تقلق مالكة شركة التصميم من أنّ زبائنها باتوا معتادين على أفضل تصاميمها، حتى أنّ خطة التسويق السابقة والتي كانت خارقة بمعنى الكلمة باتت غثاء مكرراً. ماذا يجب أن نفعل؟ وما هي الطريقة التي تمكنها من تحديد الحل الأنسب لعملها؟
تحذرها حاسة حل المشكلات التي تملكها بأنّ ما عليها فعله هو أن تبدأ العصف الذهني، وأن تنشئ جدولاً مفصلاً على برنامج الإكسل مع خطة تفصيلية خطوة بخطوة. لكن كلاً من الحكايات والأبحاث المنشورة تقترحان أخذ لحظات من الراحة، وعدم القيام بأي شيء ربما يكون من الأهمية بمكان إن لم يكن الأهم فعلاً.
يقول بعض الأشخاص أنهم لم يصنعوا أفضل قراراتهم عندما كانوا منهمكين في حل مشكلاتهم أو عندما كانوا منهمكين بالبحث عن حلول، بل عندما كانوا يستحمون، أو يخيطون أو يمارسون الرياضة. وهذا ناجم عن أنّ لحظات كهذه والتي تثمر حلولاً ذكية غير متوقعة تأتي عندما تكون عقولنا أو وعينا في استراحة. إنّ هذه اللحظات هي الطريقة الوحيدة لحل المشكلات المعقدة، فهي كبيرة جداً على عقلنا الواعي ليتمكن من معالجتها.
أما الأخبار السارة، هي أنّ ومضات البصيرة هذه ليست عشوائية كما تبدو للوهلة الأولى، ويمكن تعزيزها ضمن ظروف محددة. كنا قد لاحظنا لسنوات خلت أنّ البحث يدعم أربع خطوات محددة قادرة على أن تساعدك وصولاً إلى لحظة الإلهام الفكري حيث تساعدك كل واحدة من هذه الخطوات في ملاحظة نشاطاتك العقلية.
راقب إشارات محددة
سواء كنت رجل أعمال، أو مديراً تنفيذياً أو موظفاً، فغالباً ما يحوي جدول أعمالك على اجتماعات. ونتيجة لذلك، تمضي الكثير من وقتك محاطاً بالأشخاص، من دون أن تُتاح لك فرصة الحصول على قسط من السلام والهدوء.
ولكن الصمت والعزلة عاملان حاسمان لخلق لحظات الـ"يوريكا" الثمينة هذه (اللحظة التي يسقط فيها الإلهام وتتجلى فيها الأفكار والحلول من دون مقدمات)، إنّ البصيرة بحد ذاتها هي لحظات من التفكير بهدوء بعيداً عن صخب أفكار الحياة اليومية. بدأ الباحثون في الآونة الأخيرة يولون مزيداً من الاهتمام لأثر منافع الهدوء على البصيرة، حيث وجدت أبحاث منشورة في مجلة علم النفس (Psychological Science) وجود ارتباط بين حالة الهدوء الفائقة خلال جلسات التأمل الاستشفائي واتخاذ قرارات أفضل، إذ قام الأشخاص المدروسون باتخاذ قرارات أذكى بعد أن حصلوا على 15 دقيقة فقط من التأمل دون أي مقاطعة، لأنها جعلتهم بدرجة أعلى مقاومة من التأثر بانحيازاتهم الشخصية.
مهما كنت مشغولاً، حاول أن تحصل على استراحات بين الاجتماعات، واقض بعض الوقت لوحدك. اذهب لغرفة اجتماعات فارغة، أو قد يكون من الأفضل أن تغادر مكتب العمل وأن تمشي قليلاً. (وفقاً للعلماء: قد يحفز المشي لحظة البصيرة القادمة لديك).
انظر إلى داخلك
حالما تجد مكاناً هادئاً، حاول أن تركز على أفكارك الداخلية، وأن تتجاهل ما يجري حولك. بكلمات أخرى: اعزل نفسك عن المحيط بدلاً من أن تستمر باختلاس النظر إلى هاتفك.
خلُص مارك يونغ بيمان إلى أنه قبيل لحظات البصيرة هذه، يكون هناك أمواج عقلية (brain-waves) في المجال ألفا ضمن القشرة البصرية للدماغ. وتشير أمواج ألفا هذه إلى تخفيض في المعلومات الواردة من الخارج. ما يساعد الأشخاص على ملاحظة لحظة الإلهام الفكري. إنها تشبه وضع الدماغ في حالة راحة.
يسير التركيز الداخلي جنباً إلى جنب مع التخيلات العقلية، والتي تعتبر مكوناً حاسماً آخر من وصفة توليد لحظات البصيرة، حيث يشير يونغ بيمان وزملاؤه في مجلة القيادة العصبية (Neuroleadership Journal) أنّ توماس إديسون كان يجري هذه التخيلات بشكل روتيني ومتكرر أملاً بالتقاط أفكار إبداعية تطفو في أي لحظة، ثم يقوم بكتابة أفكاره في تلك الفترة، اعتقاداً منه بأنها غالباً ما تكون إبداعية كما ذكرت الدراسة.
اكتشف العلماء منذ حين أنّ التخيلات العقلية هي عامل حاسم في توليد لحظات البصيرة. في أحد اختبارات الإبداع، قام الباحثون بإعطاء الأشخاص محل الدراسة دقيقتين ليفكروا بالاستخدامات الممكنة لأشياء اعتيادية مثل الطوب أو الأحذية، ثم منح الباحثون الأشخاص استراحة مدتها 12 دقيقة، وطلب إلى قسم منهم في أثنائها إجراء عمليات تذكر صعبة، بينما طُلب إلى القسم الآخر مهمة بسيطة بهدف توليد حالة التخيلات العقلية.
أنجز الأشخاص في المجموعة الأخيرة تمرين الإبداع بنسبة 40 في المئة أفضل بعد الاستراحة. بينما فشل المشاركون في المجموعة الأولى (التي طُلب منها إجراء عمليات تذكر صعبة) بإنجاز أي تحسن في نتيجة التمارين بعد الاستراحة.
حتى تتمكن من تحريض حالة التخيلات العقلية، لا تجعل نهارك مزدحماً بالمواعيد. بل دع بعض الفراغات هنا وهناك على أساس منتظم (حتى الاستراحات الصغيرة ستترك أثراً كبيراً). حاول أن تُطفئ أجهزتك عدة ساعات يومياً، أو عدة أيام أسبوعياً إن كنت تستطيع. عندها سيكون عقلك قادراً فعلاً على التخيل بحرية ولن تفقد عقلك لحظة الاكتشاف القادمة.
اقرأ أيضاً: تعرف إلى العائلة الروحية التي تنتمي إليها.
كن إيجابياً
إنّ مجرد التفكير بأننا بصدد اتخاذ قرار قد يكون هاماً، يخلق قدراً هائلاً من القلق، والذي لسوء الحظ يُعتبر العدو الأول للإبداع. يخلق القلق الكثير من الضجيج داخل الدماغ، مضيّقاً مساحة العمل للبصيرة. وفي ذات الوقت بينت الأبحاث أنّ شعوراً بسيطاً من السعادة (على طرف النقيض من التوتر) يعتبر عاملاً مساعداً للوصول إلى لحظات اليوريكا وبصيرة اتخاذ القرار. وهذا ناجم عن ميل الأشخاص إلى ملاحظة طيف أوسع من المعلومات عندما يكونون سعداء مقارنة بما يلاحظونه عندما يكونون قلقين.
في دراسة أجريت مؤخراً، لاحظ العلماء أنّ المشاعر الإيجابية لعبت دوراً مهماً في توليد حالة البصيرة. كما وجد يونغ بيمان في بحثه أنّ الأشخاص الذين كانوا في مزاج جيد استطاعوا حل مشكلات تمارين كلمات أكثر لأنهم شهدوا لحظات انتعاش فكري أكثر. كما قام الباحثون بمراقبة نشاط الدماغ للأشخاص محل الدراسة، واستخلصوا أنّ المزاج الجيد ولّد نشاطاً دماغياً وحرض بيئة عصبية داعمة للبصيرة.
إذا كنت بمواجهة اتخاذ قرار معقد، وكنت تشعر بالغضب، فافعل شيئاً لكي ترفع معنوياتك. تكلم إلى صديق، اخرج لتناول العشاء، اقرأ كتاباً، كل هذه الأمور قد تخلق انفراجاً ضرورياً لك. أظهر أحد الأبحاث مؤخراً أنّ الغفوات هي طريقة جيدة للتعامل مع القلق. لذا عليك بأخذ غفوة يومياً لتكون بأفضل حالاتك، ويقوم دماغك النشيط بشكرك من خلال توليد حلول رائعة بعد أن تستيقظ.
ابذل جهداً أقل
لقد تم تعليمك غالباً أنه يجب عليك التفكير طويلاً وبشدة قبل اتخاذ قرار مهم. ولكن لحظات البصيرة تحصل تحديداً عندما تسبح أفكارك بحرية. إنّ الابتعاد عن تقليب الفكرة في العقل هو المفتاح لصنع قرار بجودة عالية، كما يقترح أحد الأبحاث المنشورة في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي (the Journal of Personality and Social Psychology).
وزع الباحثون في الدراسة أعلاه على المشاركين معلومات حول أربع شقق مختلفة لم يسبق لهم أن زاروها، وطلبوا منهم أن يختاروا الأفضل. طُلب من بعضهم أن يختاروا فوراً دون إتاحة المجال لهم لتحليل المعلومات. بينما طُلب من الآخرين دراسة المعلومات وتحليلها بدقة قبل اختيار ما عليهم عمله. إضافة إلى مجموعة أخرى طلب إليها دراسة المعلومات بدقة أيضاً ولكن تم تشتيتهم لاحقاً بمهمة غير متعلقة بالموضوع قبل اتخاذ القرار.
اتضح أنّ المجموعة الأخيرة اختارت بشكل أكثر تماسكاً الخيار الأكثر موضوعية.
لماذا؟ إنّ أخذ استراحة من التفكير بموضوع ما يتيح للأشخاص استكشاف فكرهم غير الواعي، وعلى الرغم من أنه غير محسوس، فإنه يعتبر عملية إدراكية قوية تحصل خارج الوعي.
هذا المورد غير المستخدم عادة هو المفتاح لمعالجة فيض من المعلومات يحتاج الشخص لهضمها واستيعابها جيداً قبل اتخاذ قرار نافذ البصيرة. إنّ العملية العميقة التي تنشط في الدماغ بمجرد التفكير بمشكلة تبقى فعالة حتى لو قمنا بالانتقال لأداء مهام أخرى. نحن نبقى نعمل بشكل لا شعوري. وأحد الأسباب الأخرى التي تعيق وصولنا إلى حلول عند التفكير بالمشكلة أننا نستخدم استراتيجية حل مشكلات غير مناسبة. لا يمكننا التفكير ببصيرة طالما أنّ المسار الخاطئ مسيطر على أذهاننا.
تذكر أنّ تأخذ استراحة من كل عملية اتخاذ قرار. وفور إرادتك لاتخاذ القرار قم بالتركيز على مواضيع أخرى. إنّ ممارسة الرياضة هي وسيلة مضمونة لتعطي عقلك استراحة بعيداً عن العمل، لذا مارس الرياضة بانتظام وحافظ عليها في جدول أعمالك اليومي كما لو أنها جزء من اجتماعاتك مع عملائك أو مديرك.
إنّ أي شيء يساعدك على ملاحظة الإشارات الهادئة في عقلك أو "التفعيلات الضعيفة" (weak activations) كما تُدعى، ستزيد احتمالات نفاذ بصيرتك. من خلال ترك أوقات استراحة هادئة للتركيز على داخلك، أن تنحى المنحى الإيجابي في تفكيرك، وعدم التركيز على حل المشكلة بشكل واعي، كل ما سبق سيوصلنا إلى لحظة الإلهام الفكري وسيزيد من بصيرتنا كل يوم.
بصيرة أعمق تعني حل مشكلات معقدة بشكل أسرع، وهو أمر يفيدنا جميعاً، سواء كنا نرغب بوضع تعديلات على حملة تسويقية، تجاوز مشكلة مع عميل ما، أو تغيير العالم.