طلب آندرو هافنبراك، الأستاذ المساعد في كلية كاتوليكا لشبونة للأعمال والاقتصاد، من بعض المشاركين في إحدى تجاربه ممارسة التأمّل لمدّة 15 دقيقة، في حين طلب من مشاركين آخرين أن يأخذوا استراحة لقراءة الأخبار أو التفكير في حياتهم. ثمّ طلب من الناس في كلتا المجموعتين أداء مهمّة معيّنة، مثل تحرير خطاب تعريفي، وقبل الشروع في إنجاز المهمّة استطلع آراءهم ليعرف مدى حماستهم لإنجازها والوقت الذي سيقضونه في الإنجاز. شعر من مارسوا التأمّل بحماس أقل لأداء المهمّة، وقالوا بأنّهم سيخصّصون وقتاً أقل لها. فماذا كانت الخلاصة؟
أستاذ هافنبراك، دافع عن بحثك العلمي
هافنبراك: كنت أنا وشريكتي في تأليف الدراسة كاثلين فوهس قد توقعنا بأنّ ممارسي التأمّل سوف يُظهرون دافعاً أقل. وقد تبيّن إحصائياً بأنّ مستوى دافعيتهم كان أقلّ بمقدار 10% فعلياً بالمقارنة مع المستوى المسجّل لدى الناس الذين لم يمارسوا اليقظة الذهنية (Mindfullness). وهذه ليست نتيجة لا معنى لها، لكن ما فاجأنا هو أنّ من كانوا ضمن صفوف مجموعة اليقظة الذهنية، وعلى الرغم من شعورهم بحافز أقل، إلا أنهم استكملوا إنجاز المهام المطلوبة منهم بذات القدر من الجودة الذي لاحظناه لدى مجموعة الضبط. أجرينا 14 نسخة من هذه التجربة، وفي كل واحدة منها نجح المتأمّلون في إنجاز المهمّة بالمستوى ذاته من حسن الأداء. وفي إحدى الحالات، كان أداؤهم أفضل حتّى.
هارفارد بزنس ريفيو: إذن هم لا يشعرون بالحماسة لكنهم يتمتّعون بالكفاءة؟ هذا صحيح، لكنّه كان أمراً غير متوقع. إذا نظرت إلى الأدبيات العلمية الخاصّة بوضع الأهداف، ستجد أنّ هناك ما يقارب 500 دراسة أظهرت وجود ارتباط بين الدافع والأداء. فأصحاب الدافع الأكبر يقدمون أداءً أفضل والعكس صحيح. ومن غير المعتاد جدّاً أن ترى الدافع والأداء يسيران في اتجاهين متعاكسين. هذا أمر غريب وحسب.
كيف يمكن أن يوجد تناقض بينهما؟ كان المتأمّلون أقل تركيزاً على المستقبل وأكثر استرخاءً، وبالتالي يمتلكون دافعاً أقل، وهذا الأمر كان يجب أن يخفّض مستوى أدائهم. لكنّ بعض عناصر تجربتهم كانت مفيدة لها. وعلى وجه التحديد، أعطاهم التأمّل فسحة للتخلّص من التوتر والالتزامات والقلق، ممّا ساعدهم في إبداء تركيز أفضل في المهمّة التالية. وعندما تعلّق الأمر بالأداء، يبدو أنّ التأثير السلبي لتراجع الدافعية والتأثير الإيجابي لتزايد التركيز على المهمّة قد عاكسا بعضهما بعضاً.
ربما تراجعت الدافعية لأنّ هؤلاء الناس لم يكونوا من المتمرّسين في التأمّل؟ من الصحيح القول إنّ هذه النتيجة تستند إلى جلسة تأمّل واحدة. ولا أعلم إذا كان المشاركون في دراساتنا لديهم تجربة في التأمّل أم لا. ومن المنصف التساؤل عما إذا كانت النتائج ستختلف في حالة الشخص المتمرّس في التأمّل. ولكن إذا كان الناس يستعملون التأمّل كآلية يلجؤون إليها للتكيّف عندما يشعرون بالتوتّر، فإنّني أعتقد أنهم سيتجاوبون بالطريقة التي رأيناها في دراساتنا.
ربما تكون المهمّة التي أنجزوها هي ما أفقدهم الدافع، وليس حقيقة أنهم كانوا مسترخين جدّاً. هذا أمر آخر. ربما كان الدخول في حالة من اليقظة الذهنية تساعدني في أن أرى هذه المهمّة بوصفها مهمّة غبيّة. وهذا أمر تصعب دراسته في مختبر لكنّه يستحق أن يوضع موضع البحث. لكنّ تخميني الشخصي هو أنّ حالة الاسترخاء والحضور التي تأتي من التأمّل ستظل تقلل من الدافع.
ما الذي جعلك تقرّر مهاجمة جوقة المنادين بممارسة اليقظة الذهنية؟ حسناً، أنا لست ضدّ اليقظة الذهنية، لكنّ الأبحاث التي أجريت عليه وعلى التأمّل كلّها إيجابية إلى حدّ لا يصدّق. وبين آلاف المقالات، لم أعثر إلا على خمس فقط ربما تشكّك في قيمته. وبصفتي باحثاً وإنساناً، أجد صعوبة وحسب في تصديق أنّ أيّ شيء يمكن أن يتّصف بهذا القدر من الإيجابية في كل الأوقات. لذلك، قلت لنفسي: "ما الذي يجري هنا؟ هل هناك أشياء ليست جيّدة فيما يخصّ التركيز الأكبر على اللحظة الراهنة؟" هذه كانت الفكرة، وهذا بالضبط ما توصّلت إليه دراستنا. لكنّ الأمر الذي لم نتوقعه سلفاً هو الجزء الثاني، ألا وهو عدم حصول تراجع في الأداء.
هل تعتقد أنّ نتائج من هذا القبيل سوف تقلل من بريق ظاهرة ممارسة اليقظة الذهنية؟ التأمّل الذاتي هو مسألة كبيرة ومعقّدة للغاية وهو مفهوم جاء من البوذية قبل 2000 عام. لكن قبل 40 عاماً فقط بدأ أشخاص مثل جون كابات زن، وميراباي بوش، وجاك كورنفيلد ينادون بممارسة التأمّل واليقظة الذهنية ونشرهما على نطاق شعبي في الغرب. لكنّ المفهوم تغيّر وأصبح ذا طابع علماني وقلّ تركيزه على الاعتبارات الفلسفية الأصلية بخصوص كيفية معاملة الناس. لم يعد هناك تعريف للتأمّل الذاتي وهل هو صلاة أم تأمّل أم دروس يوغا. لقد بتنا نتحدّث عن شيء معيّن دون أن نكون متفقين على تعريفه ومعناه.
كما بات هذا المفهوم بين أيدي المسوّقين أيضاً، وهو نموذج مثالي لشيء خارج عن نطاق أي تشريعات أو جهات ناظمة ترعى شؤونه. فلا أحد يستطيع مقاضاتك على مزاعمك الخاصّة بممارسة اليقظة الذهنية كما لا يستطيع مقاضاتك في حالة الترويج لمنتجات عضوية. لذلك بوسعك الآن شراء مايونيز واعٍ ذاتياً في متجر البقالة.
هل هذا معقول؟! نعم، هذا صحيح. ولعلك تتساءل كيف يمكن للمايونيز أن يكون متنوّراً؟ بل هناك ما هو أكثر من ذلك، فقد رأيت شركة ملابس تستعمل شعار "ملابس للرجل اليقظ" وشركة أخرى توفّر "ثياب يقظة" للنساء. هم يدفعون الأمر إلى أقصى حد ممكن. أنا أساساً عالم وليس لدي ناقة ولا جمل في هذه المسألة، لذلك فإنّ الأمر لا يزعجني كثيراً. لكنّني أرى كيف ينزعج الآخرين عندما تنطق بأي كلمة سلبية بحق اليقظة الذهنية.
هل واجه بحثك ردود أفعال غاضبة؟ نعم! النقد اللاذع لآرائي هو مجرّد نقد بسيط حتى أنه لا يرقى إلى مستوى النقد وإنما ملاحظة بأنّ التأمل في بعض الحالات المحدّدة جدّاً قد يعطي نتائج معاكسة. وقد أطلق علينا البعض أوصافاً متطرّفة لا تنم عن أي يقظة ذهنية.
هل ستواصلون إجراء المزيد من الأبحاث حول فقاعة اليقظة الذهنية؟ بشكل عام، أنا مهتم بالتداخلات والأشياء التي يمكننا فعلها لمساعدة الناس على الإحساس بشعور أفضل وتقديم أداء أفضل. كما أنّني مهتمّ أيضاً بمعرفة السبب الذي يجعل التداخلات تعطي نتائج عكسية. لن أحوّل عملي على هذا الموضوع إلى مسيرة مهنية، لكنّه مسألة جديرة بالاستكشاف لأنّ الناس يطبّقون برامج للوعي الذاتي في المؤسسات. وتكلفة الفرصة البديلة لتطبيق هذه البرامج تعتبر مرتفعة. اليقظة الذهنية ليس أمراً خطيراً أو شيء من هذا القبيل بل هو عموماً شيء جيّد، ولكن يجب أن نضمن تطبيقه بطريقة لا ترتد سلباً علينا. هذا هو العنصر الذي أريد إدراجه ضمن الحوار العام الدائر بخصوص هذه القضية.
هل تمارس التأمّل؟ نعم، ولكن ليس كلّ يوم. أمارسه أحياناً ليساعدني في الخلود إلى النوم، أو قبل اجتماع أعتقد أنّه سيكون صعباً. أمارسه حسب الطلب، تماماً كما ابتلع قرصاً من الأسبرين عندما أشعر بصداع. وهناك أمر آخر أيضاً أريد إدراجه ضمن الحوار العام الدائر، ألا وهو أنّ التأمّل يغيّر شعورنا على الفور تقريباً، لذا فإنّ بعض المنافع يمكن أن تتحقّق بعد جلسة قصيرة واحدة. لسنا بحاجة جميعاً إلى التأمّل لساعة واحدة كل يوم.
هل يجب على أقسام الموارد البشرية التخلّص من برامج اليقظة الذهنية التي تطبّقها؟ آمل بحق ألا يقرأ الناس هذه النتائج ويقولوا، "حسناً، دعونا نوقف التأمّل". فنظراً لجميع المنافع الأخرى، سيكون ذلك أسوأ رد فعل ممكن. جزء من نقطة الترويج للوعي الذاتي هو أنّك لست مضطراً إلى امتلاك سبب لكي تحسّ بشعور جيّد. فاليقظة الذهنية تساعدك في التخفيف من التوتّر، وفي الإمساك بزمام حياتك من خلال ملاحظة العالم من حولك كما هو، وملاحظة ما يدور داخلك بحيث تكون قادراً على اتخاذ قرار مقصود بخصوص ما تريد فعله، عوضاً عن تجنّب الواقع أو التجاوب تلقائياً مع القضايا التي تظهر. نحن بحاجة إلى الوعي الذاتي.
اقرأ أيضاً: فنيات اليقظة العقلية