ملخص: عندما نقضي أيام عملنا في التركيز على إتمام قوائم مهامنا، قد يصعب علينا تهيئة الظروف المناسبة للإبداع بسبب مشكلة هوس الإنتاجية والحس الإبداعي. ومع ذلك، يُعد الابتكار جزءاً مهماً من العديد من الوظائف. ويعرض لنا المؤلف نهجاً بسيطاً ومثبتاً بالتجارب لتوليد الفكر الإبداعي. اجمع أولاً المواد الأساسية التي تحفزك، واكتب الأفكار المتعلقة بمجال اهتمامك من خلال قراءة المقالات أو الكتب. ثم حاول بعد ذلك استيعاب ما قرأته من مواد في عقلك. يمكنك بعد ذلك ملء بطاقات صغيرة بالملاحظات ومحاولة إيجاد روابط بين الأفكار، كما لو كنت تحاول حل لغز ما. ثم يقترح دمج تلك البطاقات بحثاً عن روابط بينها. وتنطوي المرحلة الأخيرة والأكثر أهمية على ألا تفعل أي شيء على الإطلاق. اعثر على طريقة تشعر فيها بحالة من الانفصال العقلي وتسمح لعقلك بدء التفكير اللاواعي، سواء عن طريق المشي أو الاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة فيلم ما أو حتى الاستحمام.
إذا طُلب منك تخيّل يوم تكون إنتاجيتك فيه عالية، كيف سيبدو ذلك اليوم؟ هل ستبدأ بالاستيقاظ باكراً، والتحقق من الأعمال الموجودة في قائمة مهامك، ثم تحتسي فنجاناً من القهوة قبل أن تواصل أداء أعمالك بهمة ونشاط؟ ماذا عن يوم يُطلب منك فيه إظهار حسك الإبداعي؟ هل ستقضي أوقاتاً طويلة تمارس التأمل، ممسكاً قلمك بيدك وأنت تحدق حالماً في الفضاء؟ قد يعتقد بعض الأفراد أن كلا السيناريوهين متشابهان. ولسوء الحظ، طوّرنا خياراً وسطاً بينهما حتى.
إن عالم الأعمال مهووس بالإنتاجية اليوم، ودائماً ما نقرأ عن الأعمال الإنتاجية للقادة الآخرين في محاولة لفهم كيفية أداء أعمالنا بسرعة، ونتصفح وابلاً من الكتب والمقالات ونستمع إلى الخبراء الذين يحثوننا على إدارة أوقاتنا والتخلص من المشتتات الرقمية والجلوس في أماكن هادئة حتى نتمكن من تنفيذ أعمالنا بتركيز شديد. لكن سعينا الدؤوب إلى أن نكون منتجين يقوّض إحدى أهم القدرات في أماكن العمل اليوم، ألا وهي الإبداع. نعرف جميعاً التحذير من أن مساهماتنا الأكثر قيمة في المستقبل ستتمثّل في الابتكار والروح الإبداعية، أي عندما يؤدي الذكاء الاصطناعي وأنظمة تعلم الآلة الجوانب الروتينية والشكلية من أعمالنا.
خلق الظروف المواتية للابتكار
كيف يمكننا إذاً خلق الظروف المناسبة للإبداع، خاصة عندما تتمثّل أعمالنا الروتينية في إتمام قوائم المهام؟
تأمّل هذا التعليق من كاتب السيناريو آرون سوركين (العقل المدبر وراء المسلسل التلفزيوني "الجناح الغربي" (West Wing) وأفلام مثل "كرة المال" (Moneyball) و"الشبكة الاجتماعية" (The Social Network)، حيث ذكر في مجلة "هوليوود ريبورتر" (The Hollywood Reporter) أنه يستحم 6 مرات في اليوم. ويشرح قائلاً: "ليس لدي فوبيا من الجراثيم"، لكنه عندما يفشل في التركيز على الكتابة، يسارع إلى الاستحمام وارتداء ملابس جديدة وبدء العمل من جديد. يهدف سوركين إلى ابتكار أفكار جديدة على أساس منتظم، أحياناً كل ساعة. واكتشف أنه لا يستطيع التوصل إلى أفكار مبتكرة عندما يُمعن في التركيز، وإنما عندما يكون في الحمام. وقد صمّم بالفعل مكاناً للاستحمام في زاوية مكتبه يستخدمه بانتظام. ووصف تلك العملية "بالمحاولات" التي تهدف إلى التوصل إلى أفكار مبتكرة.
قد تبدو فكرة الاستحمام 6 مرات في اليوم غريبة بالنسبة لبعض الأفراد، وغير قابلة للتنفيذ حتى بالنسبة لمعظمهم بالتأكيد، لكن رؤى سوركين الثاقبة ذكرتني بأفضل نصيحة سمعتها على الإطلاق حول موضوع الإبداع.
كتب جيمس ويب يونغ المسؤول التنفيذي في إدارة الإعلان الذي يعمل لصالح فرقة "ماديسون أفينيو" (Madison Avenue) في عام 1939 دليلاً إرشادياً محدداً لعملية الإبداع أطلق عليه اسم "تقنيات توليد الأفكار" (A Technique for Producing Ideas). يُذكرنا ويب يونغ في ذلك الكتاب القصير "أن الفكرة ليست إلا مزيجاً جديداً من أفكار قديمة". وأعرب عن رأيه قائلاً أن مهارة الإبداع هي القدرة على اكتشاف روابط جديدة بين الأفكار المألوفة، في حين أن الفن هو "القدرة على رؤية العلاقات [الجديدة]." وتوصّل ستيف جوبز بعد 50 عاماً إلى فكرة مشابهة قائلاً: "ينطوي الإبداع على ربط الأفكار. عندما تسأل المبدعين عن كيفية توصلهم إلى إنجازاتهم، فإنهم يشعرون بتأنيب الضمير نوعاً ما لأنهم لم ينجزوا ذلك الشيء حقاً، كل ما في الأمر هو أنهم أبصروا شيئاً ما في الأفق، وبدت الفكرة واضحة لهم بعد فترة، وذلك لأنهم استطاعوا الربط ما بين تجارب عاشوها، والتوليف بين الأشياء الجديدة".
وطوّر ويب يونغ أيضاً تقنية بسيطة بشكل ملحوظ للفكر الإبداعي.
اجمع أولاً المواد الأساسية التي تحفزك، ثم اربط بين المواد التي أثارت اهتمامك والأفكار الاستهلالية المرتبطة بها. لكنه يحذرنا من أن تلك التقنية غالباً ما تكون عملية روتينية ومضنية وغير مجدية إلى حد ما. وأفضّل شخصياً في هذه المرحلة مراجعة (وقراءة) علامات التبويب التي تركتها مفتوحة في متصفح الإنترنت، وإرغام نفسي على قراءة كل المقالات التي خصصتها ليوم ممطر، والتفكير ملياً في تأملات الآخرين بشكل عام.
ثم أحاول بعد ذلك استيعاب ما قرأته من مواد في عقلي. ويقترح ويب يونغ ملء بطاقات صغيرة بالملاحظات، تماماً كالملاحظات التي تكتبها عند التحضير لامتحان الشهادة الثانوية، ومحاولة التوصل إلى روابط بين العناصر، كما لو كنت تحاول حل لغز ما. لكن ويب يونغ يحذرنا مجدداً من أن هذه العملية قد تنهك عقولنا. ثم يقترح دمج تلك البطاقات بحثاً عن روابط بينها. استخدمت في هذه الخطوة الملاحظات الملصقة وحاولت أيضاً التوصل إلى روابط بين الأفكار وكتابتها على أوراق كبيرة على شكل خريطة ذهنية موسعة.
هوس الإنتاجية
وتمثّل المرحلة الأخيرة من منهجيته تناقضاً مع عالمنا المهووس بالإنتاجية، وتنطوي ببساطة على ألا نفعل أي شيء على الإطلاق. يحثّنا ويب يونغ على إيجاد طريقة نشعر فيها بحالة من الانفصال العقلي ونتيح لعقلنا بدء التفكير اللاواعي بطريقة مشابهة لفكرة الاستحمام التي توصّل إليها سوركين. "تجاهل الموضوع بأكمله وحاول ألا تفكر فيه بعقلك قدر الإمكان"، ثم "حوّل تفكيرك إلى ما يحفز خيالك وعواطفك". يقول ويب يونغ: أكمل عملك التحضيري (المحبط غالباً) و"ستظهر لك فكرة من عدم"، سواء في أثناء قيامك بنزهة على الأقدام أو في أثناء استماعك إلى الموسيقى أو مشاهدة فيلم ما أو في أثناء الاستحمام.
وجميعنا نعرف هذا النهج المثبت بالتجارب في الواقع، إذ يبدو أن أفضل أفكارنا تتولد في لحظات الانفصال العقلي. ويعرض لنا التاريخ الحديث كثيراً من الأمثلة على لحظات الإلهام التي اجتاحت عقول المبدعين عندما كانوا في إجازات. على سبيل المثال، قال لين مانويل ميراندا أنه طوّر فكرة مسرحية "هاملتون" (Hamilton) الموسيقية التي بلغت قيمتها مليار دولار في أثناء محاولته الاسترخاء على أحد شواطئ المكسيك. وكان كيفن سيستروم، مبتكر تطبيق "إنستغرام" يتجول أيضاً على شاطئ في المكسيك عندما لمعت برأسه فكرة التطبيق. وتُعتبر هذه الظاهرة المتمثلة في حصول المسؤولين التنفيذيين على لحظات الإلهام في أثناء توقفهم عن العمل دليلاً إضافياً على أن الإدراك الإبداعي لا يتولد عندما نمعن التركيز، وإنما عندما نطلق العنان لأفكارنا.
قد يشير المتخصصون في الأعصاب إلى أن حالة التشتت الذهني تلك تحدث عند تنشيط الوضع الافتراضي للدماغ. وجرى في الواقع التوصل إلى فكرة الوضع الافتراضي للدماغ في السبعينيات من القرن العشرين، عندما لاحظ العلماء وجود كميات كبيرة من النشاط العصبي العقلي حتى في حالات الراحة. يمر معظمنا في هذه الحالة عندما نسرح في خيالنا، وتتوه أفكارنا في عالم الأحلام، ويتجلى ذلك بوضوح عندما نشعر بالملل. وعلى الرغم من أن شركاتنا قضت على مشاعر الملل التي تنتابنا من خلال ملء كل دقيقة من جداول أعمالنا بالمهام، تتمثّل النتيجة المخفية وراء انشغالنا في افتقادنا إلى عالم "أحلام اليقظة" الذي ينشط في الوضع الافتراضي للدماغ.
إن الرغبة في تحسين إنتاجيتنا هي استجابة معقولة تماماً للطلبات المتزايدة. لكن سعينا الدؤوب إلى تحقيق الكفاءة أصبح وضعاً مبالغاً فيه، وإذا كنا نقدّر حقاً أصالة الفكر الإبداعي، فقد حان الوقت لإدراك أن الإنتاجية والإبداع غالباً ما يتعارضان مع بعضهما البعض. إذ تتحقق الإنتاجية عند تركيز الفكر، في حين يتولد الإبداع عند "تشتت الفكر".
وفي نهاية الحديث عن هوس الإنتاجية والحس الإبداعي، إذا كان يوم عملك قائماً على حضور سلسلة من الاجتماعات وإرسال رسائل البريد الإلكتروني، فيمكنك التفكير في تجربة آرون سوركين وطرح السؤال التالي على نفسك: هل خصصتُ وقتاً للتفكير الحر؟ تجاهل قائمة مهامك قليلاً، وابتعد عن مكتبك، وأوقف تشغيل المدونات الصوتية في أثناء تنقلك، واستمتع ببضع لحظات تقضيها كل يوم في التأمل دون أن ترهق عقلك بالتفكير. فمنح عقلك لحظة للاسترخاء قد يساعدك في توليد أفكار لم تكن لتخطر على بالك من قبل.