إعادة بناء النظام الاقتصادي على أساس الوظائف الجيدة

6 دقائق
إعادة بناء النظام الاقتصادي

في الدول التي ضربتها جائحة "كوفيد-19"، لن تواجه الشركات التي تقدم خدمات مباشرة للمستهلكين الصعوبات على مدى شهرين أو ثلاثة أشهر فحسب، وإنما على مدى عامين أو ثلاثة أعوام. ومع بقاء الجميع خائفين من التقاط العدوى إلى أن يتاح اللقاح على نطاق واسع، سينخفض الطلب بدرجة كبيرة مع ارتفاع التكاليف بسبب التدابير المتبعة للحفاظ على سلامة الموظفين والعملاء.

ومن أجل زيادة المشكلة صعوبة، يعتمد كثير من هذه الشركات على نموذج "الوظائف السيئة" لموظفي الخطوط الأمامية الذين يتميزون برواتبهم القليلة وإنتاجيتهم المتدنية ومعدلاتهم العالية فيما يخص الدوران الوظيفي، وصعوبة تكيفهم مع احتياجات العملاء والتقنيات المتغيرة. لذا، أصبحنا اليوم بحاجة إلى نهج جديد للعمل أكثر من أي وقت مضى. يحتاج هؤلاء الموظفون إلى نظام "الوظائف الجيدة" الذي يجمع بين الاستثمار في الموظفين والخيارات التشغيلية في سبيل تعظيم دافعية الموظفين ومساهماتهم وإنتاجيتهم.

الوظائف السيئة تعني أداء سيئاً

وكما اتضح لنا على إثر النزاع حول المساعدات الفيدرالية المخصصة للجائحة في الولايات المتحدة، فإن العديد من شركات الخدمات تواجه مأزقاً، وحتى التي كان وضعها المالي يبدو جيداً. ويتمثل جزء كبير من هذا المأزق في التركيز على تخفيض تكاليف العمالة الذي أدى إلى تدني الأجور والمزايا، وعدم كفاية الموظفين، وتراجع الوظائف بدوام كامل إلى أقل عدد ممكن. في نظام "الوظائف السيئة" هذا، لا يحظى موظفو الخطوط الأمامية على التدريب الكافي، ولا تؤمن لهم كمية كافية من المعدات على الأغلب ولا يَلقون الاحترام الواجب، وهم غير قادرين على التركيز كما يجب على وظائفهم مع قلقهم بشأن سداد فواتيرهم الطبية أو إطعام أسرهم. لذا، فهم يغادرون فور العثور على وظيفة بأجر أعلى ولو بدولار واحد. لذا، بات مدراء الوحدات يصارعون وضعاً متأزماً بسبب ارتفاع الدوران الوظيفي والمشكلات التشغيلية، مع امتلاك وقت قليل جداً لتطوير الموظفين وإدارة أعمال الشركة بالفعل. يؤدي نظام الوظائف السيئة هذا إلى قصور في تقديم الخدمة للعملاء، (ويعرضهم للخطورة في بعض الحالات)، ما يؤدي إلى حرمان الشركة من تقديم عرض القيمة المقنع وإعاقة تكيفها مع احتياجات العملاء المتغيرة. وكل ذلك، إلى جانب الميزانية العمومية الضعيفة، ما أدى إلى إفلاس العديد من الشركات، ومنها "بوردرز" (Borders) و"تويز آر أص" (Toys “R” Us) و"سيرز" (Sears)، ومؤخراً "نيمان ماركوس" (Neiman Marcus) و"جيه كرو" (J. Crew) و"جيه سي بيني" (J.C. Penney).

أما بالنسبة لمتاجر التجزئة، فهي تواجه مخاطر إضافية في مرحلة ما بعد الجائحة، إذ أرغم الإغلاق العام الجميع على الانتقال إلى التسوق عبر الإنترنت. صحيح أن بعض الزبائن سيعودون للتسوق من المتاجر حالما يتاح لهم ذلك من جديد، لكن الكثيرين اكتسبوا عادات تسوق جديدة، وعندما تعود المتاجر لفتح أبوابها من جديد، ستضطر للتكيف بسرعة مع كثافة جديدة في التجارة الإلكترونية تترافق مع كثير من التحديات التشغيلية.

كما أنه من الضروري أن تقدم تجربة الزبائن في المتجر قيمة واضحة لا يحصل الزبائن عليها بالتسوق عبر الإنترنت، وتقديم هذه القيمة يحتاج إلى موظفين يتمتعون بالقدرة والدافعية يمكّنهم تصميم عملهم من خدمة الزبائن على نحو جيد. وكلما ازداد استثمار الشركة في الموظفين من خلال نظام الوظائف الجيدة، (أي منحهم أجوراً ومزايا أعلى وتدريباً أكثر وعدد ساعات أكبر وجدول أعمال منتظم، وتصميم عمل يضخم إنتاجية الموظف ومساهماته، وتوفير عدد كاف من الموظفين)، ازداد احتمال أن يقوم الموظفون بتعويض هذا الاستثمار من خلال تحقيق مبيعات أعلى ضمن المتاجر ونسبة أعلى من ولاء الزبائن وتحسين المنتجات والخدمات والعمليات. على الأرجح، فإن نظام الوظائف السيئة الذي كان يتخبط قبل انتشار الجائحة سيفشل في ظل هذه الضغوطات الجديدة.

لحظة مناسبة للتغيير من أجل إعادة بناء النظام الاقتصادي

لطالما كان انتشار نظام الوظائف السيئة مشكلة مكلفة (وقاتلة في بعض الأحيان)، لكن الجائحة تقدم فرصة نادرة لمعالجة هذه المشكلة. لماذا؟

لفترة وجيزة، كان الضوء مسلطاً على موظفي الخطوط الأمامية لأن كثيراً منهم خاطروا بتعرضهم للإصابة بالعدوى واستمروا بعملهم، وساهموا باستمرار العمل في أجزاء مهمة كثيرة من النظام الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، أدت تغطية الأخبار للإضرابات الجارية في معامل تعليب اللحوم ومتاجر "هوول فودز" (Whole Foods) و"أمازون" (Amazon) إلى زيادة وعي الزبائن بشأن ظروف العمل السيئة المنتشرة على نطاق واسع. لذا، قد يرى الزبائن اليوم أنه من غير المقبول أن يشتروا سلع شركات تسيء معاملة موظفيها، وخصوصاً إذا توفر منافسون يقدمون أسعاراً منخفضة مماثلة ولكنهم يقدمون وظائف جيدة في نفس الوقت.

سيثبت نظام الوظائف السيئة اليوم أنه قاتل للشركات الأكثر تضرراً بالأزمة إذا لم تتغير. فهي بحاجة إلى إعادة بناء النظام الاقتصادي عن طريق موظفي الخطوط الأمامية الذين يقاتلون في سبيلها من خلال العمل الدؤوب لخدمة كل زبون بأفضل طريقة ممكنة، وتحسين كل منتج وخدمة وعملية بأكبر قدر ممكن والعثور على طرق جديدة لجذب الزبائن. وستحتاج هذه الشركات إلى المرونة للتكيف مع كثير من الأمور التي ستتغير بطرق لا يمكننا توقعها.

لكن، الأمر الوحيد الذي يمكننا توقعه هو أن الزبائن الذين يعانون من صعوبات اقتصادية سيبحثون عن القيمة الجيدة أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما سيمنح الشركات التي تبدأ ببناء نظام وظائف جيدة ميزة تنافسية على غيرها. بعد الأزمة المالية عام 2008، قامت أكبر سلسلة لمتاجر البقالة في إسبانيا، الشركة صاحبة نظام الوظائف الجيدة النموذجي "ميركادونا" (Mercadona)، بتخفيض الأسعار لزبائنها الذين يعانون من ضغط كبير بنحو 10%، مع جني الأرباح واكتساب حصة سوقية كبيرة في نفس الوقت. وكان لموظفي الخطوط الأمامية الذين عملت المؤسسة على تمكينهم دور كبير في ذلك، إذ بذلوا جهداً كبيراً وقدموا معلومات مفيدة.

على الأرجح، ستسرّع الجائحة الهزة التي يتعرض لها قطاع التجزئة الأميركي. إذ تضم الولايات المتحدة 24.5 قدم مربع من مساحة متاجر التجزئة لكل مواطن، في مقابل 16.4 قدم مربع في كندا و4.5 قدم مربع لكل مواطن في أوروبا. هذا كثير جداً بكل تأكيد، وسيؤدي إلى إغلاق المتاجر التي تبقى دون المستوى المطلوب، أي التي لا تتمكن من تشجيع الزبائن على العودة إليها.

ستؤدي الجائحة على الأرجح إلى تسريع تبني تقنيات جديدة. مع أن تبني التقنيات الجديدة وتوسيعها والاستفادة منها يعتبر عادة وسيلة لتقليل عدد الموظفين، إلا أنه يتطلب قوة عاملة متمكنة ومتحمسة، حتى وإن كانت صغيرة الحجم.

لكن، هناك بديل، وهو نظام الوظائف الجيدة الذي أثبت نجاحه بالفعل. لطالما كانت هناك شركات ناجحة قبل الجائحة بزمن طويل، ومنها "كوستكو" و"كويك تريب"، عرفت أن موظفي الخطوط الأمامية مهمون وعاملتهم ودفعت أجورهم على هذا الأساس. وحتى متاجر التجزئة شديدة التنافسية ذات التكلفة المنخفضة تبنت نظام الوظائف الجيدة واستفادت منه للفوز في المنافسة.

ثمة جدوى مالية قوية للوظائف الجيدة، إذ إنها تخفض التكاليف عن طريق تخفيض الدوران الوظيفي والأخطاء التشغيلية والوقت المهدور. كما أنها تحسن الخدمة، التي بدورها تزيد المبيعات على المدى المنظور، وعلى المدى الطويل من خلال ولاء الزبائن. يمكن لهذه التحسينات تقديم أكثر من مجرد تعويض للاستثمارات الضخمة في صورة تقديم أجور ومزايا وتدريب وتنظيم أفضل. وبالفعل، في بحث جديد، أوضحت مع زميلي حضير رحمنداد أن الأجور الأعلى من المتوسط قد تشكل نهجاً لتعظيم الفائدة حتى في شركات الخدمات ذات التكلفة المنخفضة. بالإضافة إلى أن نظام الوظائف الجيدة يجعل الشركة تتمتع بمرونة وقدرة على التكيف أكبر، كما أثبتته لنا شركات مثل "كوستكو" و"ميركادونا" و"كويك تريب" و"آتش إي بي" (H-E-B). ستكون هذه الميزات مطلوبة أثناء الجائحة وبعدها.

يمكن تحقيق ذلك

ولكن هل يمكن توفير وظائف جيدة، أي زيادة نفقات العمل وتحسينه عندما تكون الشركات في وضع مالي هش والطلب أدنى من الطبيعي على مدى فترة من الزمن؟ نعم، هذا ممكن.

في الحقيقة، يمكن لفترة مطولة من الطلب المتدني أن تزيد من سهولة إجراء تغييرات تشغيلية والتعامل معها مع نسبة أقلّ من المخاطر. كما أن الفترة التي تشهد طلباً متدنياً تشهد أيضاً مستوى قليلاً من ضغط الأداء. خذ "أمازون" على سبيل المثال، فقد أعلنت للتو أنها لن تجني أرباحاً في الربع السنوي التالي. وقد تكون هذه هي الظروف الأنسب التي تمكّن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة من إجراء انتقال لن يعزز الإيرادات في الربع السنوي أو الربعين التاليين وتوضيح السبب في ذلك.

فمن الطبيعي كما هو الحال في معظم جهود إعادة بناء النظام الاقتصادي أن يستغرق تطبيق نظام الوظائف الجيدة بعض الوقت كي يثمر فوائده. ولكن تبين رحلة الوظائف الجيدة التي مرت بها شركة "سامز كلوب" (Sam’s Club) مؤخراً أن التسلسل الذكي للتغييرات التي يتم إجراؤها يسمح للشركة بإجراء استثمارات هائلة في الأجور من دون رفع الأسعار أو تخفيض الأرباح. فقد رفعت شركة "سامز كلوب" أجور آلاف الموظفين من قرابة 15 دولاراً إلى قرابة 22 دولاراً في الساعة. وفي نفس الوقت، بسطت الشركة عملياتها عن طريق تخفيض تنوع المنتجات بنسبة تصل إلى 25% وإعادة تصميم إجراءات العمل من أجل زيادة إنتاجية العمال ورضا الزبائن. وهذا ما جعل الاستثمار في الأجور الأعلى ممكناً بالنسبة لشركة تجارة تجزئة ذات هوامش أرباح ضيقة أساساً. كما تمكنت شركة "مد باي" (Mud Bay)، وهي شركة تجزئة إقليمية مخصصة للحيوانات الأليفة، من رفع أجور الموظفين بنسبة 30% وتحسين المزايا الممنوحة لهم بدرجة كبيرة مع العمل بهامش ربح أدنى من 2% في نفس الوقت.

في الختام، عندما تكون الثقة بالشركات والمؤسسات ضعيفة، وعندما توجه انتقادات كثيرة للفجوة ما بين أجور المسؤولين التنفيذيين وأجور العمال، يكون قد حان الوقت ليستجمع القادة شجاعتهم والتزامهم من أجل إعادة بناء النظام الاقتصادي وإعادة بناء شركاتهم بالوظائف الجيدة. فنحن ندرك الآن أن لديهم موظفين عظماء بالفعل.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي