بدأ قطاع الرعاية الصحية، أخيراً، يأخذ خطواته نحو التغيير، بعد أن كان محصناً إلى حدٍّ كبير ضد قوى الابتكار المُزعزِع، وانطلاقاً من إمكانية تطوير قطاع الصحة من خلال استراتيجيات بسيطة للرعاية الأولية، فنجد أن بعضاً من كبار المؤثرين الحاليين يشجعون دخول منافسين جدد يركزون على تمكين المستهلكين من نظمهم الإيكولوجية عالية التنظيم، مما يقلل التكاليف. فما هو أكثر ابتكار يحتاجه قطاع الرعاية الصحية؟
هذا التحول، تحديداً، قد طال انتظاره. ففي الوقت الذي تمكنت فيه التقنيات ونماذج الأعمال الجديدة والمنافسين الجدد من ابتكار منتجات وخدمات ميسورة التكلفة وسهلة المنال في قطاعات مثل الإعلام والمالية وتجارة التجزئة وغيرها، ما زالت تكلفة الرعاية الصحية داخل الولايات المتحدة عالية. إذ إنها حالياً أغلى نظام رعاية في العالم لكل فرد، حيث تصل إلى ضعف نظيرتها تقريباً في المملكة المتحدة وكندا وأستراليا. وتمثل الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب أكثر من 80% من إجمالي الإنفاق حالياً.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مهام المساعد الإداري
وتعود هذه التكاليف الفلكية، إلى حدٍّ كبير، إلى طريقة عمل المنافسين في نظام الرعاية الصحية الأميركي. فمن ناحية، نجد أصحاب الأعمال وشركات التأمين - وليس المستهلك النهائي - هم أصحاب القرار فيما يخص نوعية الرعاية التي سيدفعون مقابلها. ومن ناحية أخرى، تتنافس المستشفيات وعيادات الأطباء الكبرى، كما لو كانت في سباق للتسليح، لجذب شركات التأمين، فتضيف أدوات تشخيص متطورة أو أجنحة جراحية جديدة لتتميز على منافسيها، مما يرفع التكاليف.
اقرأ أيضاً: هل عمليات الاندماج والاستحواذ هي العلاج لنظام الرعاية الصحية المتعثر؟
ورغم أن الزعزعة، في معظم القطاعات الصناعية، تبدأ من الشركات الناشئة، إلا أن معظم ابتكارات قطاع الرعاية الصحية الممولة منذ عام 2000 كانت تهدف إلى تعزيز نموذج أعمال هذا القطاع بدلاً من زعزعته. فيوضح تحليلنا لبيانات منصة بيتشبوك (Pitchbook) أنه قد تم ضخ أكثر من 200 مليار دولار في رأس المال الاستثماري لقطاع الرعاية الصحية، ويكمن معظمه في مجالات التكنولوجيا الحيوية والأدوية والأجهزة التي يقود أي تطوير فيها، عادةً، إلى جعل قطاع الرعاية الصحية أكثر تعقيداً، وبالتالي أكثر تكلفة. بينما ركزت أقل من 1% من تلك الاستثمارات على مساعدة المستهلكين لممارسة دور أكثر فاعلية في إدارة صحتهم، وهو جانب مستعد للأساليب المزعزعة.
نهج الرعاية الشامل
تعد شركة "هيومانا" (Humana)، شركة التأمين العملاقة، إحدى كبرى الشركات الحالية التي أصبحت أكثر تقبلاً للابتكارات المزعزعة. فقد عقدت شراكة مع شركة "أيورا هيلث" (Iora Health)، وهي شركة ناشئة تقع في بوسطن. وبدورها، صممت شركة "أيورا"، التي أسسها الطبيب ورائد الأعمال روشيكا فيرناندوبول، نموذجاً مزعزعاً للرعاية الأولية، يقوم على الاستعانة بمدربين للصحة، من غير الأطباء وغير مكلفين نسبياً، لتحديد عادات المرضى وأنماط حياتهم غير الصحية ومن ثم إرشادهم نحو اتخاذ قرارات أفضل قبل أن تنشأ أي مشكلة صحية أو حتى تتفاقم. وقد نجحت الشركة، منذ تأسيسها عام 2010، في جذب تمويلات تتخطى 123 مليون دولار، وباتت تدير الآن 37 عيادة تخدم 40 ألف مريض في 11 ولاية أميركية. وتدرِّب "أيورا" المدربين الصحيين ليصبحوا بمثابة مدافعين عن المستهلك، فيكونوا أشبه بالظهير لفريق الرعاية الممتد الذي يشمل الطبيب. فعندما يزور المريض إحدى عيادات "أيورا"، فإنه يلتقي هذا المدرب، أولاً، لوضع أجندة صحية قبل مقابلة الطبيب. وبعد أن يقابل المريض الطبيب، يتناقش المريض والمدرب، مرة أخرى، للتأكد من قدرة المريض على الالتزام بالأهداف الصحية المتفق عليها، على سبيل المثال: عن طريق اكتساب عادات صحية جديدة. وحينها، يصبح المدرب حلقة وصل بين المريض وفريق "أيورا"، ويخلق ثقافة المساءلة.
اقرأ أيضاً: كيف نقلل أعباء عمل أطباء الرعاية الأولية مع تحسين نظام الرعاية الصحية؟
هناك ميزة أخرى في نموذج "أيورا"، ألا وهي الاجتماع الصباحي، حيث يستثمر فريق الرعاية بأكمله ساعة في مناقشة الحالة الصحية لرواد العيادة. ونظراً لأن "أيورا" تتحمل المخاطر المالية كاملةً عن مرضاها - حيث تتلقى رسوماً ثابتة لكل مريض خلال مدة معينة - تعطي هذه الاجتماعات الصباحية الأولوية للمرضى الذين يحتاجون أقصى قدر من الاهتمام، وتوجِّه الرعاية نحو تلبية احتياجاتهم.
ولتحقيق هذه الغاية، طورت شركة "أيورا" منهجية "مقياس القلق"، والتي تصنِّف كل مريض على مقياس من 1 إلى 4 وفقاً لاحتياجاته وحالته الصحية. ووفقاً لهذا المقياس، سيحتاج المرضى الذين يحرزون 4 إلى إجراء محدد، مثل التدخل الفوري من أحد المدربين الصحيين. وإذا تحسنت التوقعات للمريض، ينخفض مقياس قلقهم، وهو تطور يحتفل به الفريق.
وبهذه المنهجيات، حقق نموذج "أيورا" نتائج مذهلة في إدارة الحالات المزمنة. وعلى سبيل المثال: اكتشفت دراسة غير منشورة لشركة "أيورا" أن دخول المرضى المقيمين بالمستشفى بين مجموعة مكونة من 1,176 مستفيداً مسجلاً في نظام "أيورا" للتأمين الصحي قد انخفض، على مدار 18 شهراً، بنسبة 50%، كما انخفضت زيارات قسم الطوارئ بنسبة 20%، وتراجع إجمالي الإنفاق الطبي بنسبة 12%. وكل هذا على الرغم من أن المجموعة المختارة للدراسة كانت أكثر مرضاً من المرضى العاديين المستفيدين من نظام التأمين الصحي.
اقرأ أيضاً: كيف تتعاون مع مبتكرين من خارج مجال الرعاية الصحية؟
ولم تكن "أيورا" هي الشركة الوحيدة التي تبنت النهج الذي يركز على الصحة بدلاً من الرعاية الصحية: إذ حققت "أوك ستريت" (Oak Street)، و"أومادا" (Omada)، و"دوسينت" (Docent)، و"تشن ميد" (ChenMed)، و"ويل ميد" (WellMed)، و"موزايك" (Mosaic)، و"أليديد" (Aledade) وغيرها من الشركات، تقدماً ونجاحاً من خلال نماذج فرق الرعاية المُزعزِعة. وما يجعل هذه النماذج مُزعزِعة - وقادرة على إيجاد موطئ قدم وسط مؤسسات الرعاية العملاقة الحالية - هو جمعها بين خطط تقديم الرعاية وخطط الرواتب (رسوم التأمين الصحي على الفرد هي النموذج الغالب)، وليس من المحتمل أن يتحقق النجاح بالاعتماد على إحدى الخطتين دون الأخرى.
تشجيع الزعزعة
استخدمت شركات التأمين وغيرها من المؤسسات المبتكرة في تقديم الرعاية الصحية استراتيجيات مماثلة على مدار سنوات. فهناك مجموعة من البرامج - طرحتها شركات مثل "أتنا" (Aetna)، و"كير مور" (CareMore)، و"ديجنيتي هيلث" (Dignity Health)، و"هيومانا" (Humana)، و"كايزر برماننت" (Kaiser Permanente)، بالإضافة إلى برنامج التأمين الصحي الخاص، تستعين جميعها بالمدربين والزيارات المنزلية لتحسين صحة المرضى وتقليل التكاليف بشكل كبير. وقد اكتشفت إحدى الدراسات أن مقدمي الرعاية المشاركين في برنامج "الرعاية من المنزل" التابع لمنظومة التأمين الصحي قد وفروا، في المتوسط، 1,010 دولارات عن كل مستفيد خلال العام الثاني من تطبيق البرنامج، وذلك عن طريق تقليل اللجوء إلى المستشفى بصفة أساسية.
وهناك برنامج تجريبي آخر يعتمد على فرق الرعاية، وهو برنامج الوقاية من مرض السكري، والذي قلل احتمالات إصابة المرضى بالسكري، كما وفر لنظام التأمين الصحي ما يقرب من 2,650 دولاراً عن كل مستفيد على مدار 15 شهراً، وذلك من خلال مساعدة المرضى على إنقاص 5% من وزنهم، في المتوسط، عن طريق إجراء تغييرات في نظامهم الغذائي والرياضي. يُطبق البرنامج من خلال مقدمي الرعاية الأولية، والمستشفيات، ومراكز جمعية الشبان المسيحيين، وشبكات الرعاية الصحية عن بُعد. ويتلقى المرضى الدعم خلال جلسات المتابعة الأسبوعية الممتدة على مدار ساعة مع المدربين الصحيين.
استراتيجيات لمساعدة المرضى على إدارة صحتهم
ولكن، على الرغم من أن نموذج الرعاية هذا قد أثبت فاعليته على نطاق ضيق، فإنه يجب أن يخدم ملايين المستهلكين الآخرين كي يكون له أثر كبير على التكاليف والنتائج على الصعيد الوطني. ولتحقيق هذا، نوصي بالاستراتيجيات التالية:
بالنسبة لمقدمي الرعاية الصحية
ينبغي عليهم احتضان نموذج العمل المعتمد على فرق الرعاية الممتدة التي تضم مدربين صحيين. ونوصي بالبدء ببرامج تجريبية تتحمل من خلالها المستشفيات والعيادات المخاطر المالية لصحة المرضى. وبهذه الطريقة، تتحمس فرق الرعاية لمساعدة المرضى في الحفاظ على صحتهم.
اقرأ أيضاً: تطوير الأفكار الإبداعية لتحسين الرعاية الصحية من بيانات الحياة اليومية للأفراد
بالنسبة لشركات التأمين العامة والخاصة
أصبحت الشراكات بين مؤسسات القطاعين الخاص والعام، مثل برنامج التأمين الصحي الخاص (الذي تطبِّق بموجبه شركات التأمين الاستثمارية خططاً مدفوعة من جانب الحكومة)، أسواقاً ناجحة تتيح ظهور نماذج مُزعزِعة. وهنا نوصي بتطبيق برامج تجريبية مثل "الرعاية من المنزل"، و"الوقاية من مرض السكري" في أسواق التأمين الممولة من جانب القطاع الخاص.
بالنسبة للمشرعين
يتعيّن عليهم إتاحة نماذج جديدة للرعاية الصحية من شأنها تقليل التكاليف عن طريق تحفيز كل من المرضى وشركات التأمين ومقدمي الرعاية على تحسين الصحة، بدلاً من علاج المرض بعد ظهوره. وسيتطلب هذا، بدوره، خلق سوق تأمينية فردية قوية تكافئ فيها شركات التأمين مقدمي الرعاية على مساعدة المرضى في الحفاظ على صحتهم، وبهذا سنتمكن من معرفة أكثر ابتكار يحتاجه قطاع الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: إشراك الرئيس التنفيذي يحسن من مستوى الرعاية الصحية في شركتك