أصيب العالم في بداية هذا العام بجائحة "كوفيد- 19"، حيث وجدت بلدان عدة نفسها في ومضة عين تحت إغلاق كامل. ولمجابهة التحديات التي أفرزها الوباء، اتجهت الحكومات والشركات نحو التكنولوجيا من أجل المساعدة، حيث وجدت بعض المؤسسات نفسها بين ليلة وضحاها تعتمد على أسلوب العمل عن بعد بشكل كلي، واستخدمت مؤسسات أخرى تحليل البيانات وتطبيقات الهاتف المحمول للمساعدة في تتبع وعزل الحالات المصابة، بينما قامت شركات أخرى بتسريع العمل على المشاريع ذات الوتيرة البطيئة حول استخدام أنظمة الحوسبة السحابية والأمن السيبراني ومرونة الأعمال، وفي خضم هذه الفوضى، وجدت بعض الدول والمؤسسات حتمية مواكبة العصر الرقمي بأسرع مما كانت تخطط.
كيف استعدوا لذلك؟ هل حالفهم الحظ؟ ما هي التحديات التي واجهتها كل مؤسسة وكل دولة؟ أم كان لهم رؤى مستقبلية واستطاعوا رصد العلامات وبناء الاستراتيجيات مبكراً؟ لنتمهل قليلاً ونحلل الأسباب التي أوصلتنا لما نحن عليه.
التحول الرقمي
استناداً إلى تقرير أعدته مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، توصلت دراسة حديثة أُجريت على مدراء ومسؤولين تنفيذين كبار أن مخاطر التحول الرقمي هي الهاجس الرئيس لديهم في عام 2019، وعلى الرغم من ذلك فإن 70% من كل مبادرات التكنولوجيا الرقمية لم تحقق أهدافها المنوطة بها؛ حيث صُرف ما مجموعه 1.3 تريليون دولار على التكنولوجيا الرقمية في العام الماضي، ويُقدر أن حوالي 900 بليون دولار قد صرفت دون أي فائدة، ويعود ذلك إلى أن بعض جهود التكنولوجيا الرقمية تنجح بينما يفشل البعض الآخر.
إن بعض التحديات التي تؤدي إلى فشل التحول الرقمي هي: تحديات الأمن السيبراني ومقاومة ثقافة التغيير وغياب البصيرة وفهم العملاء وغياب فهم السوق والخبرة المحدودة في التحول الرقمي وغياب الابتكار ومحدودية الميزانية. إن أي استراتيجية تحول رقمي ناجحة لا بد لها من مجابهة هذه التحديات بالاعتماد على إطار العمل المحدد.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: ما معنى التحول الرقمي؟
لقد عملت عن قرب مع مؤسسات ومنظمات في القطاعين العام والخاص، شمل العمل الذي قمنا به صناعات متنوعة ومتعددة: الرعاية الصحية والبنوك وبيع التجزئة والتعليم والنشاط الحكومي والموصلات والمالية وغيرها، بدءاً من بناء الاستراتيجية حتى إنفاذ استراتيجيات التحول الرقمي، ومن خلال هذه التعاملات تعلمت الكثير من التحديات والفرص التي تواجهها كل المؤسسات في كافة الصناعات. في هذا المقال، سأشارك إطار عمل التحول الرقمي بالإضافة إلى بعض الأفكار عن الحلول الواعدة، وكيف بالإمكان التعامل مع التحديات الشائعة التي نواجهها أثناء مضينا في رحلة التحول الرقمي.
يُعد التحول الرقمي ممارسة شمولية تتضمن تحويل وتغيير ما اعتاده الناس وكيفية عملهم وطرق سير العمل، بالإضافة إلى استخدام التقنيات والبيانات، والرقمنة هي استخدام التقنيات والابتكارات لتحويل كل العناصر والوظائف والهيكلة والعمليات بشكل جذري لتتناسب مع احتياجات الحاضر والاستعداد للمستقبل، ويمكن أن يتم تفسير هذا المعنى بشكل متباين بحسب كل صناعة.
بغض النظر عن نوع الصناعة فالتحول الرقمي ينحصر في ثلاثة أمور:
- تحول تجربة المستخدم النهائي: المريض والطالب والمواطن والمسافر والسائح وغيرهم.
- تحول تجربة القوى العاملة: مثل الطبيب والممرض والمعلم والأستاذ الجامعي وموظف البنك وغيرهم.
- الالتقاء والتكامل بين تقنية المعلومات والتقنية التشغيلية: الدمج بين تقنيات المعلومات وتقنيات الأعمال الصناعية.
كما يشمل إطار عمل التحول الرقمي على ثلاث ركائز هي:
1- القوى البشرية.
2- الإجراءات والعمليات.
3- التكنولوجيا.
وكل استخدام للتكنولوجيا والبيانات، وكل المبادرات ومساعي تنفيذ استراتيجيات التحول الرقمي ستندرج تحت واحدة من هذه الركائز.
لا بد لاستراتيجية التحول الرقمي الناجحة أن تتقاطع بين العالمين الخارجي والداخلي. في العالم الأول يكون العميل (المستخدم النهائي) هو مركز الاهتمام، حيث تكون نظرتنا على سير العالم من الخارج إلى الداخل، بينما في العالم الثاني يكون الموظفون (القوى العاملة) هم مركز الاهتمام وهنا تكون نظرتنا من الداخل إلى الخارج.
إطار عمل التحول الرقمي بسيط للغاية ومع ذلك فهو قوي بشكل مبهر؛ فهو عبارة عن مصفوفة ثلاثية الأبعاد. الجزء العمودي منها هو العميل (حيث المركزية هي المستخدم النهائي) وتحول القوى العاملة وإدماج وإيصال تكنولوجيا المعلومات مع التكنولوجيا التشغيلية، أما الجزء الأفقي فهو يشمل إحداث الاضطراب على مستوى: الأشخاص وإجراءات العمليات واستخدام التكنولوجيا.
على سبيل المثال؛ يهدف التحول الرقمي في الرعاية الصحية إلى تحويل رعاية المرضى وخبرة الأطباء والممرضين والأدوات التي تستخدم لتقييم المريض والخدمة، أما في مجال التعليم يقوم التحول الرقمي بتحويل تعليم الطلاب وخبرة المعملين والمنشأة بالإضافة إلى توفير أدوات متطورة رقمياً وأكثر ملائمة للتعليم. عندما نتحدث عن التحول خلال كل من هذه الركائز فإننا نعني تحولاً نحو التغيير الفعلي في كل من العملية والقوى العاملة والدمج واستخدام البيانات والتكنولوجيا وغيرها، نعني كذلك مصفوفة حقيقية من الناس والعمليات والتقنيات تتقاطع مع المستهلكين النهائيين والقوى العاملة وتقنية المعلومات أو تقنية المعلومات الصناعية.
الحوكمة الرقمية
يشمل هذا العصر الرقمي الجديد أيضاً على التحول الرقمي في الوكالات العامة؛ إذ إنه يجب على الحكومات أن تتخلى عن الطرق التقليدية في التشغيل وأن تتطور إلى كيانات تكنولوجية رقمية لتتناسب مع احتياجات يومنا الحالي. سرَّعت جائحة "كوفيد- 19" من تطوير طريقة عمل الحكومات، فمعظمها الآن تم دفعُها للعمل عن بعد وتقديم الخدمات وتسهيل الأمور الحياتية. على سبيل المثال مبادرة التحول الرقمي التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، والتي تهدف إلى الاستفادة من نقاط قوة المملكة، لتأخذ موقعها عالمياً و"تصبح إحدى الدول العشرين الأعلى في الابتكار الرقمي".
إن الهدف هو جعل المملكة العربية السعودية مثالاً يحتذى به بين الأمم التي تمكنت من دمج كل أقسامها الرئيسية والفرعية في إطار عمل موحد قادر على التحول في السرعة والمدى، من خلال النموذج المثالي في التعاون والشراكة بين عدة كيانات مثل: "وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات"، و"وزارة الداخلية"، و"الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي" وغيرها، حيث تمكنت المملكة العربية السعودية من أخذ خطوات جبارة نحو مستقبل رقمي وحققت في أشهر قليلة ما كنا سنحتاج إلى سنوات للوصول إليه، ويرجع هذا إلى رؤية القادة الذين وضعوا الرؤية القوية قبل أربع سنوات وعقدوا العزم على إخراج العمل إلى النور.
الصحة الرقمية
أما في مجال الرعاية الصحية كان هناك احتياج إلى أدوات متنقلة تسمح للمستشفيات أن تقدم رعاية أكثر كفاءة للمرضى وتقلل من الأخطاء البشرية، احتاجت المستشفيات بعد جائحة "كوفيد- 19" إلى استخدام وسائل الاتصالات التي تسهل التشخيص عن بعد وتردد المرضى، لكن للأسف نسبة ضئيلة من مؤسسات الرعاية الصحية استثمرت في الأدوات الرقمية وقد ظهر ذلك في المقارنة مع مؤسسات أخرى تخلفت عن الركب بعد حدوث هذه الجائحة، فمثلاً "مؤسسة تيلادوك للصحة" (TDOC) وهي مؤسسة رعاية صحية استثمرت بشكل كبير في التطبيب عن بعد وكانت تنمو بثبات لكن بعد الجائحة قفزت قيمة أسهمها إلى السماء بحوالي 105% بسبب ازدياد الطلب على الرعاية الصحية عن بعد.
وفي المملكة العربية السعودية، وضعت المملكة آليات وخدمات صحية خلال هذه الجائحة أدت إلى نتائج إيجابية كبيرة، منها تقديم أكثر من مليون استشارة طبية عن بعد بمساعدة تطبيق صحة ومركز الاتصال؛ وكذلك السجل الطبي الإلكتروني الموحد في المملكة الذي يمكن العاملين في الرعاية الصحية من القيام بعملهم بشكل فعال على اعتبار أنهم مزودو ببيانات مرضاهم في الحال وفي كل مكان، وأسهم ذلك في تقليل الأخطاء الطبية والتشخيصية كما قلل من الآثار الجانبية للأمراض. وأنشأ أكثر من 11 مليون سجل إلكتروني لـ 34% من سكان المملكة، ما أدى إلى توفير 752 مليون ريال سنوياً.
التعليم الرقمي
التحول الرقمي في التعليم هو تحول لإثراء تجربة الطلاب من خلال تمكين المؤسسات التعليمية من استخدام أنظمة الاتصال والتعليم عن بعد ذات الجودة العالية، وبعد حدوث جائحة "كوفيد- 19" اضطرت الجامعات والمدارس إلى الانتقال من التعليم في الفصول إلى التعليم عن بعد بين ليلة وضحاها، فالمدارس التي استثمرت سابقاً في تدريب العاملين كان لها تجارب انتقال أسهل من غيرها بينما المدارس التي كانت عالقة في أنماط التعليم التقليدية خسرت الكثير من الوقت من أجل التكييف على الطرق الجديدة في التعليم.
وفقاً لنموذج الاقتصادي العالمي _حتى قبل جائحة "كوفيد19"_ كان هناك بالفعل نمو كبير وتكيف في تكنولوجيا التعليم؛ مع بلوغ استثمارات تكنولوجيا التعليم إلى 18.66 مليون دولار أميركي في عام 2019 وبلوغ إجمالي سوق التعليم عن بعد لتصل إلى 350 مليون دولار بحلول عام 2025، وبعد حدوث الجائحة اضطرت المؤسسات التعليمية لتسريع عمليات التحول واستخدام أنظمة التعليم عن بعد وتحديث أدوات التواصل بالفيديو مثل "سيسكو ويبكس" (Cisco Webex) لتمكين التعليم عن بعد مع المدرسين والطلبة. حتى الاختبارات يتم عملها بواسطة تقنيات التتبع الخاصة بمراقبة الامتحانات من أجل الأمان والتباعد الاجتماعي أثناء هذا الوقت التجريبي، أحد الأمثلة على ذلك هو برنامج "نور" في النظام التعليمي السعودي. إذ يربط برنامج "نور" كل المؤسسات التعليمية في المملكة عن طريق قاعدة بيانات مدمجة توفر العديد من الخدمات المتعلقة بكل المراحل في التعليم العام بهدف تطوير جودة الخدمات الرقمية وتحسين الخلاصة الرقمية، هذا البرنامج له أكثر من 10.1 مليون مستخدم نشط وأكثر من 3.2 مليون ولي أمر مسجل مع أكثر من 6.3 مليون طالب وأكثر من 53 ألف معلم.
إن الأثر الذي خلفته جائحة "كوفيد-19" على المجتمع هائل بلا شك، لكن أثرها على التحول الرقمي يعتبر هو الأثر الكبير، بغض النظر عن المجال الذي أثرت فيه الجائحة. فتقريباً كل المؤسسات في كل القطاعات وجدت نفسها مضطرة لتبني أو تسريع خطط الأعمال والتحول الرقمي بعد جائحة "كوفيد-19"، ولا شك لدي أن التكنولوجيا ستستمر في تغذية وتسريع هذا التحول بشكل ضخم في كل المجالات، والحظ الأوفر والأكبر سيكون من نصيب الذين يخاطرون ويسارعون إلى تبني مشاريع التحول الرقمي بصورة فعالة ومرنة.
إن اتباع إطار عمل واقعي وقابل للتنفيذ سيساعد المؤسسات على مواكبة التحول في العصر الرقمي الحتمي، وإن تطبيق العمليات والتكنولوجيا الحديثة ومقاطعتها مع تجربة العملاء وتحول القوى العاملة وتقنية المعلومات وتقنية المعلومات التشغيلية، سيؤدي إلى نجاح الأعمال.
هناك المزيد من التفاصيل عن كل هذه العناصر وكيفية بناء الاستراتيجيات الفعالة من أجل الاستفادة من هذه المرحلة بصورة كبيرة، وفي هذه المقالة شاركت بعض الرؤى التي توضوح كيف استطاعت الكثير من المؤسسات النجاح في مواكبة العصر الرقمي وكيف استطاعت أن تتحول بشكل فعلي، بينما لا تزال المؤسسات الأخرى تعاني.