الواحات الثقافية: رؤية الهيئة الملكية لمحافظة العلا لإدارة واحتها الثقافية وإحيائها

5 دقائق
الواحات الثقافية
shutterstock.com/Matt Starling Photography
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تمحورت رؤية المملكة 2030 حول تعزيز فرص التنوع الاقتصادي للخروج من دائرة الاعتماد على النفط، وتُعد السياحة الثقافية من القطاعات التي تسهم في تعزيز نمو اقتصاد المملكة وتكريس نمط الحياة الثقافي، ورفع جودة الحياة في المدن السعودية.

تمثّل السياحة الثقافية 40% من مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي السنوي، والمقدرة بنحو 8.9 تريليونات دولار، وعملت السعودية على هذا النمط السياحي من خلال مسارين، أولهما دعم المنظومة الثقافية عبر زيادة حجم التمويل والاستثمار لتأكيد دور الثقافة كمحرك للنمو، فعلى سبيل المثال، قدّم صندوق التنمية الثقافي منحاً بقيمة تجاوزت 180 مليون ريال خلال عام 2022، وذلك في إطار استراتيجية الدولة لدعم استثمار القطاع الخاص في قطاع الثقافة بـ 2.5 مليار ريال بحلول عام 2030.

وثانيهما، دعم قطاع السياحة ليسهم بـ 10% من الناتج المحلي الإجمالي السعودي بحلول عام 2030، في خطوة تساعد على تحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية تمكّن الفرد السعودي وترفع جودة حياته.

واحة العلا: كنز ثقافي واقتصادي

تمتلك السعودية المقومات التي تؤهلها للتميز في السياحة الثقافية، منها الموقع الجغرافي، والمخزون الكبير من المواقع الأثرية المهمة والتراث العمراني، وخاصة الواحات الثقافية (Cultural Oases)، التي تمثل في ذاتيتها حالةً من حالات التفاعل المجتمعي مع العناصر الثقافية للمكان، ويمكن تفسير امتدادها التاريخي عبر آجال زمنية متعاقبة على أنه تعبير صريح عن الممارسة الثقافية والانتماء الثقافي للبشر تجاه هذا النشوء الطبيعي، الذي اتخذ من الواحة شكلاً له. 

وتتجسد هذه الممارسة من خلال المجهود البشري الذي يتركز في الواحة ويتحول تدريجياً إلى نشاط هيكلي يترسخ ضمن اقتصادها وينمو، ومن ذلك النشاط الزراعي، والنشاط المرتبط بالآثار والتراث، فضلاً عن نشاطات السياحة الطبيعية والفنون وما إلى ذلك. في حين يتجسد الانتماء، عبر النظم الاجتماعية والاقتصادية (Socio-Economic Systems) التي تشكلت تاريخياً في قلب الواحات الثقافية وأضحت سبباً مباشراً لحالة الاستيطان البشري المستمر لها.

ما يعزز من قيمة هذا الانتماء الثقافي وتأثيره هو ما نشهده اليوم من دعوات ومساعٍ جادة تتبناها الحكومات والمنظمات الثقافية ومؤسسات المجتمع المحلي للبحث عن أدوات اقتصادية يمكن استخدامها لتحصين هذه الواحات وحمايتها واستدامتها، وذلك لتمكينها من الاستجابة لحالة الطلب المتزايد من السائحين على الخدمات الثقافية التي لا تتوافر إلا من خلال نظام إيكولوجي (Ecosystem) خاص، كما هي الحال في الواحات الثقافية.

وفي هذا السياق، كان للهيئة الملكية لمحافظة العلا تنبه مبكّر وإدراك حقيقي لقيمة الواحة الثقافية بالعلا، التي ظلت لآلاف السنين قلباً نابضاً للمنطقة وملاذاً خصباً وسط الصحراء للسكان، والمسافرين، والنبات والحيوان، الأمر الذي جعل منها ملتقى للثقافة، ومهداً للممالك القديمة (لا سيما، دادان ولحيان، والحِجر)، ومركزاً للزراعة. 

وفي ظل هذا التنبه والإدراك، أسست الهيئة مركزاً خاصاً معنياً بإدارة الواحة واستدامتها في سبيل تقديمها مرجعاً عالمياً للواحات الثقافية المؤهلة، وبما يضمن تفاعلاً مجتمعياً أكبر مع مكوناتها، وبما يسمح لها باستيعاب تجارب متعددة تتمحور حول الزراعة، والتعليم، والثقافة، والآثار، والسياحة، خدمةً للسكان المحليين والزائرين من مختلف مناطق العالم. 

ومن هنا، بدأت الهيئة من خلال مركزها بطرح تصورات جادة وتنفيذها لإعادة ترتيب العلاقة بين الواحات الثقافية ومستفيديها من جهة وقاصديها من جهة أخرى، وذلك عبر الواحة الثقافية بالعلا، وعلى نحوٍ غير مسبوق من خلال:

  • تبنّي النهج الشمولي للزراعة (Holistic Approach for Agriculture): بالنظر إلى حقيقة أن 90% من إجمالي النشاط الاقتصادي في الواحات يأتي من خلال الزراعة، كان لا بد من التعاطي مع الزراعة داخل الواحة الثقافية للعلا من منظور كلي يتحقق من خلاله إنشاء سلسلة قيمة Value) (Chain متكاملة، تبدأ من خلال نشاطات ما قبل الإنتاج وفي مقدمتها التعليم والتدريب لزيادة أهلية القائمين على النشاط الزراعي وكفاءتهم، ومن ثم الإنتاج القائم على تقنيات زراعية صديقة للبيئة، مروراً بتصنيف المحاصيل وفرزها وتخزينها وتوزيعها تمهيداً للربط مع سلال إمداد مرجعية وذات تغطية سوقية واسعة، وانتهاءً بتمييز محاصيل الواحة عن طريق علامات وشعارات تسويقية دلالية (Oasis-specific Slogans and Labels) باستخدام العلامات التجارية الراسخة للمحاصيل، التي نشأت أو تنشأ من العلا. 

ومن هنا، يمكن قياس الأثر المحتمل لهذا النهج عبر تتبع الزيادة المحققة في عدد الأراضي الزراعية التي يجري تأهيلها وإحياؤها قياساً بإجمالي مساحة الأراضي الزراعية في الواحة، فضلاً عن التوسع في عقود تأجير الأراضي الزراعية ودخولها حيّز التشغيل بواسطة مزارعي الواحة، بالإضافة إلى رصد النمو المحتمل في حجم المحاصيل والإنتاج الزراعي في مختلف مناطق الواحة، وأخيراً، حساب القيمة التي يخلقها تسويق محاصيل الواحة تحت علامات وشعارات تسويقية خاصة. 

  • ترسيخ مبدأ المشاركة للجميع: اعتادت الواحات الثقافية حول العالم على استهداف شرائح محددة وخدمتها من خلال برامج دعم وتمويل محلية ودولية، ما أسهم في خلق حالة من التجزئة القائمة على أساس فئوي وتفضيل مجموعات تمثيلية عن مجتمع الواحة على حساب أخرى، وبالتالي إضعاف شمولية الواحة وتنوعها الذي يستوعب الجميع، لا سيما في ظل وجود تحديات متعلقة بهجرة الأجيال الصاعدة من مناطق الواحات لمناطق أكثر تمدناً بحثاً عن فرص أفضل للدراسة والعمل. 

في تونس مثلاً، وتحديداً في واحة تمغزة (Tamerza Oasis)، نال المزارعون الذين لديهم نشاط قائم النصيب الأوفر من الدعم والتمكين من خلال مشروع “النظم البيئية وسبل العيش في الواحات” (Oases Ecosystems and Livelihoods Project) الممول من صندوق البيئة العالمية عبر البنك الدولي، بهدف دعم 18,000 مزارع محلي بحزمة حوافز تسهم في استدامة النشاط الزراعي في الواحة. 

وفي المغرب، وتحديداً في واحات إقليم الرشيدية، أطلقت هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) بالتعاون مع برنامج التعاون السويسري (Swiss Cooperation Programme)، مشروعاً لدعم النساء الناشطات في زراعة النباتات العطرية والدوائية في واحات الإقليم بهدف تنمية مشاركتهن الاقتصادية.

في المقابل، تتجاوز الواحة الثقافية للعلا هذا التركيز الفئوي لتشمل برامجها المعدّة للدعم والتمكين مختلف الفئات المرتبطة بها، ليس على مستوى العمر أو النوع فقط، وإنما على مستوى النشاط كذلك، إذ تستهدف الهيئة تعزيز مشاركة الأجيال الصاعدة في تنمية الواحة من خلال إحداث التغيير الذي يجعل الواحة ذات صلة بالعصر الحديث دون إفقادها لهويتها التاريخية ومن ذلك ربط التعليم الأكاديمي بالواحة، وتستهدف كذلك إنشاء حركات ثقافية تجديدية تستوعب مشاركين جدداً في خدمة الواحة واقتصادها مثل الطهاة، عن طريق جهود حفظ المكونات التراثية والتقليدية المرتبطة بالإرث الغذائي للواحة والترويج لها على نطاق واسع، وينصبُّ جزء كبير من هذا التركيز على خدمة فئات ترتبط بالأنشطة الداعمة للواحة، كما في حالة الحرفيين وصانعي المشغولات اليدوية التي تتصل بتراث الواحة أو تُصنع من محتواها المحلي، فضلاً عن تقليص الفجوة بين الأطفال والواحة عبر تنفيذ مجموعة من الأنشطة التي تجعل ارتباطهم بها وجدانياً ومستقراً في الذاكرة، ومن ذلك أنشطة البستنة البيئية (Eco-gardening) الموجهة للطلبة في مراحل ما قبل التعليم المدرسي ومراحل التعليم المدرسي المبكرة. مثل هذه الشمولية تجعل قياس حجم مساهمة جميع الفئات وفقاً لمتغيرات العمر والنوع والنشاط أمراً حيوياً لضمان توفير فرص متوازنة للجميع للاندماج مع الواحة وأصولها.

  • غرس أنشطة التعليم والبحث في قلب الواحة: من خلال رصد الأنشطة التعليمية والبحثية في مناطق الواحات الثقافية، يتضح أن جلها موجه لخدمة أغراض التدريب الفني (Vocational Training)، ما يجعل تأثيرها لا يتجاوز عادةً المزارعين الحقليين ويخلق في الوقت نفسه حالة من التباعد القسري بين تقليدية النشاط الزراعي في الواحة وبين الاختراقات المعرفية التي تطرأ على شكل النشاط الزراعي وطبيعته بفضل التعليم والبحث والابتكار، وذلك يقوّض قدرة الواحات في استقطاب المواهب والحفاظ عليها ورواد الأعمال القادرين على تطويع المعرفة الحديثة لخدمة الزراعة التقليدية في الواحات. 

ومن هنا، تنبّهت الهيئة لأهمية تحقيق أسبقية فريدة في الحفاظ على المشهد الزراعي داخل الواحة الثقافية في العلا وتجديده بطريقة تستدعي مزيداً من التركيز على التعليم العالي، والبحث والابتكار، ما يعني التوسع في توفير عروض وخيارات تعليمية وبحثية ليس فقط للمزارعين المحليين، وإنما لفئات ليست مشمولة في دائرة التعليم الرائجة في الواحات، ومن ذلك الطلبة الساعين للالتحاق بالتعليم الجامعي من العلا، ومن المملكة ومن العالم، والباحثين، ورواد الأعمال. 

ومن خلال ربط النظرية بالممارسة، سيتاح للمستفيدين المحتملين فرصة التعلم في بيئات مُحاكية للواقع عن طريق المزارع الإيضاحية والمزارع الحاضنة، فضلاً عن تطوير مفاهيم مبتكرة تراعي البعدين السياحي والاقتصادي في إدارة المزارع فردياً وضمن المجموعات، الأمر الذي يسمح بتحويل مزارع الواحة لمعمل حي للبحث والتجربة والاختبار وتطوير نماذج جديدة للزراعة المستدامة دون الإخلال بالحالة الطبيعية للواحة ومقوماتها الأساسية، وعلى أن تُدعم هذه الرحلة التعليمية بخبرات بحثية لضمان التدليل على هذه النماذج وإثباتها بحثياً. 

وفي المجمل، سيتضح جلياً تأثير تغلغل التعليم والبحث في قلب الواحة عبر مجموعة من المؤشرات، أهمها، عدد المستفيدين من برامج التأهيل والتعليم في شقيه الأكاديمي والفني، وعدد المشاريع التعليمية المحوّلة إلى نشاط تجاري قائم ضمن سياقات الواحة، وقيمة العائد الاقتصادي على مشاريع الطلبة والمتدربين ورواد الأعمال الموجّهة لخدمة الواحة، وحجم الإنتاج البحثي الموجه لخدمة الأغراض الزراعية في الواحة، بالإضافة إلى عدد منتجات البحث والتطوير والابتكار الناتجة عن الاستثمار في نماذج جديدة للزراعة التقليدية داخل حدود الواحة. 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .