تُعتبر الأشهر الأخيرة من السنة الوقت الذي يستفيد فيه الموظفون من الإجازات المخصصة لهم، حيث يبدو الأمر أحياناً بأنّ مكاتب المؤسسة خاوية من الموظفين. لكن خلافاً للرأي السائد المتذمر حول صعوبة إنجاز الأعمال خلال موسم الإجازات، تُظهر أبحاث وتجارب جديدة أجريت على بيئات عمل مؤسسات عديدة أنّ من الأفضل لتلك المؤسسات زيادة عدد الموظفين الذين يذهبون في إجازة، وحتى عندما يفعلون ذلك فمن الأفضل أن تطول فترات إجازاتهم.
وثمة توجّه صاعد يُشير إلى منح المؤسسات موظفيها المزيد من الإجازات وفترات الراحة طويلة الأمد، إضافة إلى ذلك، هناك دليل واضح على أنّ هذا التوجّه يعود بالمنفعة على كلا الطرفين: الموظف والمؤسسة.
وفي حين أنّ الإجازات طويلة الأمد لا تزال نادرة في بيئة عمل الشركات الأميركية، إلا أنها تنمو بسرعة على نحو متسارع. وبحسب مسح أجرته جمعية إدارة الموارد البشرية، ارتفعت نسبة الشركات التي تمنح موظفيها إجازات طويلة الأمد (مدفوعة وغير مدفوعة) لتبلغ تقريباً 17% من الشركات في العام 2017. وهذا ارتفاع ملحوظ بالنسبة لما كان عليه الحال في العام 1977 عندما أسّست شركة ماكدونالدز البرنامج الأول في الولايات المتحدة لمنح الموظفين إجازات طوية الأمد.
وبينما تتباين تفاصيل الإجازات من حيث النمط (مدفوعة أو غير مدفوعة) والمدّة (أسابيع أم أشهر) وغيرهما، تُظهر البحوث أنّ التوجّه الصاعد في منح الإجازات طويلة الأمد إنما يعود إلى عاملين رئيسيّين. فمنح الإجازات والعطل طويلة الأمد لا يُفيد فقط الموظفين من حيث تمتّعهم بقسط من الراحة وإعادة شحذ هممهم، بل يفيد المؤسسة أيضاً، وذلك بإخضاع هيكليتها التنظيمية لاختبار تحمّل ضغط العمل وتوفير أدوار مؤقتة تُسهم في حثّ الموظفين على تولّي المزيد من المسؤوليات القيادية.
وبما أنّ نهج منح الإجازات أكثر شيوعاً في المؤسسات الأكاديمية، أُجريت غالبية البحوث الهادفة إلى معرفة مدى تأثير الإجازات بالنسبة للموظفين على بعض الأساتذة الجامعيين. وقارنت إحدى الدراسات المتميزة بين 129 أستاذاً جامعياً أخذوا إجازات خلال فصل محدد مع 129 آخرين من زملاء لهم يتمتعون بالكفاءات ذاتها لكن لم يأخذوا إجازات في ذلك الفصل. جرى مسح لكلتا المجموعتين، قبل الفصل وخلاله وبعده، وذلك لتقييم سويات تحمل الضغط والموارد النفسية وحتى درجة الرضا عن الحياة عموماً. وفي حين أنه من غير المستغرب توصل الباحثين إلى نتيجة مفادها أنّ أولئك الأساتذة الذين ذهبوا في إجازة قد اختبروا بعد عودتهم منها تراجعاً في سوية ضغط العمل وزيادة في الموارد النفسية وارتفاعاً في سوية الرضا العام، فإنّ ما أثار دهشة أولئك الباحثين هو أنّ تلك التبدلات الإيجابية دامت في أغلب الحالات لوقت طويل بعد عودة الأساتذة إلى العمل، ما يدلّ على أنّ فترات الراحة والابتعاد عن العمل لا تُفيد الموظفين فحسب بل المؤسسة أيضاً.
وتأتي الفائدة الكبرى للمؤسسة عبر سبل غير متوقعة. فمنح الإجازات أو العطل طويلة الأمد لقادة المؤسسات في الواقع يمكن أن يشكّل أداة فعالة لاختبار مدى تحمّل هيكلياتها التنظيمية ضغط العمل ومنح القادة الطموحين فرصة التطور والنمو. في إحدى الدراسات، أجرى الباحثون مسحاً لـ61 قائداً في خمس مؤسسات غير ربحية مختلفة تتبع برامج منح الإجازات لموظفيها. وعلى الرغم من بعض التباينات الطفيفة في شروط منح الإجازات، غير أنّ جميع المؤسسات اشترطت على مدرائها التنفيذيين الذهاب بإجازة لثلاثة أشهر على الأقل وشجّعتهم على عدم ارتياد مكاتبهم خلال فترة الإجازة تلك.
وجد الباحثون أنّ غالبية القادة الذين شاركوا في المسح أفادوا بأنّ الإجازة منحتهم مجالاً لخلق أفكار جديدة من أجل الابتكار في المؤسسة، كما أكسبتهم أيضاً مزيداً من الثقة بأنفسهم كقادة. ولاحظوا أيضاً تحسناً في مقدرتهم على التعاون مع مجالس إداراتهم، ذلك لأنّ تخطيط الإجازة وتنفيذها يشكلان خبرة تعلم بالنسبة لجميع المعنيين.
وتتجلى أبرز الأمور التي أثارت اهتمام الباحثين بأنّ غالبية القادة المشاركين في المسح أفادوا أنّ القادة المؤقتين (الذين احتلوا مكانهم أثناء إجازتهم) أظهروا فاعلية ومسؤولية أكبر بعد عودة رؤسائهم من إجازتهم، حتى إنّ الكثيرين منهم استمروا في تحمّل بعض المسؤوليات القيادية فيما بعد، الأمر الذي جعل العلاقة بين الرئيس والمرؤوسين عموماً أكثر تعاوناً. إلى جانب ذلك، أفادت بعض المؤسسات أنها شعرت بقدر أكبر من الثقة في خططها لتعاقب الموظفين على المناصب، إذ إنها استفادت من فرصة غياب القادة في اختبار كفاءة القادة المؤقتين والتعرف على ما يحتاجونه من تطوير لقدراتهم من أجل القيام بأعمال القيادة على أتم وجه. وبعد أن كانت إحدى الشركات تبحث على نطاق البلاد عن مدير عام تنفيذي ليستلم الإدارة في المستقبل، قرّرت اختيار السيدة التي تشغل منصب نائب المدير العام الحالي لهذا المنصب بعد أن أظهرت كفاءة عالية في أدائها كقائدة مؤقتة أثناء غياب المدير الفعلي في إجازة.
وعلى الأقل، يمكن القول أنّ استبدال الموظفين لفترات طويلة من الزمن يسمح لمؤسساتهم باختبار أداء هيكلياتها التنظيمية تحت الضغط. فمن حيث المبدأ يجب ألا يكون أي فريق معتمداً على أحد أفراده اعتماداً يشلّ الفريق أثناء الغياب الطويل لذلك الفرد. وفي حين أنه يمكن ضمان ذلك على الورق من الناحية النظرية، لكن الطريقة الوحيدة للتأكد من ذلك هي الاختبار العملي على أرض الواقع. وهذا هو السبب الرئيسي لاعتماد واحدة من أكثر سياسات الإجازات فرادة في العالم، ألا وهي سياسة شركة موتلي فوول (Motley Fool)، حيث يختار قادتها في كل شهر أحد الموظفين عشوائياً ويمنحونه إجازة مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين اثنين، شريطة أن ينفّذ إجازته في الشهر التالي حصراً. فمن شأن ذلك أن يضمن حصول الموظفين على استراحة هم في أمس الحاجة إليها، وفي الوقت نفسه تعزز الشركة استعدادها الدائم لحالات غياب الموظفين غير المتوقّعة.
وسواء تعلق الأمر بإجازة طويلة الأمد أم بغياب غير متوقع، تشكّل إيجابيات تجربة الابتعاد لفترة طويلة عن العمل (بالنسبة للموظف كما للمؤسسة) أمراً مشجعاً، وتدعو هذه التجربة أيضاً للتنبّه في الوقت نفسه: إذ هي تؤكد من جهة بما لا يدع مجالاً للشك أنّ منح الإجازات طويلة الأمد أمر جيّد ويؤتي أكله، لكنها تنبّه من جهة أخرى إلى أنّ غالبية المؤسسات في وضعها الراهن لا تمنح موظفيها الوقت اللازم للاستراحة من ضغط العمل.