتلك الموظفون المهمون أنفسهم حصة طويلة الأجل في الشركة. وكما رأينا من قبل، فإن خيارات الأسهم لا توفر حافزاً للمشاركة على المدى البعيد. ومن هنا تأتي أهمية خطط ملكية أسهم الموظفين.
وتقدم الشركات الكبيرة المملوكة بالكامل للمشاركين في خطة ملكية أسهم الموظفين أداءً جيداً بشكل ملحوظ. خذ على سبيل المثال سلسلة "بابليكس سوبر ماركتس" (Publix Super Markets) المملوكة بنسبة 100% لخطة ملكية أسهم الموظفين. حيث تحتل "بابليكس" المرتبة 87 في قائمة الشركات المدرجة على قوائم "فورتشن 500" بإيرادات تبلغ 36 مليار دولار، كما تحتل المرتبة 29 بين أكبر أصحاب العمل في القطاع الخاص من حيث عدد الموظفين في أميركا. ولعل الأمر الأكثر إثارة للإعجاب أن المتسوقين يصنفونها على أنها سلسلة السوبر ماركت الأولى في الولايات المتحدة. وتشمل قائمة أكبر المتاجر الأخرى التي لديها خطط لملكية أسهم الموظفين كلاً من سلسلة "وينكو فودز" (WinCo Foods) و"بروكشاير براذرز" (Brookshire Brothers) و"ميتكاش" (Metcash)، الشركة الأم لشركة "إيغا" (IGA). وبعيداً عن قطاع التجزئة، لدينا شركة "دبليو إل غور آند أسوشيتس" (WL Gore & Associates) المعروفة بابتكار نسيج "غور-تكس" (GoreTex) الاصطناعي المقاوم للماء، وشركة "غرايبار" (Graybar) أحد أكبر موزعي المنتجات الكهربائية والاتصالات وشبكات البيانات، وشركة "جينسلير" المعمارية الأكثر ربحاً في الولايات المتحدة.
توحي هذه القائمة بأن الكثير من كبرى الشركات التي تطبق برامج خطة ملكية أسهم الموظفين إما أنها تعمل في قطاع التجزئة، حيث يعتبر التفاعل بين العملاء وموظفي الخطوط الأمامية أمراً بالغ الأهمية لتحقيق النجاح، أو هي مؤسسات تعتمد على عدد كبير من المهنيين، مثل شركات الهندسة المعمارية والهندسة والاستشارات. وعادة ما تكون مبتكرة وذات قدرة تنافسية عالية.
يشار في هذا السياق إلى أن تطبيق برامج خطة ملكية أسهم الموظفين على نطاق واسع لا يستلزم استحداث لوائح تنظيمية جديدة على الإطلاق، وإذا دعت الضرورة فيمكن إجراء تعديلات بسيطة على اللوائح القديمة. إذ توجد بالفعل بُنى تحتية راسخة لحماية مصالح الموظفين المسجلين فيها. (لا تعتبر خطة ملكية أسهم الموظفين بديلاً للخط تقاعد الموظفين والتي ينبغي ألا يتم استثمارها بالكامل أو حتى استثمار جزء كبير منها في أسهم الشركة. ويمكن اعتبارها بالأحرى طريقة لمكافأة الموظفين وتحفيزهم لخلق القيمة). ويحين تاريخ استحقاق كل الأسهم بعد مرور ست سنوات من إنشاء خطط ملكية أسهم الموظفين، ولا بد من وجود طرف ثالث يحدد القيمة العادلة للأسهم مرة واحدة في السنة بحيث يتم شراء أسهم الموظفين من خلال الخطة بسعر عادل عندما يغادرون، ما يمكنهم من الاستفادة من تقدير رأس المال بقدر استفادة موظفي المؤسسة العامة. ويستفيد الموظفون المتقاعدون بالطريقة نفسها ويتمتعون بتدابير ضريبية ملائمة لتحويل العائدات إلى حسابات التقاعد الخاصة بهم.
من المدهش أن خطط ملكية أسهم الموظفين لا تُستخدم على نطاق واسع، ولكن من الصعب استبدال النماذج السائدة. إذ تعتبر الشركات المملوكة لعامة الجمهور هي الخيار الافتراضي، أو بمعنى أصح الخيار الآمن. ويمكن للمصرفيين والمحامين والمحاسبين تطبيق هذا النموذج بكل سهولة ويسر، بينما يتخصص القليلون في إنشاء خطط ملكية أسهم الموظفين. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد شخص واحد أو مجموعة محدودة لديها حافز كبير لتنفيذ الحلول المرتبطة بخطة ملكية أسهم الموظفين. وعندما تتحول شركة أسهم خاصة إلى شركة عامة، فعادة ما يذهب معظم ثمارها إلى جيوب قلة قليلة من الأفراد ممثلين في المجموعة المؤسِسة وأصحاب رؤوس الأموال الملائكية أو المستثمرين أصحاب رأس المال المغامر. وستكون الفرصة مهيأة أمام كل موظف للاستفادة من خطة ملكية أسهم الموظفين بمقدار لا بأس به وإن كان متواضعاً. وإذا شرعت مجموعة من الموظفين في السير في هذا الاتجاه، فسيكون عليها شرح أسباب تجربتها لشيء مختلف دون أن تكون هناك مجموعة من المستشارين على أهبة الاستعداد للمساعدة. إلا أن الموظفين والمساهمين والمجتمع سيكونون أفضل حالاً إذا تم استخدام خطط ملكية أسهم الموظفين على نطاق أوسع.
يمكن القول باختصار إن النموذج الذي أقترحه سيلبي الاحتياجات الأساسية لكل من مستثمري مدخرات التقاعد وموظفي المعرفة دون إهمال أي من المزايا التي يوفرها نموذج الشركة العامة. ويمكن للمؤسسات طويلة الأجل أن تسهم في توجيه مدخرات التقاعد نحو الاستثمارات التي يُوثق في قدرتها على تحقيق عوائد عالية بعد 20 أو 30 عاماً. كما أنها تحفز العاملين في القطاعات الحيوية كثيفة الاعتماد على المعرفة لخلق القيمة اللازمة لتوليد هذه العوائد.
يشير مؤيدو النموذج الحالي إلى أن الأسواق العامة لطالما كانت آليات فاعلة للغاية لتجميع المعلومات حول القيمة ومعالجتها وتلقي الأموال من الاستثمارات وإخراجها منها، لذا تعتبر الشركات المساهمة العامة من وجهة نظرهم نموذجاً ناجحاً.
لكن لم يعد من الواضح ما إن كان هذا النموذج هو الطريقة المثلى لتحديد القيمة العادلة، ذلك أن هيمنة العوامل قصيرة الأجل في عملية صناعة القرار في الشركات وأنشطة المستثمرين على المدى المنظور تجعل أسعار السوق المقدرة مؤشراً أقل موثوقية للدلالة على القيمة مقارنة بما كانت عليه الأحوال من قبل. كما أن توافر المعلومات على نحو واسع عبر الإنترنت وازدياد تعقيد النمذجة الرسمية أديا في الوقت نفسه إلى تحسين جودة تقييمات الأعمال المستقلة عن السوق بشكل كبير.
لن تنقرض الشركات المساهمة العامة وأسواق رأس المال. إذ لا يتبنى كل المستثمرين منظوراً طويل الأجل، وقد يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، القيام بذلك في الكثير من القطاعات. لكن سوق الأسهم تخرّب بشكل متزايد عملية خلق قيمة طويلة الأجل بدلاً من دعمها، وهو ما يقلل من خيارات الاستثمار المتاحة أمام أصحاب مدخرات التقاعد ويثبط عزيمة مَنْ يريدون خلق القيمة التي يحتاجها هؤلاء المدخرون. أما النموذج الذي أقترحه هنا فسيخدم مصالح أصحاب المصلحة الأساسيين بشكل أفضل.