كيف ستغيّر الأتمتة عمل البشر؟

4 دقائق
كيف ستغيّر الأتمتة عمل البشر

لمعرفة كيف ستغيّر الأتمتة عمل البشر اقرأ هذا المقال.

على مر التاريخ، عمل غالبية البشر لأن العمل كان لزاماً عليهم. ومع أن الكثيرين وجدوا راحة وقيمة ومعنى في جهودهم، إلا أن البعض الآخر كان يعرّف العمل على أنه ضرورة يجب تفاديها قدر المستطاع. ولقرون عديدة، كانت نخب المجتمعات من أوروبا وحتى آسيا تطمح إلى التحرر من العمل مقابل أجر. وعرّف أرسطو "الرجل الذي يعيش بحرية" أنه ذروة الوجود الإنساني، لأنه شخص تحرر من القلق بشأن أي ضرورة من ضرورات الحياة، ولديه وكالة شخصية شبه كاملة. (ومن الواضح أنه لم ير في التجار الأثرياء أحراراً، لأن عقولهم مشغولة بالاستحواذ على الثروة).

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: ما هي الأتمتة؟

يثير صعود نجم الذكاء الاصطناعي والأتمتة، أسئلة جديدة عن دور العمل في حياتنا. صحيح أن تركيز معظمنا سيظل منصباً لعقود مقبلة على أنشطة ذات إنتاج مادي أو مالي، لكن مع توفير التقنية الخدمات والسلع بتكلفة أقل من أي وقت مضى، سيجد البشر أنفسهم مضطرين إلى استكشاف أدوار جديدة لهم، ولا ترتبط بالطريقة التي ننظر بها إلى العمل اليوم.

يبين الاقتصادي برايان آرثر إلى أن جزءاً من التحدي، لن يكون اقتصادياً ولكنه سيكون سياسياً، حول كيفية توزيع غنائم التقنية؟ حيث يشير آرثر إلى الاضطراب السياسي الحاصل اليوم في الولايات المتحدة وأوروبا، ويُرجع ذلك في جزء منه إلى الهوّة بين النخب وبقية المجتمع. لكن المجتمعات ستكتشف في وقت لاحق من هذا القرن كيف توزع العائدات الإنتاجية للتقنية، لسببين رئيسيين: أولاً، لأن التوزيع سيصبح أسهل، ثانياً، لأنه يجب عليها ذلك. فمع مرور الزمن، سوف تساعد التقنية على إنتاج المزيد بتضحيات أقل. كما أن التاريخ يشير في الوقت نفسه إلى أن تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة جداً يؤدي إلى ضغوط اجتماعية ستتم معالجتها إما من خلال السياسة أو العنف أو كليهما.

اقرأ أيضاً: الشيخوخة والأتمتة: تحديان متلازمان تواجههما دول مجلس التعاون الخليجي

لكن هذا يثير تحدياً ثانياً أصعب: على حين ستصبح فوائد التقنية متوفرة على نطاق أوسع (من خلال الإصلاح أو الثورة)، سوف يواجه المزيد منا التساؤل التالي: إن كان بوسع التقنية فعل أي شيء تقريباً، ما الذي أفعله أنا، ولماذا؟

منذ الثورة الصناعية تحديداً، نقلت التقنية جزءاً متزايداً من البشرية بعيداً عن إنتاج أساسيات الحياة. وفي حين لا يزال الكثير من الناس عالقين في كفاح يومي من أجل البقاء، فإن نسبة أقل من البشر مثقلة بهذا العبء. وفي حين تصبح نظم الذكاء الاصطناعي والأنظمة الروبوتية أكثر قدرة والتزاماً، ستتزايد قدرة عجلة العمل على التحرك من دون تدخل منا، وهي ما يحقق ما وصفها جون مينارد كينز، في كتاب "إمكانيات اقتصادية لأحفادنا" (Economic Possibilities for our Grandchildren)، على أنها بطالة تقنية، تحل فيها التقنية محل العمل البشري بوتيرة أسرع من اكتشافنا وظائف جديدة. وتنبأ كينز أن تكون هذه "مرحلة مؤقتة من سوء التكيف"، وأن البشرية قد تتغلب في غضون قرن من الزمن على التحدي الاقتصادي الأساسي الذي تواجهه وستتحرر من الحاجة البيولوجية للعمل.

تُعتبر هذه الرؤية رؤية مفعمة بالأمل، ولكنها أيضاً طريق متعرجة ومحفوفة بالمخاطر. وحذّر كينز من أنه "إذا ما حُلت المشكلة الاقتصادية، فسوف تُحرم البشرية من هدفها التقليدي"، بيد أنني أعتقد أنه لا يوجد بلد ولا شعب إلا ويتطلع إلى عصر الطمأنينة والبحبوحة بقلق.

تساءل كينز بارتياب: أين سيضع الناس اهتماماتهم ومصالحهم ومخاوفهم عندما يتحررون من كسب العيش؟ فبينما نتحرر من السعي التقليدي وراء لقمة العيش، كيف نتجنب مستقبلاً عدمياً كذلك الذي وصفه الكاتب ألدوس هكسلي؟ كيف سنعرّف إحساسنا بالهدف والمعنى والقيمة؟

اقرأ أيضاً: لماذا من الممكن أن يتبع ازدهار الأتمتة فترة من الكساد؟

يمكننا البحث في هذا السؤال بالنظر في عمل هانا أرندت، الفيلسوفة والمؤرخة والصحافية التي صممت في الخمسينيات إطاراً بعيد المدى لفهم كل النشاط البشري. في كتابها "الحالة الإنسانية" (The Human Condition)، وهو عمل جميل وصعب وعميق، وتصف أرندت 3 مستويات مما تعرّفه باسم "فيتا أكتيفا" (Vita Activa) اقتباساً عن الإغريق.

يولد العمل حاجات ضرورية للإنتاج، تماماً كما يولّد الغذاء حاجات ضرورية للتفاعل في جسم الإنسان كي يستفيد الأخير من الغذاء نفسه، وبالتالي، فإن العمل يخلق الأدوات المادية والبنى التحتية اللازمة، التي غالباً ما تدوم أكثر منا نحن البشر، مثل المنازل والبضائع وحتى الأعمال الفنية. أما الفعل، فيشتمل على أنشطة تفاعلية وتواصلية بين البشر (المحيط العام) وبه نستكشف ونؤكد تميزنا كبشر ونسعى للخلود.

على مدى المائة عام المقبلة، سوف تزيد سيطرة الذكاء الاصطناعي والأنظمة الروبوتية على العمل، منتجة الضروريات والأدوات المادية للحياة البشرية، فتُمكّن المزيد منا من الارتقاء (قدمت أرندت الارتقاء بمعنى أنه الحكم على القيمة من منطلق النوعية) إلى دنيا الفعل. وبطبيعة الحال، قد ينخرط بعض الناس في العمل أو الشغل اختياراً، لكن الاختيار سيكون هو الميزة الفارقة.

اقرأ أيضاً: حاول تحسين عمليات شركتك قبل أن تبدأ في الأتمتة

أعطى معظم الفلاسفة اليونانيين القدماء الأولوية للتأمل على حساب الفعل، باعتباره قمة المسعى الإنساني. واشتبكت أرندت مع هذا المفهوم، قائلة: "إن الأفضلية يجب أن تكون للفعل". ويبدو أن الثقافة المعاصرة توافقها في ذلك. ففي نهاية المطاف، الفعل والتأمل يؤديان وظيفتهما بشكل أفضل عندما يكونان متحالفين. ونحن لدينا الفرصة (وربما المسؤولية) لتحويل فضولنا وطبائعنا الاجتماعية إلى فعل وتأمل.

سنواجه تعديلات جذرية على "فيتا أكتيفا" خلال العقود القادمة، بينما يتساءل كل واحد منا عما عليه القيام به ولماذا. نأمل أن يكون لدى أحفادنا الحرية الكافية للانخراط في حياة من التفاعل والاستكشاف أو الانضمام إلى حياة البستنة أو الطبخ. وإن كنا محظوظين، سيكون هذا اختياراً أكثر منه ضرورة.

افتتحت أرندت كتاب "الحالة الإنسانية" بتحذير من "مجتمع من العمال على وشك التحرر من أغلال العمل". أي خطر في هذا؟ الخطر هو أن "هذا المجتمع لم يعد يعرف تلك الأنشطة الأخرى الأرقى والأكثر معنى، التي من أجلها يستحق الفوز بالحرية". كما ركزت أرندت خاصة هذا التحدي على الأيديولوجية الشيوعية التي تمجد العمل. وهو ما يمكن أن ينطبق علينا أيضاً.

عندما تحررنا آلاتنا من مهام أكثر من أي وقت مضى، إلى أين سوف نوجه انتباهنا؟ بعد فهم كيف ستغيّر الأتمتة عمل البشر سيكون هذا هو السؤال الذي يحدد قرننا المقبل.

اقرأ أيضاً: الأتمتة ليست كابوساً.. الإمارات نموذجاً

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي