"أُلغيت إحدى رحلات العمل وفجأة أصبح لديّ وقت فراغ لم أخطط له. ولذلك عدتُ إلى منزلي وقد كان يوماً صيفياً جميلاً وأدخلت سيارتي في الممر الخاص بها، ثم أدركت أن أفراد عائلتي مشغولون بأنشطتهم وليس لدي أصدقاء لقضاء وقتي معهم أو هوايات أحببت ممارستها ذات يوم. فجلست في سيارتي لأكثر من ساعة أفكر كيف وصلت إلى هذا الحد".
قائل العبارات السابقة هو مسؤول تنفيذي في شركة برمجيات يحظى بالاحترام والتقدير، وتعكس كلماته نمطاً رأيته من خلال عملي مع مئات المسؤولين التنفيذيين الناجحين. فقد أنهوا دراستهم الجامعية ولديهم مجموعة من الاهتمامات والأصدقاء، واختاروا العمل في الوظائف التي تحسن وضعهم المالي والاجتماعي وأحياناً تُحدث تأثيراً. ولكن سرعان ما تزداد ساعات العمل لتصل إلى أكثر من 12 ساعة يومياً، كما أن الذهاب يومياً إلى العمل ورحلات العمل تؤدي إلى ممارسة التمارين الرياضية بقدر أقل وأيضاً حضور عدد أقل من المناسبات الاجتماعية، وبالتالي يصبح عالمهم مقتصراً بشكل عام على العمل وعدد قليل من الأصدقاء المختارين. ويلي ذلك شراء منزل وتكوين أسرة، ما يحد من التفاعلات الاجتماعية ويزيد من الضغوط المالية بشكل أكبر، وبالتالي يصبح العمل أكثر أهمية من ذي قبل.
في هذه المرحلة، يبذل هؤلاء المسؤولون التنفيذيون جهداً مضاعفاً وينتقلون إلى منزل أكبر في منطقة أفضل أو ينتقلون إلى منطقة بها مدارس رفيعة المستوى بحيث يشعرون أنه الوضع الطبيعي الذي يجب أن يفعله المُعيل الجيد. أي أنهم يحسِّنون مستوى معيشتهم مرتين. تقودهم هذه الخطوة إلى الدوران في حلقة مفرغة، حيث لا يوجد وقت للأصدقاء (وأحياناً العائلة أيضاً) ويحدد العمل شكل حياتهم بأكملها لمدة 5 إلى 8 سنوات. فهم يبتعدون عن الأشخاص والأنشطة التي كانت تساعدهم في التغلب على الشعور بالضغط الذي وضعوا أنفسهم تحته. وإذا كانت تلك الأنشطة متعلقة بمهارة ما مثل رياضة التنس أو الجري مع مجموعة من الأفراد، فسيكون من شبه المستحيل معاودة ممارستها مع هؤلاء الذين لم ينقطعوا عنها.
إذا كانوا محظوظين سيدركون ذلك في لحظة إلهام مثل صديقي الذي يعمل في إحدى شركات وادي السيليكون. وإن لم يكونوا كذلك، فسينتهي بهم الأمر مصابين بالاحتراق الوظيفي أو مطلقين أو يمرون بأزمة.
درست أنا وزملائي هؤلاء الأشخاص لما يزيد عن عقدين من الزمان، ولاحظنا أن هناك مجموعة صغيرة من الأشخاص لم تقع فريسة لهذه الحلقة المفرغة، ويتسمون بأنهم من ذوي الأداء العالي في مؤسساتهم كما أن مستويات الرفاهة والسعادة لديهم مرتفعة. وقد أمضينا بعض الوقت في تحديد ما الذي يجعلهم قادرين على إدارة حياتهم المهنية الناجحة مع الحفاظ على الأنشطة الاجتماعية المهمة التي تشعرهم بالسعادة.
ووجدنا أنهم دائماً ما كانوا يبنون علاقات صادقة وحقيقية ويحافظون عليها في مجموعتين أو ثلاث أو أربع مجموعات خارج نطاق العمل: الأنشطة الرياضية، والأعمال التطوعية، والتجمعات المدنية أو الدينية، والنوادي الاجتماعية مثل نوادي الكتب. وعلى النقيض، فإن الأشخاص الذين فشلت زيجاتهم أكثر من مرة أو الذين لا يتمتعون بصحة جيدة على الإطلاق أو الذين تساهلوا ببساطة في تربية أبنائهم، هم الذين سمحوا لحياتهم أن تصبح ذات بُعد واحد، ألا وهو العمل، حيث إن النجاح في وظائفهم هو فقط ما كان يحدد النجاح في حياتهم وأخرجهم ببطء من جميع هذه المجموعات والأنشطة.
إذن، كيف وصلوا إلى هذا الحد؟ في الواقع، لقد فعلوا ذلك بحسن نية. من الطرق المغرية التي نبرر بها اختيارنا التركيز على العمل وحده هو النظر إلى الحياة من منظور المُعيل الذي يرى أنه بذلك يضحي من أجل عائلته. لا نعني أن التضحية من أجل العائلة خيار سيئ. بل على العكس، فهي من الركائز بالغة الأهمية في حياتنا. ولكن عندما يكون كل ما نفعله لأجل عائلتنا هو العمل وعندما يكون هذا هو ما يحدد هويتنا، فنحن في الواقع لا نعيلهم بالطريقة التي كنا سنفعل ذلك بها إذا كنا نحافظ على تلك الروابط الاجتماعية الأخرى. ومن قبيل المفارقة فإن التركيز على إعالة العائلة من خلال العمل وحده يسلبنا صحتنا ورفاهنا ويجعلنا ضعفاء وهشين.
قد تشعر، وخاصة في هذه الأيام، حيث يفكر الكثير من الأشخاص بعمق أكبر في المعنى والهدف، أنك أصبحت هذا الشخص أحادي البُعد الذي لا يتمتع بصحة جيدة ويشعر بالضعف والهشاشة. ولكن يمكنك أن تغير مسارك وتعود إلى ممارسة الأنشطة وبناء الروابط الاجتماعية التي ستحسن حياتك وحياة أحبائك.
الأفكار الثلاثة التالية ستساعدك على البدء.
1. أجرِ تغييرات على جانب واحد فقط من حياتك لخلق تفاعلات متنوعة تولد لديك الشعور بالهدف
يُبنى شعورنا بالهدف في الحياة من خلال تفاعلاتنا داخل نطاق العمل وخارجه. وبالنسبة إلى الكثيرين يُعد العمل مصدراً مشروعاً للشعور بالهدف، إلا أن العلاقات التي نبنيها مع الأشخاص من حولنا هي مصدر شعورنا بالهدف والمعنى بنسبة 50% أو أكثر. فشعورنا بالهدف لا يتعلق بطبيعة عملنا فحسب، ولكنه يتعلق أيضاً بشبكات العلاقات التي نبنيها حول العمل، حيث إن الأشخاص الذين يقومون بعمل نبيل في مختلف المؤسسات، كعلاج الأمراض وإنقاذ حياة الأطفال وتعليم الأفراد، يمكن أن يكونوا من بين الأشخاص الأكثر تعاسة، في حين أن هؤلاء الذين يقومون بأشياء يبدو أنها عادية وروتينية لديهم شعور أقوى بالهدف. ما يعني أن العلاقات في كل من العمل والحياة الشخصية تخلق شعوراً بالهدف. من بين العلاقات التي تخلق شعوراً بالهدف في العمل:
القادة والثقافة المؤسسية: العمل مع قائد ملهم أو لتحقيق رؤية ملهمة، أو أن تكون جزءاً من ثقافة تشجعك على فعل الصواب والاهتمام بنجاح زملائك في العمل.
الأقران: المشاركة في بناء مستقبل مثمر والعمل مع هؤلاء الذين يشاركوننا القيم نفسها بصدق.
الفرَق والموجهون: خلق بيئة للأقران والزملاء في الفريق والمتعلمين يمكن فيها تحقق النجاح والازدهار عن طريق تقديم المساعدة وتحقيق النمو ومشاركة خبراتك في التعلم والتحلي بالشفافية وإظهار ضعفك دون خوف.
المستهلكون وأصحاب المصلحة: الحصول على تأكيد من المستهلكين على جدوى المخرجات، كالتوصل إلى علم يساعد في علاج الأفراد أو تصميم منتجات تحسن حياتهم.
من بين العلاقات التي تخلق شعوراً بالهدف في الحياة الشخصية:
الجانب الروحي: التفاعلات التي تتمحور حول الدين والموسيقى والفن والشِعر والجوانب الحسية الأخرى في الحياة التي تضع العمل ضمن سياق أوسع.
المشاركة المدنية والتطوعية: الانضمام إلى مجموعات هادفة والمساهمة فيها يحسن صحتك نظراً إلى شعورك بالعطاء ويتيح لك التواصل مع أشخاص متنوعين ويماثلونك في التفكير.
الأصدقاء والمجتمع: بناء علاقات من خلال الأنشطة الجماعية كالأنشطة الرياضية ونوادي الكتب، والحفاظ على وجود علاقات جيدة مع آباء الأطفال.
العائلة: رعاية أفراد العائلة ونمذجة السلوكيات التي تُعد موضع تقدير، إلى جانب الحفاظ على علاقات جيدة مع أفراد العائلة الأكبر من خلال التفاعل معهم.
الهدف هنا ليس تغيير حياتك فجأة لمعالجة هذه الأمور كلها، ولكننا نريدك أن تبدأ بالتغيير في جانب واحد فقط. يمكنك إجراء النشاط التالي لمعرفة أي من الجوانب ينبغي لك اختياره.
اطلع على الشكل الموضح أعلاه، ثم اتبع الخطوات التالية. أولاً، أعطِ 100 نقطة للدوائر التي تمنحك في الوقت الحالي أكبر قدر من الشعور بالهدف. والدوائر التي لن تعطيها 100 نقطة هي تلك الدوائر التي قد تضيف أبعاداً إلى حياتك.
ثانياً، في منتصف كل دائرة حدد جانباً واحداً إذا أدخلت تغييرات عليه سيكون له أكبر تأثير على أكبر عدد من الدوائر. إذا لم يتضح لك الأمر على الفور، فكّر في اهتماماتك السابقة. غالباً ما تكون العودة إلى ممارسة الأنشطة الرياضية والهوايات ومواطن الشغف هي الخطوة الأولى التي يتخذها الأشخاص الذين كانوا ثابتين على هذا الوضع منذ أمد طويل بغية الانضمام إلى مجموعات جديدة. وبمجرد أن تختار إحدى الدوائر، التزم بتحقيق هدف في تلك الدائرة من خلال التواصل مع مجموعة الأفراد داخلها. ضع قواعد صارمة واجعل أفراد عائلتك يشاركون في تعزيز مساعيك.
وبعد أن توطد هذا التحول في حياتك، أجرِ هذا النشاط مرة أخرى أو مرتين. وستكتشف، كالآخرين الذين أجروا هذا النشاط، أن الأعذار التي كنت تختلقها لعدم بنائك علاقات خارج نطاق العمل، كانت مجرد أعذار. وقد اتضح الآن أن لديك الوقت لفعل ذلك وأن العمل سيتكيف مع إدخال هذه التغييرات إلى حياتك إذا سمحت له بذلك.
2. تعمَّد الاهتمام باللحظات الصغيرة
احرص على المشاركة في تلك الأنشطة بعزم أكبر حتى عندما يبدو أن هناك القليل من الوقت لإنجاز الكثير من الأشياء. وركز على كيفية تشكيل التفاعلات التي تواجهنا في وقتنا هذا ولا تجعلها هي التي تشكِّلك. على سبيل المثال:
عِش "اللحظات المميزة": عندما تُظهِر للآخرين في اللحظات المميزة أنك تؤمن بقدراتهم أو عندما تدعمهم وترفع من شأنهم أو عندما تساعدهم على القيام بما هو صائب، فذلك سيساعدك على معرفة القواسم المشتركة بينكم وتفهُّم تطلعاتهم، حيث إن تغيير الطريقة التي نشارك بها في علاقاتنا الحالية غالباً ما يكشف عن الطرق التي يمكن بها للأفراد في شبكة علاقاتنا الحالية أن يغذوا الشعور بالهدف داخلنا.
أوجِد حواراً دائماً حول ما يستحق بذل الجهد من أجله: الأشخاص الذين يتغلبون على أوقات الأزمات التي تواجههم في الحياة هم الذين يقضون وقتاً أطول في الحديث مع الآخرين حول طرق عيش الحياة. على سبيل المثال، كوّنت مسؤولة تنفيذية ناجحة مجموعة مكونة من الأفراد الذين تعتمد عليهم في الأوقات العصيبة. فعلى عكس الموجهين التقليديين، كانت هذه المجموعة تشتمل على شباب ومسنين وأشخاص من جميع مناحي الحياة، ولكنهم كانوا يساعدونها باستمرار على التفكير في كيفية العمل مع وجود هدف تسعى إلى تحقيقه.
عاود بناء العلاقات: غالباً ما تُبنى العلاقات القوية في الظروف الصعبة. فالطريقة التي تتعامل بها مع الآخرين في المواقف الصعبة وقدرتك على رؤية الفرص المتاحة وأن تكون استباقياً وتواسي الآخرين، جميعها أشياء ستساعدك على تخطي الأوقات العصيبة وبناء علاقات قوية مع الأشخاص الذين تلجأ إليهم في تلك الأوقات.
3. استغل فترات التحول بشجاعة
انظر إلى التحولات على أنها فرص وليس تهديدات، لاكتشاف ذاتك من جديد والارتقاء بها. لاحظ الأشياء التي تستنزف شعورك بالهدف وابتعد عنها، ثم استثمر وقتك في ممارسة أنشطة جديدة وبناء مجموعات جديدة ترغب في الارتباط بها وتشعر أنها ستكون جزءاً إيجابياً من شعورك بالهدف. والأهم من ذلك أن تتمسك بها حتى عندما يبدو الأمر مخيفاً أو صعباً بالنسبة إليك.
لنأخذ على سبيل المثال مسؤولة تنفيذية في شركة عالية التقنية، وعلى مدار حياتها المهنية التي تمتد إلى 20 عاماً تحولت إلى شخص لم تخطط لأن تصبح عليه. فقد أثّرت وظيفتها على صحتها وهويتها سلباً وجعلتها تعاني من الاحتراق الوظيفي ببطء، ثم استقالت من تلك الوظيفة التي يحسدها الكثيرون عليها. وقررت أن تركز على الاهتمام بصحتها وأن تحاول ممارسة اليوغا. وعندما علم زوجها بتوجهها المثير للسخرية، وعدته أنها ستجرب فعل ذلك لثلاث مرات فقط. في المرة الأولى دارت بعينيها على الحاضرين الذين كانوا لطفاء للغاية. وفي المرة الثانية سخرت من مدربها "الطائش" و"غريب الأطوار" دون أن تبدي ذلك. وفي المرة الثالثة تحملت بشكل أفضل قليلاً ولكنها مع ذلك شعرت أن قدرتها على التحمل قد نفدت. وعندما انتهى الصف سار المدرب في الغرفة ولمس رأس كل شخص. تفاجأ أصدقائي بشدة لأنها انفجرت في البكاء. وعندما حللتْ الأمر أدركت أن هذه كانت المرة الأولى التي سمحت لنفسها بأن تظهر ضعفها وأن تكون على طبيعتها منذ وقت طويل. فقد شعرت أنها ليس عليها أن تتكلف أو تتظاهر بأي شيء. وشعرت بالإرهاق مما كان يبدو سهلاً. ولكنها عبّرت عن ضعفها هذا أمام الغرباء الموجودين في الغرفة، وهو شيء قد لا يتقبله الموظفون في شركتها. وأصبح التفكير في المستقبل وممارسة اليوغا جزءاً رئيسياً من حياتها وحياة زوجها، كما أصبح يحدد أيضاً جزءاً كبيراً من عالمهم الاجتماعي وحتى إجازاتهم. ولكن لم يكن هذا ليتحقق دون الجهد الذي بذلته وإصرارها على القيام بهذا التحول. فالعلاقات التي كوّنتها من خلال هذا التحول أضافت أبعاداً ومنظورات لم تكن موجودة في حياتها عندما كان العمل مهيمناً عليها. وأصبحت أيضاً مصدراً لزيادة قدرتها على التحمل والصمود. كما أن تلك العلاقات ساعدتها على عيش حياتها بشجاعة وفقاً لشروطها بدلاً من العيش وفقاً لتعريفات الآخرين للنجاح.
لاكتشاف لحظات الإلهام والاستفادة منها مثلما فعلت هذه المسؤولة التنفيذية، ضع في اعتبارك ما يلي:
ابدأ عملية التحول عندما تبدو حياتك بلا معنى: ستلجأ إلى الاسترخاء عندما تشعر بالراحة أو عندما تشعر أنك بحاجة استجماع قوتك لاجتياز موقف ما. ولكن يجب عليك بدلاً من ذلك أن تقبل التحديات. احرص على إحداث تحولات في حياتك بالتواصل المبكر واسع النطاق لبناء علاقات من خلال الأنشطة الحالية التي تستمتع بها (سواء كانت إيمانية أو رياضية)، وابدأ في ممارسة نشاط واحد جديد على الأقل.
ركّز على طموحاتك وسلوكياتك وعلاقاتك: استغل هذا التحول للتفكير في الأهداف والطموحات المحددة اجتماعياً أو الاتفاقات السابقة التي شكَّلتك. وفكّر في طريقة لاستثمار وقتك في العمل الذي ترغب في فعله أو في نشاط تمارسه مع الآخرين وسيضيف بُعداً وعمقاً إلى حياتك.
احذر من الصدمات أو الأحداث المفاجئة التي تبعدك عن قيمك. لا تدع رد فعلك تجاه الأوقات العصيبة أو تجاه ما يحدث في فترات زمنية محددة يبعدك عما ترغب في أن تكون عليه، فما يبدو أنه وضع مؤقت غالباً ما يصبح جزءاً لا يتجزأ من التوقعات حولك.
نعيش أوقاتاً عصيبة بلا شك، ولكن في الغالب نحن مَن نشكِّل تجاربنا. ولم يسبق لنا في التاريخ امتلاك قدرة أكبر من التي نمتلكها الآن على تشكيل ما نفعله ومع مَن نفعله.
فلا تتنازل عن هذه القدرة على التحكم. وإذا فقدتها، استردها. فقد شهدت ذلك مراراً وتكراراً مع هؤلاء الذين يتحلون بأقصى درجات الشعور بالهدف والسعادة.
اقرأ أيضاً: عندما تفقد الشغف.