ملخص: يعد منهج التجريب في مجال الأعمال أحد المعايير الذهبية التي أثبتت جدواها لدى العلماء والممارسين الرواد. ولكن هذه الممارسة لم تجد طريقها بعد إلى استراتيجية الإعلانات اليومية لمعظم الشركات، وهذا خطأ كبير. حيث تشهد شركات التجارة الإلكترونية التي تجري تجارب إعلانية أداء أفضل بنسبة 2 إلى 3% مع كل تجربة تجريها (يقاس ذلك من خلال عمليات الشراء التي يتم تحقيقها مقابل كل دولار يتم إنفاقه على الإعلانات). في هذه الدراسة، حقق المعلن الذي أجرى 15 تجربة في عام معين (في مقابل عدم إجراء أي تجربة من قبل) أداء إعلانياً أعلى بنسبة 30% في ذلك العام؛ بينما أولئك الذين أجروا 15 تجربة في العام السابق شهدوا زيادة بنسبة 45% في الأداء.
ألقيت محاضرة مؤخراً أمام 30 مديراً رفيع المستوى مسؤولين عن النمو الرقمي في شركاتهم حول كيفية استخدام المنهج التجريبي بفاعلية في قطاع الأعمال. كنتُ قد بدأت الجلسة باستقصاء موجز يطرح السؤال التالي: مَنْ منكم أجرى تجارب على موقعه على شبكة الإنترنت وتطبيقه الإلكتروني لاختبار نماذج أو ألوان أو تصميمات مختلفة، مثلاً، أو من باب التفاعل مع العملاء؟ فرفع حوالي 90% منهم أيديهم، ثم سألتهم: مَنْ منكم أجرى تجارب على إعلاناته الرقمية، مثل تقييم استهداف جمهور المستهلكين في القطاعات المختلفة، أو معدلات تكرار الحملات الإعلانية أو أنظمة تحسينها؟ فلم يرفع إلا حوالي ثلثهم أيديهم.
قياس أثر الإعلانات
لم تفاجئني هذه النتيجة، بل أكدت ما لاحظته خلال بحثي الذي استمر لمدة عام كامل حول سلوك الشركات على منصة إعلانات "فيسبوك"، والذي خلص إلى النتيجة التالية: على الرغم من أن المنهج التجريبي في قطاع الأعمال يُعتبر بحق معياراً ذهبياً من قبل الباحثين ورواد الأعمال النابهين، فإن تطبيقه على أرض الواقع لا يلقى الصدى نفسه في معظم جوانب استراتيجية الإعلانات اليومية للشركات، فقد اعتاد الكثير من الشركات استخدام الأساليب غير التجريبية لقياس أثر الإعلانات، مثل نماذج المزيج التسويقي، ويتردد الكثير منها في اعتماد المقاييس القائمة على المنهج التجريبي جزئياً لأنها تبالغ في تقدير مدى تعقيده. يُشار في هذا السياق إلى أن معظم منصات الإعلانات الرقمية يتيح أدوات "إجراء التجارب كخدمة"، وبإمكان الفريق الرقمي الإسهام في انتقاء استراتيجيات تحسين نتائج محركات البحث وأنظمة تكرار ظهور الإعلانات أو استراتيجيات استهداف قطاعات الجمهور، على الرغم من أن بعض معايير الاختبار أكثر تقدماً مما كان متاحاً منذ فترة طويلة بشكل شائع في الحملات الإعلانية. وتبدأ الكثير من الشركات ببساطة من خلال اختبار نهجها الرقمي الحالي مقارنة بمجموعة ضبط تسمى "المجموعة الرافضة" والتي لا تتلقى أي رسائل، وهو ما يسمح لها بقياس أثر إعلاناتها الحالية مقارنة بعدم نشر إعلانات على الإطلاق، ويمكن بعد ذلك إجراء تجارب أكثر تعقيداً.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: عناصر المزيج التسويقي
وقد أجريت بالتعاون مع زملائي في "مركز أبحاث فيسبوك لعلوم التسويق" (Facebook Marketing Science Research) استقصاء رصدياً للتعرف على مدى استخدام كبرى الشركات للتجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية لقياس أثر حملة إعلانية معينة على نتائج الأعمال المختلفة قياساً إلى مرجع محدد، ولكم فوجئنا بندرة استخدام هذه المنهجية، على الرغم من توقعاتنا الأساسية بقلة عدد الشركات التي تستخدمها، حيث وجدنا أن 12.6% فقط من الشركات قيد الدراسة والبالغ عددها 6,777 شركة قد أجرت في الآونة الأخيرة تجربة منضبطة باستخدام عينات عشوائية (انظر الورقة البحثية الأكاديمية هنا).
ولن يخيب ظنك إذا افترضت أن استخدام الشركات للمنهج التجريبي يختلف من قطاع لآخر، إذ يمكن أن يؤثر عدد من العوامل في اعتماد هذا المنهج، مثل سرعة لفت انتباه المستهلك ودورات الشراء أو وجود حواجز ناشئة عن الثقافة المؤسسية (كما سيجري مناقشته لاحقاً). وقد أجرت نسبة كانت أكثر من 20% من شركات التجارة الإلكترونية والاتصالات وتجارة التجزئة تجارب في الجزء العلوي من المقياس، في حين لم يُقدِم على هذه الخطوة سوى 6.7% فقط من شركات السلع الاستهلاكية و4.2% من شركات صناعة السيارات. وغالباً ما تقُدِم الشركات التي تعتمد المنهج التجريبي على إجراء أكثر من تجربة واحدة في السنة، بمتوسط 15 تجربة لكل شركة عاملة في قطاع التجارة الإلكترونية وما يقرب من 50 تجربة لكل شركة عاملة في قطاع السفر، وعادة ما تستثمر حوالي 10% من إجمالي ميزانيتها الإعلانية في الحملات التجريبية المُقاسة. ويبدو أن هذا الاستثمار يؤتي أكله، ذلك أن شركات التجارة الإلكترونية التي تجري تجارب إعلانية يتحسن أداؤها بنسبة 2 إلى 3% لكل تجربة (كما تشير مقاييس عمليات الشراء المحققة لكل دولار يتم إنفاقه على الإعلانات). وتلاحظ الشركات المُعلِنة التي أجرت 15 تجربة في عينتنا البحثية (مقابل عدم إجراء أي تجربة على الإطلاق) في عام معين، تحسن أداء الإعلانات بنسبة 30% في ذلك العام، في حين تحسن أداء الشركات التي أجرت 15 تجربة في العام السابق بنسبة 45%، وهو ما يبرز الأثر الإيجابي لهذه الاستراتيجية على المدى البعيد.
هل هناك نفور من اتباع المنهج التجريبي في الإعلانات؟
بالنظر إلى الأثر القوي للتجارب الإعلانية، فلماذا لا يتم استخدامها بالشكل الكافي؟ توصلت إلى العديد من العقبات المؤسسية المشتركة التي قد تفسر هذه الظاهرة، وذلك من خلال حديثي مع الخبراء والباحثين في المؤسسات وخارجها.
الجمود المؤسسي: ولّت (إلى حد كبير) أيام الإعلانات بطريقة مسلسل "رجال ماد" (Mad Men)، لكن لا يزال الإبداع يشكل عنصراً أساسياً لتحقيق النجاح الدائم في الإعلانات التجارية. لعلك تتذكر نوبات غضب دونالد درابر كلما عُرِض عليه بحث يتحدى تصوراته المسبقة، ونظراً لأن خبراء التسويق المبدعين قد ينظرون بعين الشك إلى مناهج تحليل البيانات، فيجب توخي أقصى درجات الحيطة والحذر عند تطعيم عمليات الإعلان الإبداعية والبديهية بالمنهج التجريبي وصناعة القرار المستندة إلى البيانات، وصولاً إلى دمجهما في النهاية. وقد تستغرق هذه العملية بعض الوقت.
النفور من الرفض: تستلزم التجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية وجود مجموعة ضبط، وكما أشرنا سالفاً، فإن مجموعة الضبط في التجارب الإعلانية غالباً ما تكون مجموعة رافضة لا تشاهد أي إعلان.
يحد هذا بالطبع من عدد العملاء المحتملين الذين ستصلهم الحملة، ولا يروق هذا الأسلوب للكثير من خبراء التسويق الذين قد يشعرون بأن الخسائر المرتبطة باستبعاد العملاء المحتملين من الحملة تفوق فوائد التجريب، غير أن دراستنا أثبتت، كما أشرنا سالفاً، أن المعلنين الذين يجرون التجارب يحققون أداء أفضل من أولئك الذين لا يجرون التجارب، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع الجزم بأن المنهج التجريبي هو الذي تسبب في تحسين الأداء بهذا الشكل، لكن لا يمكن القول بحال من الأحوال إن استخدام مجموعات الرفض كعنصر ضبط شر محض.
متطلبات المواءمة بين الشركات: اعتاد المدراء تغيير المواقع الإلكترونية للشركة وتطبيقاتها ومواءمتها وتقييمها بانتظام من خلال الاستعانة بالمواهب الداخلية. ومن ناحية أخرى، فإن المنهج التجريبي للإعلانات يستلزم بشكل عام التعاون بين الشركات واستخدام الأدوات التي توفرها الشركات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، فقد يفتقر الكثير من الشركات إلى الثقافة المطلوبة للتعاون بين أقسام التسويق وغيرها من التخصصات اللازمة لتنفيذ تجارب الإعلانات.
رسوخ أدوات دعم اتخاذ القرار القديمة: تعتبر نماذج المزيج التسويقي أدوات راسخة وموثوقاً بها لدعم اتخاذ القرار والتي يُنظر إليها باعتبارها أدوات أقل تعقيداً من الناحية التكنولوجية وأقل تكلفة من إعداد التجارب المنضبطة باستخدام عينات عشوائية، ولكن إجراء تجارب منضبطة باستخدام عينات عشوائية على القنوات الرقمية لا يتطلب في الواقع تكنولوجيا معقدة بشكل غير عادي، ويمكن إجراؤها بتكلفة تكاد لا تذكر، ويمكن أن تسهم في تحسين نماذج المزيج التسويقي الحالية.
كيف تعتمد الشركات منهج التجارب الإعلانية؟
عملت أنا وزملائي في "فيسبوك" مع "بوسطن كونسلتينغ جروب" للتعرف على أفضل الأساليب المتبعة من قبل الشركات الرائدة لدمج المنهج التجريبي في عمليات الإعلان بنجاح. واستطعنا تحديد الخصائص المؤسسية الأربع التالية بين الشركات عالية الأداء، على الرغم من عدم وجود حل واحد يناسب الجميع.
المصادقة التنفيذية: تحتاج المبادرات التجريبية الناجحة إلى الرعاية على المستوى التنفيذي من أجل التوفيق بين أصحاب المصلحة وخلق إحساس بأهمية تغيير السلوك والقناعات القائمة. وقد تكشف تجارب الإعلانات عن أساليب جديدة قد تتطلب تخصيص ميزانية تسويقية كبيرة عبر مختلف القنوات، فإذا توصلت تجربة محددة، مثلاً، إلى استراتيجية من شأنها زيادة العائد على الاستثمار بمقدار 5 أضعاف ولكنها تتطلب تخصيص ملايين الدولارات في الميزانية دون رغبة بعض المسؤولين التنفيذيين، فقد يستلزم الأمر "تدخل كل أصحاب المناصب التنفيذية العليا، إلى جانب الدعم من قبل الرئيس التنفيذي باعتباره الداعم النهائي للتخلص من عقلية الصوامع المنعزلة في العمل"، وفقاً لما ورد في تقرير "بوسطن كونسلتينغ جروب" الصادر مؤخراً تحت عنوان "تنفيذ إجراءات قياس التسويق بالشكل الصحيح".
ثقافة الشركة: يجب أن تغرس القيادة ثقافة تعطي الأولوية لاقتفاء أثر الأدلة التجريبية الدامغة على حساب الأفكار والتصورات المسبقة. يجب غرس هذه الثقافة (وتطبيقها!) على مستوى القمة. ويمكن أن يؤدي تشكيل لجان متعددة التخصصات وتطبيق "الاختلاط القسري" في الورشات المشتركة بين الأقسام إلى تحفيز التحول الثقافي المطلوب، حيث يتناول تقرير "بوسطن كونسلتينغ جروب" حالة إحدى كبرى شركات صناعة السيارات والذي جاء فيه ما يلي: "طرحت الإدارة برنامجاً للتباحث بين مختلف التخصصات التي تشمل وحدات العمل والأقسام الوظيفية. واستخدمت هذه الجلسات بيانات متعددة الوحدات أولاً لتحديد الربحية ثم لتحديد كيفية قياسها في مختلف أفرع الشركة وكيف سيبدو النجاح للشركة المصنعة ككل". وفي حين أن مثل هذه المبادرات تفيد الشركة على نطاق أوسع، فإنها تسهم في ترسيخ أساس محوري للشركات لتمكينها من الاستفادة من الرؤى المتولدة عن التجارب الإعلانية واسعة النطاق.
الموهبة: يجب استقطاب المواهب اللازمة لإنتاج وفهم البيانات المعقدة والنتائج التجريبية ويجب منحهم الثقة من قبل كبار أصحاب المصلحة. ويمكن الاضطلاع بهذا الدور من قبل فريق علم بيانات التسويق الذي يعمل تحت رئاسة أحد المسؤولين التنفيذيين. وعلى حد تعبير أحد القادة الرقميين في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية المشار إليه في تقرير "بوسطن كونسلتينغ جروب": "فقد أصبحت أولويتنا تعيين أفضل المواهب في فريقنا الرقمي... وبوجود الأشخاص المناسبين في المكان المناسب استطعنا تحقيق نمو في المبيعات بنسبة 40% سنوياً دون زيادة الإنفاق على التسويق".
المثابرة: يعتبر المنهج التجريبي عملية تكرارية مستمرة لا نهاية لها وتؤثر في غيرها من العمليات الداخلية، وإذا أرادت الشركات جني كل مزاياها، فعليها أن تنظر إليها ليس كمهمة تكتيكية بل كركيزة استراتيجية لصناعة القرار والتفكير. قد يستغرق حشد الموارد لدعمها وقتاً طويلاً، وهو ما علق عليه نائب الرئيس لشؤون التسويق بإحدى شركات صناعة المعدات الأصلية للسيارات الذي أجرت معه "بوسطن كونسلتينغ جروب" استقصاء للرأي، قائلاً: "يظل الجميع يشككون لمدة عام كامل في النماذج الجديدة حتى يتكوّن لدينا سجل تاريخي كاف للإيمان بها".
وقد يتمثل النهج الإرشادي لطرح التجارب الإعلانية في تعيين فريق مخصص للتسويق الرقمي وتخصيص جزء من ميزانية الإعلانات للتجريب، وقد أشرنا سالفاً إلى أن 10% من الشركات تمتلك برنامجاً تجريبياً ناجحاً. ويمكن عندئذ أن يحدد مدراء التسويق مؤشر أداء رئيسياً تمثل فيه الإعلانات عنصراً محورياً، وذلك بالتعاون مع التخصصات الأخرى بالشركة، مثل قسم الماليات، ومن الأمثلة على ذلك العائد على الاستثمار التسويقي أو تشكيلة من العلامة التجارية ومقاييس الاستجابة المباشرة، ثم يمكن لفريق التسويق تطوير أساليب إعلانية جديدة للتأثير على المقياس المحدد، وبمقدور الثقافة الصحيحة أن تحفز الفريق على تبني أساليب إعلانية ذات أداء أفضل والتخلي عن الأساليب الإعلانية ضعيفة الأداء، ما يضمن في النهاية أن يرى العملاء الحاليون والمحتملون إعلانات أفضل وأكثر قدرة على مخاطبة اهتماماتهم.