ملخص: ليس من المستغرب أن تتعطل محاولات تنفيذ الاستراتيجيات الرقمية بسبب تأثرها بعوامل، مثل ارتفاع التكلفة وعدم توافر العمالة الماهرة. وعلى الرغم من ذلك، كان أكثر ما يثير الدهشة هو الجمود الملحوظ فيما يخص تنفيذ الحلول التكنولوجية (خاصة في الأوقات التي تستلزم رقمنة الأعمال للحفاظ على المرونة)، وهو ما يمكن تفسيره من خلال العوامل النفسية التي تقف عائقاً في طريق قادة الشركات.
حيث يتأثر نجاح الاستراتيجيات الرقمية بمعتقدات أصحاب الشركات ومسؤوليها المكلفين بقيادة هذه الاستراتيجيات وتصوراتهم حيال المخاطر المحتملة أكثر من تأثره بأي شيء آخر. وقد يكون اتخاذ قرار باستخدام الأدوات الرقمية أو البنية التحتية الرقمية أمراً عسيراً بسبب الجهل بتداعياتها، ولكن التخلي عن هذه العملية قد يكون مساراً أكثر خطورة. ومن خلال فهم المعوقات النفسية التي تقف في طريق اتخاذ قرار حاسم بتطبيق الاستراتيجيات الرقمية، يمكن لأصحاب المصلحة في القطاع المعني تشجيع اعتماد الحلول التكنولوجية في كلٍّ من الشركات الصغيرة والمتوسطة، بل ويجب عليهم فعل ذلك، وبهذا سيعززون العمود الفقري للاقتصاد العالمي.
تعتبر صناعة القرار البشري ظاهرة معقدة. وقد أُجريت دراسات كثيرة حول هذا الموضوع، سلَّطت الضوء على المقاييس التي تحدّد معالم عملياتنا الذهنية، على الرغم من عجزها عن تفسيرها بشكل كامل. وغالباً ما تجد هذه الدراسات أنه قد يجري توجيهنا نحو نتيجة نعلم أنها تتعارض مع مصالحنا العليا. وتلك هي الحال في مجال الأعمال أيضاً.
فمن السهل النظر إلى عملية صناعة القرار في الشركة باعتبارها شيئاً يخضع للدراسات المتأنية، بمعنى أنها عملية قادرة على التوصل إلى قرار حاسم يخضع للبيانات وأفضل الممارسات. لكن الشركات يديرها البشر في نهاية المطاف. ويتوقف التقدم التجاري على الاختيارات التي نتخذها، إما بمفردنا أو كمجموعة.
ونتيجة لذلك، فقد يؤثر عجز العقل البشري عن التنبؤ بمجريات الأحداث على عدد من القرارات الماسة بالعمل. ويتضح هذا بصورة أكثر جلاءً عند معالجة نتائج القرارات المتعلقة بالحلول التكنولوجية، وهي العملية التي تستفز كل أبعادنا النفسية. ويرجع هذا في الأساس إلى أن أغلبية الشركات، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، لا تزال تنظر إلى التكنولوجيا الحديثة باعتبارها قفزة كبيرة إلى المجهول.
وعندما نواجه قراراً صعباً، فإننا نحتاج في بعض الأحيان إلى محفز لإجبارنا على اتخاذ القرار. على سبيل المثال: أدت جائحة "كوفيد-19" إلى تسريع اعتماد الحلول التكنولوجية في الكثير من الشركات التي قررت اتخاذ هذه القفزة واعتمدت الأدوات الرقمية الحديثة للحفاظ على بقائها في السوق. وفي حين أن أغلبية الشركات الصغيرة والمتوسطة تنشئ مواقع إلكترونية أو منصات للتجارة الإلكترونية من أجل تلبية الطلب على منتجاتها عبر الإنترنت، فإن جزءاً كبيراً منها كان أقل استعداداً لاتخاذ هذه الخطوة.
وقد تعاونتُ مؤخراً مع شركة "زيرو" (Xero) لإجراء دراسة علمية سلوكية لسبر أغوار المعوقات النفسية التي تقف في طريق اعتماد التكنولوجيا الرقمية. وتوصّلت نتائج هذه الدراسة إلى أن محاولات التغيير لا تزال تلقى الكثير من المقاومة وأن الشك في التكنولوجيا الحديثة يحول دون انتشارها على نطاق واسع، على الرغم من فوائدها الواضحة للجميع.
العوامل المحفزة لعدم المبالاة الرقمية
زعمت 6 من أصل 10 شركات أنها واثقة في قدرتها على اختيار التوقيت المناسب لاعتماد التكنولوجيا الحديثة، وعلى الرغم من ذلك فقد كان هناك أيضاً شعور واضح بعدم المبالاة، حيث اعتبرت 3 فقط من أصل 10 شركات أن أحوالها ستزداد سوءاً إذا تم تأجيل قرار الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية.
ليس من المستغرب أن تتعطل محاولات تنفيذ الاستراتيجيات الرقمية بسبب تأثرها بعوامل، مثل ارتفاع التكلفة وعدم توافر العمالة الماهرة. وعلى الرغم من ذلك، كان أكثر ما يثير الدهشة هو الجمود الملحوظ فيما يخص تنفيذ الحلول التكنولوجية (خاصة في الأوقات التي تستلزم رقمنة الأعمال للحفاظ على المرونة)، وهو ما يمكن تفسيره من خلال العوامل النفسية التي تقف عائقاً في طريق قادة الشركات.
فهم مقاومة التغيير
بعد عامين شهدا اضطرابات واسعة، بدايةً من تفشي جائحة كورونا وانتهاءً بالاضطرابات السياسية، قد تعتقد أن الشركات المتوسطة معتادة على التغيير المستمر. فنظراً لحالة السيولة شبه المتواصلة، سيكون من العدل افتراض أن هذه الشركات قد تكون أكثر استعداداً لاعتماد عمليات أو أدوات جديدة من أجل العودة إلى المسار الصحيح والتكيف مع المتغيرات والازدهار في الاقتصاد الرقمي الآخذ في التوسُّع.
لكن لا يزال الكثير من الشركات يفضّل الحفاظ على الوضع الراهن. ووفقاً لدراسة شركة "زيرو"، لا يزال عدد كبير من الشركات يتصارع مع "عامل المتاعب"، وهو معوق سلوكي رئيسي يخلق أمامها صعوبات جمّة لإقناع نفسها بأن الاستثمار يستحق الجهد المبذول أو تجشُّم المخاطر المحتملة، خاصةً إذا لم تكن ميزانياتها مفتوحة.
لكن التغيير هو أحد ثوابت الحياة، إلى جانب الموت والضرائب. وعلى غرار هذين المثالين الآخرين، فهو شيء يخشاه كثير من البشر. وتشير النماذج النظرية إلى أن هذا يرجع إلى غياب قدرتنا على السيطرة وجهلنا بما ينتظرنا. لذا فإن المسألة تغدو في غاية البساطة: إننا نخاف المجهول، ولذلك فقد نتخذ قرارات سيئة.
ويعتبر الغموض ظاهرة شائعة في عالم الأعمال. وسواء كان الأمر يتعلق بأداة جديدة أو زميل جديد أو تحولات في السوق الأوسع، فمن الطبيعي أن تشعر بالخوف من التداعيات المرتقبة. لذا من المنطقي أن تكون النتائج المجهولة أكبر عائق أمام الفرد لاتخاذ إجراء ما، بغض النظر عن مقدار التغيير الذي يتعرّض له.
وقد يُعزى الجمود إلى التفكير القصير النظر في سياق تهيمن عليه تداعيات الجائحة. فعلى الرغم من كل شيء، من الصعب على الشركات الصغيرة والمتوسطة أن تتطلع إلى المستقبل، في حين أنها تحتاج إلى إدارة أعمالها يوماً بيوم وبحرص شديد.
وقد دعمت الدراسة مع شركة "زيرو" هذا الاتجاه، حيث وجدت أن 7 من كل 10 شركات صغيرة ومتوسطة لا تزال تركز على البقاء في السوق على المدى المنظور بدلاً من تركيزها على كيفية إدارة أعمالها بشكل أفضل. وعلى الرغم من ضرورة هذه العقلية في أوقات الأزمات، فإنها تؤدي إلى الحيلولة بينها وبين الاستثمار في مبادرات تدر عليها أرباحاً في المستقبل على المدى البعيد، مثل مبادرات التحول الرقمي.
تجنب المزالق الذهنية وغيرها من عيوب صناعة القرار
هناك العديد من العوامل النفسية، أو المزالق الذهنية، التي يقع فيها قادة الشركات عند اتخاذ القرارات الماسة بالاستراتيجية الرقمية. وتختلف هذه المزالق بحسب حجم المؤسسة.
ويعتبر "التفكير الإجماعي" أحد هذه المزالق ذات الأضرار الجسيمة. وقد تترسخ هذه الظاهرة عندما يظل فريق القيادة منكباً على تأمل الموقف، دون البحث عن رؤية ثاقبة من أي مكان آخر في الشركة. وغالباً ما تقع الفرق الأكثر تماسكاً ضحية لهذا المزلق بسبب عدم وجود مجال للخلاف أو الاختلاف في الرأي حول سبل فرض الأفكار الجديدة.
فإذا رأت مجموعة مختارة من الموظفين، ككبار القادة مثلاً، أنها ترتاح للوضع الراهن، فمن المرجح أن تظل كل قراراتها في حدود الوضع الآمن وتتجنب زعزعة الأوضاع المستقرة بأي شكل من الأشكال. حتى في المواقف التي تتطلب التغيير، من السهل إيجاد الراحة في الأمان الناشئ عن القدرة على التنبؤ.
ومن السهل أيضاً على الموظفين في الشركات الكبيرة تجربة مشاعر التخلص من الأفكار القديمة، خاصةً عندما يجري التغيير على قدم وساق. ويؤدي غياب عنصر الأمان النفسي بهذا الشكل إلى جعلهم أقل ثقة في أنفسهم للإفصاح عن رأيهم، وهو أمر لا يتم تضخيمه إلا في أثناء الأزمات عندما يميل الأفراد إلى اتباع النظم والأفكار سعياً وراء الاستقرار. ويشير هذا الأمر إلى وجود دلالات سلبية على الشركات التي تحتاج إلى متابعة التحول الرقمي، لأن أعظم دعاة هذا التحول قد يجدون أنفسهم عاجزين عن رفع صوتهم.
وبالنظر إلى كل ما سبق، فللمرء أن يفترض أن الشركات الأصغر حجماً ضمن فئة الشركات الصغيرة والمتوسطة ستجد سهولة أكبر في صناعة القرار بشكل أفضل وأسرع مقارنة بنظيرتها الأكبر حجماً، وذلك بسبب مرونة هيكلها التنظيمي وسهولة التواصل بين أطرافها المعنية. لكن عبء صناعة القرار في هذه المؤسسات قد يقع على فرد واحد فقط أو مجموعة صغيرة جداً من الموظفين، ما يجعل من السهل الوقوع ضحية للأخطاء المعرفية. على سبيل المثال: تعني "فكرة كل شيء أو لا شيء"، أن أصحاب الشركات الصغيرة قد ينظرون إلى الأمور من منظور أحادي؛ بمعنى أنهم يرون أي شيء إما جميلاً جداً أو سيئاً تماماً. وهذا يعني إمكانية النظر إلى تغيير الاختيار الأصلي باعتباره أمراً سلبياً.
وقد يلجأ مؤسسو الشركات الصغيرة والمتوسطة وقادتها أيضاً إلى التعميم أو المبالغة في الخوف منها أو معاناة التحيز التأكيدي، ما يعني أنها قد تبحث عن دليل يدعم التوقعات الموجودة سلفاً. ويرتبط هذا باستجابتنا للتغيير والمواقف العصيبة، عندما تؤدي "التصفية الذهنية" إلى تركيز انتباهنا على أنواع معينة من الأدلة. حيث تحجب قدرتنا على رؤية الأشياء بوضوح واستباق الأحداث بدلاً من تبني أسلوب رد الفعل أو حتى الوقوف مكتوفي الأيدي.
يحدث هذا في الشركات الصغيرة في الأساس نتيجة وجود دعم اجتماعي ضئيل جداً أو عدم وجوده على الإطلاق في مكان العمل. ويؤدي غياب وجهات نظر بديلة إلى صعوبة معرفة ما إن كانوا بصدد السقوط في هذه المزالق من عدمه. وهناك أيضاً خطر مواجهة مغالطة التكاليف الغارقة بالنسبة للشركات الناشئة التي تعمل بالتمويل الذاتي أو برأسمال شخصي كبير. فعندما يستثمر الأفراد قدراً كبيراً من المال في عمل تجاري، من الطبيعي أن يشعروا بالحرص عليه. ولا شك في أن الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي حاولت النمو أو الحفاظ على بقائها في السوق خلال الثمانية عشر شهراً الماضية قد استثمرت قدراً هائلاً من الوقت والمال والجهد، ولكن في بعض الأحيان قد يقودها ذلك إلى مسار غير صحي والمبالغة في الحرص بشكل غير منطقي.
ولأن مسؤوليها يشعرون بالمسؤولية عن الوقت والتكلفة التي لا يمكن استردادها فعلياً، فإنهم يواصلون اتخاذ قرارات أكثر خطورة. ويتجسّد هذا أحياناً في صورة إنفاق غير رشيد، ولكن دون فعل شيء آخر بدلاً من ذلك في أغلب الأحيان. إذ يكره الجميع اتخاذ قرارات قد يندم عليها في المستقبل، لذلك بمجرد الالتزام بشيء من الشائع أن تجد صنّاع القرار يتوقفون عن الاجتهاد ويتجاهلون كافة الخيارات الأخرى التي قد تكون أكثر فاعلية.
التغلب على المعوقات النفسية لشركتك
لا عجب في صعوبة تنفيذ التحول الرقمي بالشكل الصحيح في ظل وجود الكثير من العقبات التي تحول دون اتخاذ القرار الفاعل. بالإضافة إلى ذلك، فإن إقناع مسؤولي الميزانية بزيادة مخصَّصات اعتماد الحلول التكنولوجية ليس بالمهمة السهلة، لكنه ممكن. ولا تكفي التفسيرات المنطقية لإقناع قادة الشركات في بعض الأحيان. إذ يستغرق الإنسان وقتاً لإجراء التغيير، ولذلك يتطلب الأمر اتباع نهج بعيد المدى لتغيير عقليتهم وطريقة تفكيرهم.
ويمكن إقناعهم من خلال تطبيق مبادئ "نظرية الوكز". إذ يلعب الكثير من هذه التقنيات على وتر الجوانب الأساسية للبرمجة البشرية، مثل خوف الإنسان من الضياع. على سبيل المثال: قد تكون مقارنة التقدم التجاري أو الاستراتيجيات الرقمية مع المنافسين طريقة فاعلة لتسليط الضوء على الآثار السلبية للجمود. من المهم أيضاً توضيح أن الاستراتيجية التي تعتمد على التكنولوجيا هي القاعدة الجديدة في عالم الأعمال. وبدلاً من أن تسأل: "هل تريدون اعتماد التكنولوجيا؟"، يجب أن يكون السؤال كالتالي: "ما التكنولوجيا التي تريدون اعتمادها؟".
بخلاف ذلك، يمكننا تمهيد الأمر لأصحاب الشركات وقادتها من خلال إرسال رسائل تذكيرية لهم (ويمكن تصنيف الإعلانات ضمن هذه الفئة) أو مطالبتهم بتخيل سيناريو يتم فيه اعتماد التكنولوجيا أو عدم اعتمادها. وقد تكون مخاطبة الخيال بهذه الطريقة أسلوباً فاعلاً للغاية، ويمكن أن يشمل حثهم على التفكير في كيفية تأثير القرارات على أحبائهم أو زملائهم.
ويجب بالطبع تنفيذ التغيير على مستوى الشركة بالكامل دون تلاعب أو تحايل. وسواء كنت تمثل الحكومة أو مورِّداً تقنياً أو هيئة صناعية، فهناك واجب أخلاقي يجب أن يحكم الجهود المبذولة للتأثير في اعتماد التكنولوجيا.
وربما أثبتت الدراسة التي أُجريت بالتعاون مع شركة "زيرو"، التردد في تنفيذ التغيير الرقمي في الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، حيث وافقت 4 فقط من أصل 10 شركات على أن التكنولوجيا الجديدة ستفيدها بمجرد استخدامها. لكن هذا جزء من قصة نفسية أعمق.
حيث يتأثر نجاح الاستراتيجيات الرقمية بمعتقدات أصحاب الشركات ومسؤوليها المكلفين بقيادة هذه الاستراتيجيات وتصوراتهم حيال المخاطر المحتملة أكثر من تأثره بأي شيء آخر. وقد يكون اتخاذ قرار باستخدام الأدوات الرقمية أو البنية التحتية الرقمية أمراً عسيراً بسبب الجهل بتداعياتها، ولكن التخلي عن هذه العملية قد يكون مساراً أكثر خطورة. ومن خلال فهم المعوقات النفسية التي تقف في طريق اتخاذ قرار حاسم بتطبيق الاستراتيجيات الرقمية، يمكن لأصحاب المصلحة في القطاع المعني تشجيع اعتماد الحلول التكنولوجية في كلٍّ من الشركات الصغيرة والمتوسطة، بل ويجب عليهم فعل ذلك، وبهذا سيعززون العمود الفقري للاقتصاد العالمي.