عندما تقرر إحدى شركات صناعة الطائرات تطوير طراز جديد، فإنها لا تطلب من الطيارين والطاقم تحديد أفضل قمرة قيادة وأجنحة ومحركات نفاثة وأجزاء أخرى، لتقوم بعد ذلك بجمع كل هذه القطع معاً. فالطائرة التي يتم تصميمها بهذه الطريقة لن تتمكن من التحليق. تبدأ الشركة بتحديد هدفها، مثل نقل 250 مسافراً على نحو آمن في رحلة واحدة من نيويورك إلى لندن خلال أقل من ست ساعات، وتتبع نهجاً منضبطاً لتحديد المكونات والأنظمة الفرعية التي تستوفي هذه المتطلبات. فماذا عن دور تصميم غرف المستشفيات في تحسين أنظمة الرعاية الصحية؟
دور تصميم غرف المستشفيات في إصلاح الرعاية الصحية
وفي المقابل، فإننا عادة ما نبني المستشفيات والعيادات الصحية تدريجياً وحسب الحاجة، حيث تقوم المستشفيات بشراء مئات التكنولوجيات المستقلة التي تعمل بمعزل عن التكنولوجيات الأخرى، والتي يمتلك كل منها إجراءات عمل وتدريبات وواجهة مستخدم خاصة بها، بحسب ما هو متوفر في السوق. ثم نضع هذه التكنولوجيات داخل وحدة العناية المركزة أو غرفة العمليات، ونأمل أن تعمل معاً بطريقة أو بأخرى.
وتكون النتيجة هي مجموعة من التكنولوجيات التي قلّما يتم وصلها سوية، على حساب سلامة المريض والجودة والقيمة. فمثلاً:
- تصدر أجهزة المراقبة المختلفة إنذارات تتنافس مع بعضها لجذب انتباه الأطباء السريريين الذين يكون عليهم التمييز بين الإنذارات التي تدل على الحالات الخطيرة وغيرها. وفي بعض الأحيان لا ينتبه هؤلاء الأطباء إلى الإنذارات بالغة الأهمية وسط الضوضاء.
- تحتوي الأجهزة والسجلات الإلكترونية الطبية وأسِرّة المرضى على بيانات إلكترونية يمكن أن تساعد في تشخيص الحالات وتقييم المخاطر. وعلى أي حال، يجب على الأطباء السريريين الرجوع إلى كل منها على حدة، بدلاً من رؤية عرض موحد للبيانات المأخوذة منها.
- يقضي الأطباء السريريون وقتهم بالاطلاع على عشرات الشاشات بحثاً عن معلومات ذات علاقة بالحالات التي يتعاملون معها بدلاً من الجلوس مع المرضى وأحبائهم.
كل ذلك يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمريض وتقليل الإنتاجية وارتفاع التكاليف وإصابة الطبيب السريري بحالة من الإنهاك التام، وهي أمور نحن في غنى عنها. يتولد لدى الأطباء والممرضين شعور بأنهم يعملون لخدمة التكنولوجيا وليس العكس. فغالباً ما يعتمد تفادي حدوث المضاعفات والأخطاء وغير ذلك من أشكال الضرر على بطولة الأطباء السريريين بدلاً من تصميم أنظمة آمنة.
نحن بحاجة إلى نهج جديد يراعي وضع احتياجات المرضى والأطباء السريريين على رأس قائمة الأولويات. علينا توحيد المقدرات التكنولوجية والطاقات البشرية والعمليات لتعمل بانسجام نحو تحقيق هدف واحد ومشترك.
بينما يعتبر هذا الأمر جديداً بالنسبة لمجال الرعاية الصحية، لكنه أصبح بمثابة شيء عادي في المجالات الأخرى المعقدة عالية الخطورة. إنه عالم هندسة النظم، المجال الذي ساهم في تحقيق إنجازات مذهلة، مثل إرسال مركبة فضاء في رحلة تستغرق تسعة أعوام إلى كوكب بلوتو، وتصميم غواصة نووية.
لم تكن هذه المشاريع لتنجح دون أهداف واضحة ومحددة وقابلة للقياس ونهج دقيق لتحقيقها جميعاً.
لاحظنا في جامعة جونز هوبكنز المدى الذي قد تصل إليه هندسة النظم عندما شرعنا في تحسين مستويات سلامة المرضى والجودة في وحدات العناية المركزة. عمل الأطباء والباحثون في مجال سلامة المرضى من مؤسسة جونز هوبكنز الطبية بالشراكة مع مهندسي النظم وخبراء تكامل النظم في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز، الذي سبق أن قدّم الدعم لوزارة الدفاع وغيرها من الهيئات الحكومية الأميركية على مدار 75 عاماً بصفته أحد "الوكلاء الموثوقين" لتتمكن هذه الجهات من التعامل مع تحديات بالغة الصعوبة، مثل بناء الأقمار الاصطناعية ومنظومات الأسلحة على متن السفن.
استطاع فريق مختبر الفيزياء التطبيقية تقديم إرشادات للمرضى وأفراد أسرهم والأطباء والباحثين في نحو عشرين من التخصصات الطبية خلال عملية مفصلة للتعريف بأهدافنا وفهم أولوياتنا وتحديد الوظائف التي من المفترض أن يؤديها النظام وتحديد معايير النجاح. وأثمرت هذه النقاشات عن وضع هدف يتمثل في الحد من سبعة من الأخطار الشديدة الأكثر شيوعاً والتي من الممكن تفاديها من بين ما يتعرض له المرضى في وحدة العناية المركزة. وتضمنت هذه الأخطار السبعة خمسة أخطار سريرية، مثل حدوث المضاعفات والإصابة بالعدوى التي تنتقل في المستشفيات، إضافة إلى "خطرين اجتماعيين"، وهما قلة الاحترام وعدم ارتقاء مستوى الرعاية الصحية إلى الإيفاء بطموحات المريض. ولا يوجد أدنى شك بأنّ المرضى يواجهون أخطاراً أخرى بالإضافة إلى هذه الأخطار السبعة. لكن كان من واجبنا التركيز على أخطار محددة لأن مؤسسة جوردون آند بيتي مور فاونديشن (Gordon and Betty Moore Foundation) التي موّلت المشروع أرادت التأكد من قيامنا بتحقيق النتائج.
مشروع "إيميرج" (Project Emerge)
قمنا بتحديد شرائح ومستويات من متطلبات النظام الذي يمكنه تحقيق هدفنا، من خلال عقد مقابلات واجتماعات مع الأطراف المعنية، ومن ملاحظة تفاعل الأطباء السريريين والمرضى. وكان الحل الذي توصلنا إليه هو مشروع إيميرج (Project Emerge)، وهو نظام يدمج البيانات القادمة من مصادر عدة في شاشة كمبيوتر يسهل قراءتها. يجمع النظام البيانات من تكنولوجيات موجودة، مثل السجل الإلكتروني للمريض، مع بيانات من تكنولوجيات جديدة، مثل المستشعرات التي تتابع نشاط المريض أو زاوية السرير. وتماماً كما هو الحال مع شاشات عرض قمرة القيادة التي يحصل من خلالها الطيارون على جميع المعلومات الأساسية، يسمح نظام إيميرج للأطباء السريريين أن يشاهدوا على الفور فيما إذا كان المرضى يتلقون كل أشكال الرعاية اللازمة لتفادي الأخطار السبعة. كما توجد شاشة كمبيوتر ثانية لمساعدة المرضى والأسر على التواصل مع فريق الرعاية الصحية وليكون لهم دور أكثر فعالية في الرعاية.
وتُظهر إحدى وحدات إيميرج تميز نهج هندسة النظم، بتركيزها على الوقاية من حالات الضعف المكتسبة في وحدة العناية المركزة، حيث تبين لنا الأبحاث أن المرضى يستعيدون قوتهم في وقت أقل ويعانون من مضاعفات أقل عند البدء في المشي في أقرب وقت آمن ممكن خلال إقامتهم في المستشفى. لكن أغلب وحدات العناية المركزة لا تتمتع بثقافة لدعم الحركة المبكرة، حيث أن الأطباء السريريين غير معتادين على سؤال مرضاهم المقيدين في الأسرّة فيما إذا كانوا يستطيعون الحركة، أو إذا وصلوا إلى أهدافهم على هذا الصعيد. ولا يوجد أجهزة أو شاشات عرض تخبر المرضى عن تقدمهم أو تحذرهم فيما إذا حصل لديهم تراجع ما.
يجبر نظام إيميرج الأطباء السريريين على تحديد أهداف الحركة لدى المريض، ويقوم بسحب بيانات من مختلف المصادر إلى لوحة المعلومات، ليتحول لون شاشة عرض حالات الضعف المكتسبة في وحدة العناية المركزة إلى اللون الأحمر إذا لم يكن المريض على الطريق الصحيح. ويستطيع الأطباء النقر على شاشة اللمس والانتقال لأسفل لاستعراض البيانات، وبحث الخطوات التالية. وفي هذا الوقت، يمكن للمرضى وأفراد أسرهم أخذ كمبيوتر لوحي والتعرف على أهمية الحركة، ويشارك أفراد الأسرة في إخراج أحبتهم من السرير أو المشي معهم داخل وحدة العناية المركزة.
يمثل الجميع جزءاً من هذا التغيير الثقافي القائم على التكنولوجيا، حيث تصبح الحركة المبكرة أمراً عادياً، وليست من قبيل المسائل التي يتم تداركها بعد حين. مع هذا التطبيق، ارتفعت نسبة المرضى الذين حُددت لهم أهداف حركية من 40% إلى 100%، وارتفعت نسبة المرضى الذين يتلقون علاجاً حركياً من 48% إلى 80%. أما أولئك الذين عانوا من تراجع وظيفي حاد في حركتهم فانخفضت نسبتهم من 19% إلى 10%.
بالطبع تمثل مشكلة الحركة في وحدة العناية المركزة عيباً واحداً فقط، ولكن هذه الوحدة من نظام إيميرج هي واحدة من وحدات كثيرة تشارك البيانات والمعرفة وتجعل العمليات أكثر كفاءة وتمنع الضرر وتجعل الأسر في دائرة الاهتمام. لذا يجب دمج هذه الوحدات بحيث لا يغرق الأطباء السريريون بمعلومات ومهام إضافية تشكل عبئاً لا يمكنهم إدارته.
أثبت نظام إيميرج أن نهج هندسة النظم يمكنه المساعدة في التقليص من عيوب محددة، ولكن يوجد الكثير من الأهداف الأخرى التي يمكنه تحقيقها، مثل رفع الإنتاجية وتعزيز تجربة المريض وتحسين إدارة الأسرّة وتحسين تنقل الرعاية الصحية للمريض بين مزودي الخدمات.
هذه الجهود من شأنها أن تسير بوطأة أسرع إذا أبدى المصنعون في مجال الرعاية الصحية استعداداً لجعل منتجاتهم متوافقة مع منتجات الآخرين. فهي بشكل عام منتجات غير متوافقة. لقد استطعنا دمج البيانات من مصادر مختلفة داخل نظام إيميرج، لكن العمل كان تقنياً بدرجة كبيرة ويتطلب أعداداً هائلة من الموظفين. يمكن أن تنشأ ابتكارات أكثر في مجال الرعاية الصحية، وقد تصبح الرعاية أقل تجزؤاً إذا شاركت التكنولوجيات البيانات بسهولة أكبر. نأمل أن تكون تجربتنا سبباً إضافياً كي يقوم مصنعو هذه التكنولوجيات بدراسة دور تصميم غرف المستشفيات في تحسين الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: