الأتمتة لا تخلق فقط وظائف جديدة أو تدمر الوظائف الموجودة، بل إنها تحوّلها جذرياً

7 دقائق
وظائف جديدة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: غزت الأتمتة كافة المجالات هذه الأيام. وعلى الرغم من أن خبراء الاقتصاد غالباً ما ينظرون إلى الآثار المترتبة على الأتمتة من زاوية قدرتها إما على خلق وظائف جديدة أو تدمير الوظائف القائمة، فإنهم يغفلون قدرتها على إحداث تغيير جذري في الوظائف والأجور المدفوعة للعاملين الذين يؤدونها. وفي حين أن الأتمتة قد تؤثر أحياناً في خلق فرص عمل جديدة ذات أجور أعلى، فإنها كثيراً ما تسهم أيضاً في خفض الأجور. قد يبدو هذا بالنسبة للشركات التي تفكر في الأتمتة بمثابة ميزة إيجابية من منطلق أن الوفر في الأجور وتكاليف العمالة سيؤدي إلى زيادة هوامش الأرباح. ولكن هناك أيضاً جوانب سلبية محتملة لأن الشركات قد تجد نفسها في ورطة عندما تتعرض الأنظمة المؤتمتة لأي خلل. ولذلك يجب على الشركات أن تسأل نفسها 3 أسئلة عند اتخاذ قرار الأتمتة: 1) ما حدود التكنولوجيا؟ 2) كيف تؤثر هذه الحدود في العمليات التشغيلية؟ 3) كيف تؤثر تكلفة الإشراف على التكنولوجيا في عرض القيمة؟

 

أدت جائحة “كوفيد-19” إلى تسريع اعتماد التقنيات التكنولوجية المتطورة. وتعمل الأتمتة بشكل أساسي على إحداث تغيير جذري في كافة جوانب الحياة اليومية، ولم تكتفِ بالمساس بها بصورة شكلية، بدايةً من تسديد المدفوعات دون تلامس، مروراً بلحام المعادن باستخدام الطائرات المسيرة (الدرونز)، وصولاً إلى روبوتات إعداد السلطات حسب الطلب (تشاو بوتس). وقد يرى المستهلكون أن هذا يصب في مصلحتهم، لأن التخلص من العيوب البشرية من أجل تكنولوجيا الخوارزميات (والآلات) الخالية من العيوب يعني الحصول على خدمة أفضل وأرخص وأسرع.

ولكن ما الذي ينتظر العاملين الذين دأبوا على تقديم هذه الخدمات ذات يوم؟ هل يمكنهم أيضاً الاستفادة من التقدم التكنولوجي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟

غالباً ما يُنظر إلى تأثير التكنولوجيا على سوق العمل من زاوية خلق وظائف جديدة أو تدمير الوظائف القائمة. ويتعامل معظم خبراء الاقتصاد مع التكنولوجيا باعتبارها إما أداة تسهم في تشريد العاملين أو إعادة تسكينهم في وظائف جديدة . وإذا كانت التكنولوجيا تتسبب في تشريد العاملين، فإن هذا يعني فقدان الوظائف. أما إذا أثرت التكنولوجيا في استحداث وظائف جديدة (أو إعادة تسكينها)، فإن هذا يعني خلق فرص عمل. وفي ظل هذا الانقسام، فإن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو ما إذا كانت التكنولوجيا تخلق وظائف جديدة أكثر مما تدمر الوظائف القائمة. يقدِّر “المنتدى الاقتصادي العالمي” أن الوظائف الجديدة التي ستحدثها التكنولوجيا بحلول عام 2025 ستفوق الوظائف التي ستدمرها بفارق لا يقل عن 12 مليون وظيفة، وهو ما يعتبر مؤشراً إيجابياً على أن الأتمتة سوف تفيد المجتمع على المدى البعيد.

ويحرص المدافعون عن التكنولوجيا على الترويج لفكرة أن التكنولوجيا تملك القدرة على توفير وظائف جديدة. ولك أن تنظر مثلاً إلى شركة “وايمو” (Waymo) الناشئة المدعومة من “جوجل” لتطوير سيارات الأجرة من دون سائق. فقد أصبحت سياراتها الميني فان البيضاء المجهزة بأجهزة الاستشعار مشهداً مألوفاً في السنوات الأخيرة في بعض الضواحي الأميركية. بيد أن سير المركبات من دون سائق يثير بعض المخاوف بشأن إمكانية تسببه في فقدان الوظائف، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما مصير سائقي سيارات الأجرة (سائقي “أوبر” و”ليفت” خاصة)؟ فماذا كان رد شركة “وايمو”؟ أفادت الشركة بأنهم يستطيعون العمل في الوظائف الجديدة التي سيتم استحداثها بواسطة تكنولوجيا القيادة الذاتية، مثل العمل فنيين في أساطيل المركبات ذاتية القيادة وإدارة خدمات دعم الركاب أو العمل مهندسي برمجيات. وهو ما أشار إليه أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة “وايمو”، قائلاً: “يمكن اعتبارنا شركة تسهم بإيجابية في خلق فرص العمل”.

ومع ذلك، فإن الأمر لا يقتصر على خلق وظائف جديدة، فهناك مسألة أخرى لا تقل أهمية، ألا وهي مقدار ما يمكن أن يجنيه العاملون من شغل هذه الوظائف. هل سترتفع أجورهم أو ستنخفض بسبب التقدم التكنولوجي؟

يمكن أن تسهم الروبوتات في رفع الأجور

تفترض النظرية الاقتصادية التقليدية أن الأجور تتحدد بناءً على العرض والطلب. وعندما تتطلب الوظائف مهارات تخصصية، فإن الأجور سترتفع لأن الأغلبية الكاسحة من الناس لن تستطيع تلبية الطلب على هذه المهارات. كما سترتفع الأجور أيضاً عندما تكون هناك ندرة في العمالة، بغض النظر عن المهارة المطلوبة، لأن هناك عدداً قليلاً من الأشخاص المتاحين لشغل هذه الوظائف. وهذا يفسر أسباب حصول الطيارين على أجور أعلى من السباكين، وحصول الكيميائيين على أجور أعلى من الصرافين. إذ يتطلب العمل في مجال الطيران مهارات أكثر تخصصاً من العمل في السباكة، أما الكيميائيون فهم أقل وفرة من الصرافين (جزئياً بسبب تكاليف التعليم الباهظة).

وقد ألمح البحث الذي أجراه الراحل آلان كروجر إلى قدرة الأتمتة على رفع الأجور. فقد وجد كروجر أن العاملين البارعين في استخدام الكمبيوتر؛ أي: الذين واكبوا تطور تكنولوجيا الأتمتة، يحصلون على أجور أعلى بنسبة 10% إلى 15% مقارنة بنظرائهم الأميين في مجال الكمبيوتر. ويرى المؤرخ الاقتصادي، جيمس بيسن، أن الأجور ارتفعت بمقدار 10 أضعاف على مدى القرنين الماضيين بسبب التقدم التكنولوجي. ويعزو بيسن نمو الأجور إلى ضعف مستوى الكثير من العاملين في التكنولوجيا الجديدة. وهذه قصة مشجعة، لكنها قصة غير مكتملة بكل أسف.

فقد تسهم الروبوتات في رفع الأجور بنسبة كبيرة، لكنها قد تتسبب في خفضها أيضاً. وقد لاحظ دارون عجم أوغلو وباسكوال ريستريبو مؤخراً أن العاملين الذين تم فصلهم من وظائفهم بسبب الأتمتة غالباً ما يضطرون إلى التنافس مع العاملين الآخرين على أي وظائف متبقية. على سبيل المثال: قد يتم الاستغناء عن العاملين في الوظائف المكتبية بسبب أتمتة وظائفهم، فيضطرون إلى البحث عن عمل في قطاعات لم تتأثر بالأتمتة، كالعمل في قطاع التجزئة، مثلاً. ويسبب دخولهم إلى قطاع التجزئة انخفاض الأجور في هذا القطاع نظراً للتنافس الشرس على فرص العمل بين هؤلاء العاملين المفصولين مع أقرانهم العاملين في قطاع التجزئة.

ولكن حتى هذه النتائج لا تعكس تأثير الأتمتة على الأجور بالكامل. ويعطينا قطاع النقل الذي عكفت على دراسته أنا وزملائي مثالاً حياً على إمكانية تسبب التكنولوجيا في خفض الأجور بطريقة أخرى. إذ كان الطيارون يتقاضون راتباً لا يقل عن 2,000 دولار سنوياً (وهو ما يساوي 30,000 دولار بأسعار اليوم) خلال الفترة التي شهدت ظهور الطيران التجاري. وكان الطيارون القادرون على الطيران ليلاً يتقاضون ما لا يقل عن 2,400 دولار أو 2,800 دولار سنوياً. وما السبب في ذلك؟ يرجع ذلك إلى أن الطيران ليلاً كان يعتبر أكثر خطورة. فقد كان الطيران بعد الغسق يتطلب في ذلك الحين مهارات خاصة وشجاعة نادرة، وهي صفات لم تكن متوافرة بكثرة. ولم يكن بوسع الشركات إلا أن تستجيب لهذه المطالب ودفع رواتب باهظة للطيارين الذين يتمتعون بهذه الصفات.

لكن مع تطور التكنولوجيا، أصبحت أنظمة التحكم في الطيران أكثر يسراً، وغدت محركات الطائرات أكثر موثوقية، وباتت شاشات قمرة القيادة أكثر دقة، وبالتالي تضاءلت المخاطر المرتبطة بالطيران الليلي. وأدى انخفاض المخاطر إلى انتفاء الحاجة إلى المهارات الخاصة والشجاعة النادرة للتعامل مع هذه المخاطر. وماذا كانت النتيجة؟ قلت الزيادات في الأجور المرتبطة بامتلاك مهارات خاصة تدريجياً، حتى جاء اليوم الذي رأينا فيه الطيارين الذين يسافرون ليلاً لا يتقاضون أجراً أعلى من أولئك الذين يسافرون خلال النهار، كما أنهم لا يحصلون على زيادة في الأجر نظير الطيران فوق التضاريس الوعِرَة (مثل الجبال)، في حين أن الطيارين كانوا يتذرعون في السابق بأسباب كهذه أيضاً للحصول على أجور إضافية لأنهم كانوا يعتبرونها أكثر خطورة (وبالتالي تتطلب مهارات أفضل).

وقد لوحظ تأثير التكنولوجيا على خفض الأجور في قطاعات أخرى. إذ كان سائقو سيارات الأجرة في لندن يحصلون على أجور عالية للغاية. وما السبب في ذلك؟ يرجع ذلك إلى أن الحصول على رخصة سائق سيارة أجرة لم يكن بالأمر السهل. فقد كان على الراغبين في الحصول على هذه الرخصة إثبات معرفتهم المتقنة بشوارع لندن، وكان من النادر أن تجد أحداً بهذه المواصفات. وكانت النتيجة زيادة أرباح سائقي سيارات الأجرة، وهو ما يعد دليلاً عملياً على أن الندرة تولّد القيمة. ولكن لم نلبث أن شهدنا ظهور “أوبر”. حيث تزود الشركة العملاقة في خدمات النقل حسب الطلب سائقيها بتطبيق الهاتف الذكي الذي يوفر الإرشادات خطوة بخطوة حول المكان الذي يريد السائق أن يذهب إليه وكيفية الوصول إليه. وتم تحديد كلٍّ من المعالم وأسماء الشوارع والطرق بالتفصيل الدقيق.

ويُفترض أن تفيد هذه التكنولوجيا سائقي سيارات الأجرة الراغبين في احتراف هذا العمل. وهذا ما حدث. فقد أسهمت “أوبر” في عمل أكثر من 40,000 شخص في مجال قيادة سيارات الأجرة منذ دخولها لندن عام 2012. وأتاحت لهؤلاء السائقين فرصة “كسب المال وإعالة أسرتي”، على حد قول أحد السائقين لشبكة “بي بي سي”. ولكن بتخلصه من الحاجة إلى المعرفة التخصصية من خلال تسهيل نقل الركاب في مختلف أنحاء لندن، أدى تطبيق “أوبر” أيضاً إلى انتفاء الحاجة إلى المعرفة المتقنة بمعالم المدينة التي لطالما تسبب في تقاضي أجور أعلى. وماذا كانت النتيجة؟ تم توجيه الاتهامات إلى عملاق النقل حسب الطلب بأنها تدفع أجوراً أقل من المُستحَق لسائقيها (وتم رفع الكثير من القضايا ضدها للمطالبة بالتعويضات).

التأني في الأتمتة

قد تسهم التكنولوجيا في زيادة الدخل خاصة عند استغلال فكرة أن التكنولوجيا تتطلب مهارات ومعرفة تخصصية. لكن قد تتسبب الروبوتات أيضاً في خفض الأجور عن طريق تسهيل أداء بعض الوظائف. وإذا كانت الوظيفة بسيطة، فيمكن لأي شخص أداؤها. وإذا كان بإمكان أي شخص أداء وظيفة معينة، فما الذي يُرغم صاحب العمل على دفع أجر أكبر لبعض العاملين؟ وعندما تتطلب السوق مهارات بسيطة، تقل قيمة العاملين الذين يتمتعون بمهارات عالية.

وقد ترى الشركات أن هذا يصب في مصلحتها، لأن دفع أجور أقل للعاملين يعتبر وسيلة مضمونة لتعزيز هوامش الربح. لكن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر أيضاً، لأن التكنولوجيا لا تلغي الحاجة إلى العمالة البشرية، كل ما هنالك أنها تُغيّر نوع العمل المطلوب. فالسيارات والآلات ذاتية الحركة لا تعني الاستغناء التام عن العنصر البشري. وقد تعجز التكنولوجيا عن أداء المهمات الطلوبة منها، ومن المؤكد أنها ستعجز عن أدائها في بعض الأحيان. وعندئذٍ ستضطر الشركات إلى محاولة استرضاء العمال أنفسهم الذين استغنت عنهم إبان أيام سعدها حينما أقدمت على أتمتة عملياتها، مثلما حدث مع “فليبي”، وهو إنسان آلي يُعِّد الهامبرغر، الذي اضطر أحد المطاعم إلى الاستغناء عن خدماته عام 2018 بعد يوم واحد من تشغيله بسبب عجزه عن ملاحقة طلبات العملاء. فماذا كان رد فعل المطعم؟ لقد طالب الطهاة البشريين بالتدخل لحل الأزمة.

قد تسهم الأتمتة في زيادة الإنتاجية وتحسين الكفاءة وتقليل الأخطاء. وقد تؤدي الروبوتات الوظائف التي تنطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة للعاملين من بني الإنسان، وهذا دورها الأساسي، ولكنها لا تسهم كثيراً في إثراء الغرض من العمل، وتحرم العاملين من البشر من مباهج العيش الحر. ولقد أحسن بيرتراند راسل حينما قال إن الآلات تمنحنا “القدرة على عيش حياة ميسورة وآمنة”. ويرى راسل أنه من الحماقة تجاهل هذه الحقيقة، “ولكن لا يوجد سبب للاستمرار في الحماقة إلى الأبد”.

ومع ذلك، فإن الفوائد بعيدة المدى للاستغناء عن البشر من أجل الروبوتات غير مضمونة بالمرة. فقد تخسر الشركات الأموال إذا كانت فوائد الإنتاجية الناجمة عن اعتماد التكنولوجيا باهظة التكلفة. وعادة ما يتم خصم هذه التكاليف (وهناك دائماً تكلفة) من قبل الشركات التي تحرص على إظهار الملاءة المالية. لكن اعتماد الروبوتات قد يدفع الشركات أكثر نحو منطقة الخطر. إذ يبقى التفرد التكنولوجي، أو فكرة أن الآلات تعرف كل شيء ويمكنها إصلاح المشكلات بسرعة، غاية بعيدة المنال، على الرغم من كل ما قيل لنا.

ويجب على الشركات مراعاة هذا الواقع عند اعتماد التكنولوجيا. فيجب أن يسأل التنفيذيون أنفسهم 3 أسئلة عند التدقيق في قيمة الروبوتات. أولاً: ما الذي تعجز التكنولوجيا عن فعله؟ فقد يكون التطور التكنولوجي مذهلاً، لكن قدراته قد تكون محدودة أيضاً، مثل البشر. فما هذه الحدود؟ ثانياً: كيف تؤثر هذه الحدود في العمليات التشغيلية؟ فقد يعزز الاستثمار في التكنولوجيا الإنتاجية، ولكن إلى حد معين فقط. فكيف تبدو هذه النقطة وهل هي مقبولة للمساهمين؟ ثالثاً: كيف تؤثر تكلفة الإشراف على التكنولوجيا في عرض القيمة؟ إذ يجب الإشراف على التكنولوجيا وإبقاؤها تحت المراقبة باستمرار، خاصة في القطاعات الحيوية المرتبطة بالسلامة، مثل النقل والطاقة والرعاية الصحية. فما تكلفة تنفيذ هذه الإجراءات الرقابية، وكيف يؤثر ذلك في ميزة التكلفة عند الاستعانة بالروبوتات؟

قد يكشف طرح هذه الأسئلة عن إجابات مفاجئة حول التوقيت المناسب (والظروف الملائمة) للاستغناء عن العنصر البشري من أجل براعة الخوارزميات. وهو ما يلفت إليه نيكولاس كار، إذ يقول: “لا يوجد قانون اقتصادي ينص على أن الجميع، أو حتى معظم الناس، سيستفيدون تلقائياً من التقدم التكنولوجي”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .