4 أنماط للقيادة الموقفية من كتاب “قصتي” للشيخ محمد بن راشد

6 دقيقة
القيادة الموقفية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

العقول العظيمة تصنع ابتكارات عظيمة، والبشر بأفكارهم وإبداعاتهم وترابطهم يمثلون ثروة المستقبل، لذا القائد الحقيقي هو من يخلق بيئة مناسبة لإخراج طاقة الفريق وقدراته.

هذا ما يلخص مفهوم القيادة من وجهة نظر الشيخ محمد بن راشد، الذي تعكس تجاربه وإنجازاته بوصفه حاكماً لإمارة دبي ورئيساً لمجلس الوزراء دروساً قيمة في كيفية صناعة أمة متقدمة.

وتعد القيادة الموقفية أحد النماذج التي طبّقها الشيخ محمد بن راشد خلال مسيرته التي تناولها في كتابه “قصتي“. فماذا تعني؟ وما الأسس التي تستند إليها؟ وكيف يمكن تطبيق أنماطها؟

القيادة الموقفية: شمولية وبساطة

يُستخدم نموذج القيادة الموقفية على نطاق واسع في مجال الاستشارات والدورات التدريبية، ويتميز بشموليته وبساطته في التطبيق، إذ تعتمد فكرته على تحديد النمط القيادي المناسب بناءً على مستوى الكفاءة والالتزام لدى الأتباع في كل هدف أو مهمة. وكما جاء في كتاب “القيادة الإدارية: النظرية والتطبيق” (Leadership: Theory and Practice) للمؤلف بيتر نورث هاوس: “المقدمة المنطقية الأساسية للنظرية هي أن المواقف المختلفة تتطلب أنواعاً معينة من القيادة. ومن خلال هذه الرؤية فإن أي شخص يريد أن يكون قائداً فاعلاً يلزمه أن يكيف أسلوبه مع متطلبات المواقف المختلفة”.

وبهذا المعنى، فإن نموذج القيادة الموقفية يعتمد على 3 أسس مهمة: تحديد الهدف أو المهمة، وتحليل مستوى المرؤوس من حيث الكفاءة والالتزام، واستخدام النمط القيادي المناسب. فتحديد مستوى المرؤوس بعد معرفة الهدف أو المهمة يعد من أهم الخطوات للوصول إلى استخدام النمط القيادي المناسب. وقد ذكر الشيخ محمد بن راشد أمراً قريباً من ذلك في أهمية معرفة الأتباع للقائد، فقال: “يقولون إنّ القائد لا بد أن تكون له عين طير؛ ينظر للأمور من فوق ليستطيع تلخيصها وتجريدها واتخاذ قرارات بشأنها. وأنا أقول بأن القائد الإنسان لا بد أن تكون قدماه على الأرض، يعيش مع البشر، يكابد أحوالهم، ويعايش حياتهم، ويعرف أدق تفاصيل معاناتهم، حتى يستطيع تغيير حياتهم للأفضل”.

ولفهم هذا النموذج القيادي فهماً أفضل، سنستعرض أنماطه الأربعة ودورها في تشكيل الشخصية القيادية للشيخ محمد بن راشد:

النمط الأول: التوجيه

“يبذل القائد في هذا النمط المجهود الأكبر في التوجيه أكثر من الدعم أو المساندة، لأن المرؤوس لديه كفاءة منخفضة لكن التزامه عالٍ”.

كان الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم المعلم الأول للشيخ محمد بن راشد، وبفضل توجيهاته استطاع الوصول إلى المكانة القيادية التي يتمتع بها الآن. وعن ذلك قال: “كنّا نذهب إلى الصيد ومعنا أدوات صغيرة فقط، ونصطاد معظم ما نحتاجه من طعام. اهتم والدي كثيراً بقدرتي على الملاحظة، وكان يختبرني مرات عدة إلى درجة أنني اعتدت الاستيقاظ من النوم لأتبيَّن موقعي وأجيبه في حال سألني عن ذلك. وأثناء وجودنا فې السیارة كان يطلب مني وصف التضاريس، ثم يستمع إليّ ويصحح ما أقوله مقدِّماً معلومات أكثر دقة. وأثناء حديثه مع أصدقائه أو اجتياز السيارة الطريق الوعرة ليلاً، كان يلتفت وينظر إليَّ بحزم ليسألني في أي اتجاه نسير؛ شمالاً أم جنوباً، شرقاً أم غرباً”.

فالانتباه ودقة الملاحظة من العناصر الأساسية لصناعة القادة، لأن التركيز على النفس يضع المرء في المسار الصحيح، وفهمه للآخرين والعالم من حوله يجنبه الجهل والضياع.

ومن الأمثلة الأخرى أيضاً عن نمط التوجيه ما تحدث به الشيخ محمد بن راشد عن تعلم المهارات الجديدة، وكيف أنه احتاج إلى ذلك عن طريق التعلم بالتوجيه من أهل الخبرة، فقال: “طلب مني والدي أن أضيف مهارة جديدة إلى مهاراتي، وخبرة مختلفة إلى خبراتي، وجانباً آخر من الحياة لم أعتد النظر إليه؛ مهارة التعامل مع البحر والمشاركة في رحلات الغوص.. كان والدي يرسلني أحياناً عند شخص من الثقات يُدعى ‘أبو جابر’. وأبو جابر من رؤساء الأسطول البحري، وصل إلى هذا المنصب بتجربته المتراكمة ومعرفته المتوارثة. كان يُلقب باسم السردال. وفي لغة أهل البحر يعني أنه كبيرهم وأخبرهم بالبحر ومواسمه ورياحه ومواقيته”. ثم ذكر الشيخ مشاهداته ومساعده للسردال مثل مساعدته في عملیة التحضیر، كتحمیل القوارب بالمؤن ونحو ذلك.

النمط الثاني: التدريب

“يعتمد أسلوب القائد في هذا النمط على التوجيه العالي بالإضافة إلى أسلوب عالٍ في الدعم، لأن المرؤوس لديه كفاءة منخفضة إلى متواضعة ولكن التزامه منخفض”.

في هذه المرحلة يحتاج القائد إلى بذل مجهود أكبر من المراحل السابقة، فهنا نحتاج بشدة إلى كل من التوجيه والدعم، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشيخ محمد بن راشد عندما قال: “في یوم آخر من أيام الشيخ راشد، وفي مجلس آخر من مجالسه، تعلّمتُ أيضاً شيئاً عظيماً ما زلت أطبّقه حتى اليوم. كان الشيخ راشد يحدّث أحد الرجال في المجلس ويقول له: أعتقد أنك نشيط ولديك قدرات قيادية، هل تستطيع إطلاق المشروع الفلاني ومتابعته حتى النهاية؟ كنت أبدي تبرّمي لاحقاً وأهمس له: لماذا قلتَ لفلان إنه قائد .. هو قليل الكفاءة ولا يستحق هذه الكلمة؛ فيأخذ نفساً عميقاً ويرد عليّ بأن من أهم صفات الحاكم الناجح أن يحيط نفسه بقادة أقوياء، ونحن نبحث عنهم دائماً، ولكن عندما لا نجدهم نصنع نحن القادة. مسؤوليتنا أن نصنع قادة، نعطيهم المسؤولية، ونشجعهم حتى يصبحوا قادة حقیقیین”.

ثم يعقّب الشيخ قائلاً: “لقد كانت حقاً كلمات من ذهب. قالها بكل بساطة، ولكنها سر عظيم من أسرار نجاح الدول وتفوقها. صناعة القادة هي صناعة التنمية. هذا هو الدرس الثاني. طبَّقتُ هذا المبدأ على مدى خمسين عاماً من حياتي ومسيرتي القيادية حتى اليوم، وخصّصتُ برامج لإعداد القادة وصناعتهم، واستثمرتُ بشكل شخصي في الشباب الطموحين الذين أحطتُ نفسي بهم في كافة المناصب التي تقلّدتها. واليوم أراهم قادةً عالميين في مجالاتهم، وأفتخر بهم. المشورة تضيف عقولاً إلى عقلك، وصناعة القادة تضيف أيادي كثيرةً وعظيمةً إلى يدك. القادة الذين نصنعهم یکونون عيوننا التي نرى من خلالها، وأيدينا التي نبني بها، وطاقات خلّاقة تُضاف إلى طاقتنا لتحقيق رؤيتنا التي نحلم بها”.

النمط الثالث: الدعم

“يبذل القائد في هذا النمط المجهود الأكبر في الدعم والمساندة أكثر من التوجيه، لأن المرؤوس قد وصل إلى مرحلة يكون فيها مستوى الكفاءة من متوسط إلى مرتفع، إلا أن الالتزام يصبح متقلباً فينخفض أحياناً ويرتفع في أخرى”.

يميل الإنسان بطبيعته إلى البحث عن هدف أو مغزى من عمله بغض النظر عن منصبه الوظيفي، وهنا يأتي دور القادة في تقديم الدعم والمساندة للمرؤوسين وتعزيز شعورهم بأنهم جزء من مهمة أكبر. لذا ينتقل القائد في هذه المرحلة إلى الاستفادة من خبرات الموظف ويقدم له الدعم اللازم ليرفع من مستوى إسهامه، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشيخ محمد بن راشد عن والده الشيخ راشد بن سعيد، قائلاً: “أذكر أنه من القرارات الأولى التي اتخذها راشد بعد توليه مسؤولية الحكم تأسيس مجالس للبلدية والتجار وغيرهم من الأشخاص الموهوبين في مجتمعنا، من بناة ومهندسين وتجار ومثقفين. وعندما سألته عن سبب دعوته كلّ هذه الوجوه الجديدة، نظر إليَّ بجدية وقال: الإنسان لا يتوقف عن التعلّم. نريد منهم أن يخبرونا كيف يريدون أن نبني دبي، ونريدهم أن يعلّموك كيف تكون قائداً، فقد بدأ تدريبك كذلك”.

كما نجد مثالاً آخر على تقديم الدعم مع التخفف من التوجيه في قصة الكهف الصغير التي ذكرها الشيخ محمد بن راشد، فيقول: “كانت لدينا غرفة صغيرة، أرضها رملية، في الجزء الغربي من قصر زعبيل. وكان والدي يحتفظ في تلك الغرفة بصقور الصيد. وبعد أن كثرت مشاغل والدي، طلب مني الاهتمام بالغرفة. اهتممتُ بها، ولكن على طريقتي”. ثم ذكر الشيخ كيف أنه حوّلها إلى غرفة مكتظة بمختلف أنواع الحيوانات، ثم قال: “قرر والدي ووالدتي إثراء فضولي بالعلوم، وأعطتني أمي دفاتر صغيرة أدوّن فيها اكتشافاتي عن الطيور والحيوانات والأصداف والهياكل التي كنت أجمعها.امتلأت تلك الدفاتر الصغيرة بالكثير من الملاحظات التي كنتُ أدوّنها والرسومات التي كنتُ أضعها فيها. كانت تلك الدفاتر متعتي التعليمية، وكانت تلك الغرفة “كهفي” الصغير الذي أمارس فيه هواياتي في التعرف على الطبيعة من خلال جمع مختلف الكائنات الصغيرة فيه. ما تعلّمته من هذا الكهف الصغير هو أنّ التعليم بالتجربة يظل راسخاً معك مدى حياتك”.

النمط الرابع: التفويض

“يتبع القائد في هذا النمط أسلوباً يكون فيه تقديم الدعم والتوجيه منخفضاً في كليهما، لأن المرؤوس لا يتطلب تدخلاً كثيراً من القائد، فقد أصبح ذا كفاءة والتزام عاليين”.

يميل الكثير من القادة إلى تنفيذ كل شيء بأنفسهم بدافع “حماية العمل”، لكن سيؤدي ذلك بنهاية المطاف إلى عدم تحقيق الأثر المنشود وصعوبة الوصول إلى الأهداف المرجوة، لذا من المهم أن يشارك القائد المسؤولية مع الآخرين ويفوض إليهم بعض المهام. إذ يقول مؤلف كتاب “تطوير القادة من حولك” (Developing the Leaders Around You)، جون ماكسويل: “إذا أردت أداء بعض الأشياء الصغيرة بصورة صحيحة، فافعلها بنفسك. أما إذا أردت فعل أشياء رائعة وإحداث تأثير كبير، فما عليك إلا أن تتعلم التفويض”.

ومن الأمثلة على استخدام نمط التفويض، ما ذكره الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في قصة احتراق سفينة “دارا”، وهي سفينة تابعة لشركة ملاحة بريطانية، وكان ذلك في عام 1961، فيذكر أن والده الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم أرسل جميع أفراد الأسرة دون استثناء مع قوارب النجاة لإنقاذ من يمكن إنقاذهم، ثم قال: “أنقذنا قرابة 500 شخص في تلك الليلة التي بدا لي أنها لن تنتهي”، ثم ذكر كيف أن لهذه الحادثة دروساً تعلمها، فقال: “وتعلمتُ بعدها أن نكون مستعدين دائماً لأي طارئ. رغم قسوة العاصفة، إلا أنها أظهرت أنبل ما في أهل دبي، من تعاون وتعاضد ووقفة واحدة وقت الشدة. وعلى الرغم من كثرة الخسائر، إلا أنني تعلّمتُ كيف يديرُ القائد أزمة مفاجئة. وأكثر شيء استوقفني، وما زال، أن أبي بدأ بنا وبأبناء عمّي لإرسالنا لإنقاذ الغرقى في البحر الهائج قبل أن يرسل أحداً من عموم الناس. حقاً إن الأزمات تظهر معادن الرجال”.

كما يستذكر الشيخ عندما كان والده يفوضه في مرحلة بناء اتحاد الإمارات، إذ قال: “شهدت تلك الأعوام نشاطاً سياسياً مكثفاً، كنتُ فيه ملازماً لوالدي الشيخ راشد، وكان يكلفني بالكثير من المهام والوساطات والمفاوضات التي كنت أقوم بها مع أخي الشيخ مكتوم نيابة عنه. كنّا نتكلم نيابة عنه وعن سلطته أيضاً، وكان ذلك مصدر قوّة واحترام لنا، ودرساً لن أنساه في أهمية تفويض الصلاحيات لمن تثق به حتى يستطيع إنجاز العمل الذي تم تكليفه به”.

وأود أن أختم هذه المقالة بخاتمة مهمة تلخص المطلوب من القادة، إذ يقول الشيخ: “إذا لم تكن دقيقاً في اختيار مواردك البشرية، إذا لم تبن قدراتهم ومهاراتهم بشكل حقيقي، إذا لم تزوّدهم بقيم العمل التي تريدها، إذا أخفقت في تحفيزهم وبث روح الحماسة الدائمة فيهم، إذا لم تفعل كل ذلك فعملك محكوم بالفشل منذ اليوم الأول”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .