كيف تجعل خصمك يفاوضك بإنصاف: تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم

13 دقيقة
السيطرة خلال التفاوض

فكرة المقالة بإيجاز

المشكلة

نادراً ما يطرح الطرفان المنخرطان في مفاوضات ذات طابع عدائي أكثر عروضهما منطقية على مائدة المفاوضات. بل يحاول كل طرف منهما أن يتبنى موقفاً لصالحه ويسعى إلى تقديم أقل ما يمكن من أجل السيطرة خلال التفاوض. وغالباً ما تكون هذه المقاربة الشائعة مكلفة لجميع الجهات المعنية.

الحل

هناك استراتيجية تفاوضية جديدة يمكن أن تقود وبكل كفاءة إلى اتفاق منصف للجميع، حيث يطرح كل طرف عرضاً موضوعياً منصفاً، ويتحدى الطرف الآخر بأن يقدم أفضل عرض لديه، ومن ثم يسمحان لمحكّم أن يقرر أي من العرضين هو الأكثر معقولية.

النتيجة

إن التهديد بالخسارة في عملية التحكيم التي يخضع لها العرض النهائي، سيؤدي عادة إلى عودة الخصم غير المنطقي إلى مائدة المفاوضات بعرض أكثر عقلانية. وقد اختبرت شركة التأمين العملاقة "المجموعة الأميركية الدولية" (أيه آي جي) (AIG) هذه الاستراتيجية في إحدى القضايا المتعلقة بالمطالبة بالتعويض عن إصابة عمل، الأمر الذي قاد إلى تسوية سريعة ومنصفة.

تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم يعطي المفاوضين أداة جديدة قيّمة

الرجاء الإجابة عن السؤالين السريعين التاليين:

- عندما تفاوض، هل تريد للطرف المقابل أن يكون شخصاً منطقياً؟
- هل هي فكرة جيدة أن يكون المرء شخصاً منطقياً في المفاوضات؟

كل شخص نطرح عليه هذين السؤالين يجيب عن السؤال الأول بالإيجاب، لكن الإجابات عن السؤال الثاني تسير في الاتجاه الآخر. فالأكاديميون يميلون إلى الإجابة عن السؤال الثاني بـ "نعم"، لكن رجال وسيدات الأعمال والمحامين يُظهرون بعض التردد غالباً. ففي النزاعات القانونية، والمطالبات التأمينية المتنازع عليها، والمفاوضات المشابهة التي تنطوي على حالة من العدائية، يشير هؤلاء الممارسين إلى أن الطرف الآخر سيبدأ غالباً بتقديم مطالبة مضخمة أو بتقديم عرض متدنٍ. وبرأي هؤلاء إذا كان موقف الطرف الآخر غير عقلاني، فمن غير المنطقي أن تكون أنت منطقياً في المقابل.

لنفترض بأن هناك زبوناً زعم بأن مشكلة موجودة في منتج ما قد بعته له أدى إلى خسارة شركته لمبلغ 10 ملايين دولار. وبعد إجراء تحليل متأنٍ، يخلص فريقك القانوني إلى أن القيمة العادلة للمطالبة هي 5 ملايين دولار فقط. فكيف تتجاوب مع طلبه؟ الرد الفوري الشائع هو أن تعرض عليه مبلغ مليون دولار فقط مثلاً. ويمكن لعملية التفاوض المألوفة والمتعبة التي تعقب ذلك أن تكون مكلفة لجميع الأطراف المعنية بها. فقد يتفق الطرفان في نهاية المطاف على رقم قريب من 5 ملايين دولار، لكن بعد إضاعة الكثير من الوقت والمال قبل الوصول إلى تلك النتيجة، ناهيك عن الضرر الذي يطال العلاقة بين الطرفين خلال هذه العملية.

تقتضي مصلحة جميع الأطراف القدوم إلى مائدة المفاوضات دوماً بعرضٍ منطقي: فإذا كانت المواقف المبدئية واقعية، فإن العروض المقدمة سوف تكون متوافقة إلى حدٍ كبير بين الأطراف المعنية، وأي مفاوضات تلي ذلك سوف تكون حضارية وسريعة ومنصفة نسبياً. ولكن كيف يمكن للمفاوض الذي يريد أن يكون منصفاً منذ البداية أن يضمن بأن يكون الطرف الجالس قبالته منصفاً أيضاً؟

لقد أوحى لنا هذا السؤال باقتراح استراتيجية جديدة للمفاوضات اسميناها "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" (Final-offer Arbitration Challenge) من أجل التوصل إلى اتفاقيات منصفة بكفاءة، حتى عند التعامل مع خصوم الذين قد يبدون للوهلة الأولى غير منطقيين. تسمح هذه الاستراتيجية التي تستند إلى مقاربة طُبّقت للمرة الأولى في المفاوضات العمالية في ستينيات القرن الماضي، لأحد الطرفين بأن يشجع الطرف الآخر على التصرف بطريقة منطقية من خلال تقديم عرض منصف واضح منذ البداية، وبعدئذ، إذا كان الطرف الآخر غير منطقي، تحدّيه بإحالة العرضين المتنافسين أمام محكّم يجب عليه الاختيار بين واحد منها، عوضاً عن التوصّل إلى تسوية بناءً على هذين العرضين. وقد وضعنا هذا التصوّر الخاص بـ "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" في معرض عملنا مع شركة التأمين العالمية أيه آي جي. وكما سنصف في المقال التالي، فإن الاستراتيجية المقترحة يمكن أن تُستعمل في المفاوضات خارج قطاع التأمين أيضاً.

وضع التحدي موضع التطبيق

تدفع شركات التأمين مليارات الدولارات كل عام للتوصّل إلى تسويات على المطالبات المقدّمة لها، وتوظيف مئات الأشخاص لإجراء تقويم لعشرات آلاف القضايا والتفاوض عليها. وثمة أسباب وجيهة تدعو للاعتقاد بأن قرارات موظفيها ليست دائماً مثالية، الأمر الذي ينجم عنه دفع مبالغ زائدة عن اللزوم في بعض المطالبات، وخوض مفاوضات مكلفة غير ضرورية في بعض الحالات الأخرى. وقد وجّه الرئيس التنفيذي لشركة أيه آي جي بيتر هانكوك الذي اطلع على كتاب كانمان الذي يحمل عنوان "التفكير بسرعة، وببطء" (Thinking, Fast and Slow) الدعوة إلى شركة تي جي جي (TGG)، وهي الشركة الاستشارية التي يعمل معها كانمان، لتساعد في استكشاف الحلول. وقد استعان كانمان بماكس بازرمان لدراسة المقاربة التي تنتهجها الشركة في مجال المفاوضات. وقد تحوّل الأمر الذي بدأ على شكل تعاون مقتضب إلى مشروع واسع النطاق وبعيد المدى لتعزيز قدرة أيه آي جي على التفاوض بفعالية بهدف معالجة المطالبات والوصول إلى تسويات معقولة، والتقليل من التكاليف، وتحسين سمعتها في مجال الإنصاف والعدالة. وكان هانكوك يعتقد بأن النجاح في هذه المبادرة يمكن أن يعطي الشركة في نهاية المطاف ميزة تنافسية.

وقد استعملت الشركة استراتيجية "تحدّي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" في المفاوضات الصعبة التي خاضتها مع رجل كان قد أصيب أثناء عمله في معمل كانت هي قد أمّنت عليه. لم تكن الشركة ترغب بدفع مبلغ زائد عن اللزوم في هذه المطالبة، لكنها لم تكن أيضاً ترغب بالظهور بمظهر الشركة غير المنصفة في عيون زبونها، صاحب المعمل. واستناداً إلى تقويمات أجراها عدد من الخبراء الخارجيين، قدّرت أيه آي جي  القيمة العادلة للمطالبة ما بين مليون و1.1 مليون دولار. وقدّمت عرضاً بمبلغ 850 ألف دولار. أما محامي المدعي فقدّم عرضاً مقابلاً بمبلغ 2.6 مليون دولار ملحّاً على أنه مبلغ عادل.

وبما أن أيه آي جي كانت واثقة من أن موقفها منطقي (وأن موقف صاحب المطالبة لم يكن منطقياً)، ردت على عرض المحامي بتحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم، حيث طلبت تحديداً إحالة العرضين إلى محكم مختص ليتخذ قراراً ملزماً قانوناً يحدد فيه أي من العرضين معقول أكثر. وبما أن هذا الإجراء يمنع المُحَكِم من تقسيم الفرق في المبلغ بين العرضين، فإنه يحيّد أي حافز موجود لاتخاذ قرار غير منطقي، لأن من غير المرجح أن يختار المحكّم العرض الأقل عقلانية. (يرجى الاطلاع على فقرة "لمحة موجزة عن عملية إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" الموجودة إلى جوار المقال). في عملية التحكيم أو التقاضي التقليدية، "يجوز" للمحكّم اختيار قيمة واقعة بين الرقمين المطروحين. ورغم أن التحكيم التقليدي قد يكون كفوءاً بالمقارنة مع التقاضي في المحاكم والذي يستغرق وقتاً طويلاً، إلا أنه عادة يشجع على عدم المعقولية، لأن الأطراف المعنية تؤمن بأن المحكّم سيقف في مكان وسط بين العرضين المقدّمين. وبالتالي، كلما كان العرض يتسم بقدر أكبر من عدم المعقولية، كلما كان مكسبك على الأرجح أكبر.

وقد كان أسلوب "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" ناجحاً لأنه كشف عن عدم معقولية موقف الطرف الآخر: فعندما أدرك محامي الموظف المتضرر صاحب المطالبة بأن أيه آي جي كانت مقتنعة بموقفها، ومن غير المرجّح أن تبدي أي مرونة لجأ فوراً إلى تخفيض المبلغ المطلوب بأكثر من النصف، من 2.6 مليون دولار إلى 1.25 مليون دولار. فأعادت أيه آي جي  التأكيد على عرضها المنصف نسبياً والبالغ 850 ألف دولار. وتبعت ذلك سلسلة سريعة من العروض والعروض المقابلة، وجرت تسوية المطالبة خلال أيام بمبلغ 1.05 مليون دولار.

نلاحظ بأن الطرفين المعنيّين بالقضية تجنّبا في نهاية المطاف الذهاب إلى التحكيم لكنهما توافقا على رقم قريب من العرض الأولي الذي قدمته شركة أيه آي جي. ونحن نعتقد بأنه عندما تصبح استراتيجية التحدي هذه مستعملة على نطاق أوسع، فإن هذه النتيجة ستصبح أكثر شيوعاً: فالطرف الخاضع للتحدي سيعود بسرعة إلى مائدة المفاوضات ويتبنّى موقفاً أكثر عقلانية. من المنطقي أن يقول المدراء المسؤولون عن المطالبات بأنهم إذا قدموا عرضاً مبدئياً منطقياً وبنسبة 90% من القيمة الحقيقية للمطالبة، وإذا قدّم الطرف الآخر عرضاً مقابلاً غير منطقي وبنسبة 1000%، فإنهم سيكونون في موقع ضعيف في عملية تبادل التنازلات المعتادة. لكن "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" يقيّد هذه العملية من خلال إرسال إشارة ذات مصداقية إلى الطرف الآخر مفادها ألا يتوقع حركة أكبر من ذلك. ونحن واثقون من أن التحدي غالباً ما سيدفع الطرف الآخر لينحو أكثر نحو المنطق.

متى يُستعمل هذا التحدي

قبيل هذا العمل، كان استعمال التحكيم يُعتبرُ هو الآلية المفترضة للوصول إلى التوافق قبل فترة طويلة من بدء التفاوض الفعلي. أي أنه كان مفروضاً في حال لم يتمكن الطرفان من التوصّل إلى اتفاق بنفسيهما. وثمّة ميزة فريدة من نوعها تتميّز بها مقاربتنا، ألا وهي أن أحد أطرف النزاع يمكن أن يلجأ إلى "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" في أي وقت من الأوقات.

نحن نقترح على الأطراف التي نقدم لها المشورة أن تقرر، قبل التفاوض أو خلاله، مجموعة التسويات المحتملة التي يمكن لمراقب موضوعي أن يعتبرها منصفة، ومن ثم أن تقدم عرضاً معقولاً. فإذا كان العرض المقابل غير منطقي، فعندها يجب أن يسألوا ما إذا كان الطرف الآخر يؤمن بأن عرضه منطقي. فإذا كانت الإجابة هي نعم، عندها يجب عليهم أن يقترحوا إحالة العرضين النهائيين إلى عملية التحكيم. فإذا كنت واثقاً بأن عرضك أكثر عقلانية من العرض المقابل، يمكنك أن تثق بأنك ستكون الرابح إذا قَبِلَ الطرف الآخر التحدي. لكنه نادراً ما سيقبل. فالغاية من التحدي هي إرسال إشارة صادقة بأنك تؤمن بأن عرضك عادل، وبأنك لن تحسّنه ما لم يعد الطرف الآخر إلى مائدة المفاوضات ويقدم عرضاً أكثر عقلانية.

تُعتبرُ استراتيجية التحدي منطقية في أي نزاع إذا ما تمت تلبية الشروط الأربعة التالية: أن تكون قد قدمت عرضاً معقولاً بينما قدم الطرف الآخر عرضاً غير معقول، وأن تكون واثقاً ما الذي يعنيه الحل المنصف، وأن يكون تصعيد النزاع ليأخذ منحىً قضائياً عملية مكلفة للغاية، وألا يكون من السهل على أي من الطرفين الانسحاب والخروج من عملية التفاوض.

يمتد مفهوما "الإنصاف" أو "المعقولية" على طيف ما بين الموضوعية والذاتية أو ما بين الوضوح والغموض. وفي حالة العديد من المطالبات التأمينية والقانونية، يمكن للبيانات التاريخية أو السجلات الخاصة بالقضايا المشابهة أن تشكل قاعدة صلبة يمكن الاستناد إليها لتقرير ماهية التسوية المنصفة. فقيمة السيارة الجديدة المحتسبة ضمن حادث معين يمكن تحديدها بسهولة ومن الصعب أن تجد من ينازعك فيها. لكن مطالبات حوادث الإصابات الشخصية والتي تتضمن معاناة عاطفية تتطلب تقويمات ذات طابع أقل موضوعية وأكثر ذاتية. لذلك يجب أن يقتصر خيار طرح تحدي الذهاب إلى التحكيم على الحالات التي تكون فيها القيمة الموضوعية للمطالبة واضحة تماماً؛ وكلما كانت القيمة أكثر غموضاً، كلما ازدادت درجة عدم اليقين بخصوص شكل القرار النهائي الذي سيتخذه المحكّم.

لكي تقرّر شركة التأمين درجة الإنصاف في حالة إصابة ما، يمكنها أن تؤلف لجنة من عدة خبراء مستقلين وأن تعرض عليهم الوقائع وأن تطلب من كل واحد منهم أن يقدّر قيمة المطالبة. فإذا كانت الخلاصات التي يتوصلون إليها متقاربة إلى حدّ كبير، يمكن لشركة التأمين بأن تكون واثقة من العرض الذي تقدمه. أما إذا عادت مجموعة من الخبراء بمجموعة متباينة كثيراً من القيم، فساعتها ستعلم بأن مفهوم "الإنصاف" غامض، وستعرف بناء على ذلك بأن استراتيجية التحدي ستكون محفوفة بالمخاطر.

بعد أن تكونوا قد حدّدتم ما هو منصف، اطرحوا السؤال التالي: "هل يمكن لأي من الطرفين أن ينسحب من العملية؟" في حالة الصفقات المعتادة بين البائع والشاري، وإذا كانت مواقف الطرفين في حالة استقطاب، ولم يكن أي من الطرفين ميّالاً إلى المساومة، فإن تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم لا يُعتبرُ ناجعاً، لأن الطرف الآخر قادر ببساطة على ترك مائدة المفاوضات والانسحاب. أما في النزاع القانوني، والذي لا يتيح خيار الانسحاب، فإن الاستراتيجية هذه يمكن أن تكون منطقية.

إن أفضل سياق لتطبيق هذه المنهجية هو حل النزاعات، لكنها تساعد برأينا أيضاً في عمليات إبرام الصفقات. فعلى سبيل المثال، يمكن استعمال هذه الاستراتيجية للخروج من حالة الاستعصاء في المفاوضات المتعلقة بعملية اندماج واستحواذ، عندما يكون الطرفان المعنيان قد اتفقا على جميع مكونات الصفقة باستثناء مكوّن واحد منها فقط. فعوضاً عن السماح للمفاوضات بالانهيار نتيجة نزاع واحد صغير، يمكن للطرفين إحالة العرض النهائي الخاص بالتفصيل الصغير المتنازع عليه إلى التحكيم، الأمر الذي يمكن أن ينقذ صفقة الاندماج من الانهيار. (يرجى الاطلاع على فقرة "إنقاذ الصفقة" الموجودة إلى جوار المقال).

تعزيز سمعتك

إن المنفعة الواضحة لتوظيف هذه الاستراتيجية هي المنفعة الاقتصادية: فالتفاوض الكفوء هو نوع من التفاوض ينطوي على قدر أقل من التكاليف. لكن هناك منفعة أخرى أقل وضوحاً لهذه الاستراتيجية، ألا وهي تعزيز سمعة شركتك بوصفها شركة منصفة وعادلة. وقد كان ذلك واحداً من الأهداف التي سعى بيتر هانكوك إلى تحقيقها. وثمة مجموعة من الاعتبارات التي يجب أخذها بالحسبان عند استعمال هذه الاستراتيجية لهذا الغرض.

نحن نوصي بأن تبتدئ المفاوضات بتقديم عرض معقول – شريطة أن تكون لديك تقويمات جيدة لما هو منصف – وأن تتخذ هذه الخطوة قبل أن يوضع عرض غير معقول على المائدة. صحيح أن هذا الأمر قد يبدو مخالفاً للتقاليد الشائعة، لكنه سوف يعزز الإشارة التي تحاول إرسالها بخصوص سمعتك العطرة. (كما أن ذلك سوف يقوي التأثير الرامي إلى تثبيت منحى الأمور، وسوف يوجه الطرف الآخر باتجاه العقلانية منذ البداية). ففي المفاوضات الأكثر تقليدية، يبتدئ الطرفان العملية بطرح مواقف غير معقولة وينتقلان لاحقاً إلى موقف أكثر عقلانية. ولكن إذا كانت الغاية هي إرسال إشارة تدل على الإنصاف، فإن بدء المفاوضات بالطريقة الماراثونية التي لن تقود إلى نتيجة سينقلب ضدك.

ونحن لا نشجعك على استخدام منهجية التحدي المقترحة عندما يكون الطرفان غير معقولين في طروحاتهما. رغم أنك قد تكون الطرف الرابح في النزاع، إلا أنك لن تكون قد حسّنت سمعتك – بل ربما قد يسهم ذلك في تدهور هذه السمعة. وعلاوة على ما سبق، من غير المعروف تماماً ما هو القرار الذي سيتخذه المحكّم إذا قُدّم له عرضان غير معقولين.

كيفية البدء

لا شك بأن الشركات المهتمة باستعمال استراتيجية "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" سوف تلجأ على الأرجح إلى تجريب تلك الاستراتيجية. فإذا سارت تلك التجربة على ما يُرام، قد تقرر الشركة استعمالها على نطاق أوسع. لكن إضافة استراتيجية التحدي إلى مجموعة الأدوات المتاحة يتطلب تطوير مهارات تفاوضية جديدة، وقد يعني ذلك قيادة تغيير كبير في الثقافة السائدة في المؤسسة. فكما قلنا من قبل، بدء المختصين لعملية التفاوض بتقديم أكثر العروض عقلانية بالنسبة هو أمر محرّم بالنسبة للكثير منهم.

دعونا نراجع أولاً الشق التقني – أي تعلّم المهارات الجديدة. في معظم الشركات التي تتطلب بعض القدرة على التفاوض، يخضع الأشخاص المعنيون إلى بعض التدريبات الشائعة التي تعلمهم بعض المهارات الأساسية مثل كيفية قراءة الطرف الآخر، أو البحث عن الفرص التي تسمح للطرفين بتحقيق المكاسب. لكن الشركات نادراً ما تعلم المهارات التحليلية للمفاوضات والتي تُدرَّس في كليات الأعمال. لذلك يجب على الشركة التي تخطط لاستعمال استراتيجيتنا، أن تدرب مفاوضيها على إجراء تقويم موضوعي للإنصاف والعدالة، بما في ذلك كيفية إجراء تحليل رسمي بناء على المفاوضات السابقة، وكيفية تجميع التقويمات التي يضعها خبراء متعددون ضمن إطار واحد. وبطبيعة الحال، يجب على المفاوضين أن يتعلموا الآلية الواجب اتباعها في وضع "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" موضع التطبيق. وهم بحاجة إلى تلقي التدريبات على الشؤون اللوجستية المتعلقة بالجانب القانوني الخاص بتنفيذ العملية، وقوانين التحكيم المحلية في أنحاء العالم، وكيف يمكن الوصول إلى المحكمين من خلال مؤسسات مثل الجمعية الأمريكية للمحكمين.

لقد عمّمت شركة أيه آي جي للتأمين هذه الطرق في أرجائها من خلال برنامج تدريبي دولي وضعناه لصالحها، ويشمل عدة مئات من الأشخاص المعنيين بالتحقيق في المطالبات لتحديد مستوى مسؤولية الشركة والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وكان أحد المكونات المهمة هو تعليم هؤلاء المعنيين بالتحقيق في المطالبات من المشككين بنجاعة أسلوب التحدي الذي نقترحه، منطق التخلي عن التكتيكات التفاوضية التي كانوا يعتقدون لفترة طويلة بأنها هي التكتيكات الطبيعية. ومن الضروري جداً الحصول على قبول الناس على المقاربة الجديدة والتي تعطي الأولوية القصوى لتحقيق الإنصاف والعدالة.

وهنا لا بد من التشديد على أهمية التعامل مع التحدي المتعلق بالقيادة. فرغم أن القادة الموجودين على أعلى المستويات قد يقتنعون بأهمية التغيير بناءً على المنطق المطروح عليهم، إلا أن القادة الموجودين في المراتب الإدارية الأدنى، قد يقاومون الطرق الداعية إلى تنفيذ المهام بطريقة مختلفة تماماً. وبالتالي فإن العمل بفعالية على إرساء بيئة داعمة يعني مكافأة المفاوضين على استخدام الاستراتيجية – وعدم معاقبتهم على النتائج السلبية التي قد تحصل.

لنفترض جدلاً بأن أحد الأشخاص المعنيين بتسوية المطالبات اقترح إحالة العرض النهائي إلى التحكيم وخسرت شركته في هذه العملية. قد لا يكون هذا الأمر سيئاً بالضرورة؛ فلا يُفترض بالشركة أن تربح كل قضية تذهب إلى التحكيم. فالنجاح المستمر قد يشير إلى أن الشركة تميل إلى تقديم عروض مفرطة في سخائها. ولكن إذا كانت الفجوة بين العرضين المتنافسين كبيرة وخسر مفاوض الشركة، ربما يكون هذا المفاوض قد أساء تقدير القيمة المنصفة للعرض. وللتقليل من خطر حالات إساءة التقدير هذه، نحن نقترح أن يقوم فريق أكبر، بما في ذلك المدير المشرف على عمل هذا المفاوض، بإجراء مراجعة للعرض المقدم سلفاً. وعندما تشير نتيجة سيئة تحصل إلى وجود سوء في التقدير، يجب أن تكون الشركة هي من يتحمل المسؤولية، وألا تقع هذه المسؤولية على كاهل المفاوض الفرد.

والأهم من كل ذلك، يجب أن يكون الدعم الذي يحظى به البرنامج من أعلى المستويات واضحاً وظاهراً في عموم المؤسسة. ففي شركة أيه آي جي على سبيل المثال، كُتبت على المواد التدريبية الخاصة بالبرنامج عبارة واضحة هي "طريقة أيه آي جي في إجراء المفاوضات". كما شدد رئيسها التنفيذي هانكوك علناً على أنه يأمل أن تسهم هذه الاستراتيجية في خفض تكاليف إجراءات التقاضي وفي تحسين سمعة الشركة.

نحن نشجع المفاوضين على استعمال استراتيجية "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" ليس بوصفها أسلوباً عدوانياً وإنما بوصفها آلية متحضرة لبعث رسالة تنم عن إيمان الشركة الصادق بعروضها المنصفة. كما أن التطبيق الكامل للاستراتيجية يحتاج إلى التزام القيادة وإلى تخصيص الاستثمارات للتدريب. ولكن إذا أسهمت الاستراتيجية في خفض التكاليف، وتحسين رضى الزبائن، وتعزيز سمعة الشركة، فلا شك بأن هذه الاستثمارات ستكون قد وضعت في المكان الصحيح.

إنقاذ الصفقة

دعونا نرى كيف يمكن لاستراتيجية "تحدي إحالة العرض النهائي إلى التحكيم" أن تُستخدمَ لإنقاذ المفاوضات المتعلقة بعملية اندماج عندما يكون الفريقان قريبين من تحديد سعر صفقة الاستحواذ. الشركة المُستهدَفة ترغب بالتوصل إلى اتفاق بسرعة لتحاشي أي محاولة لاستحواذ عدائي (hostile takeover) عليها من شركة مختلفة. الفرق بين السعر الذي تعرضه الشركة المُستهدَفة والسعر الذي تطلبه الشركة المُستحْوِذة لا يزيد على 30 مليون دولار، أي أنه لا يشكل إلا نسبة مئوية صغيرة من مبلغ الصفقة المقدر بـ 800 مليون دولار. وكان هذا الخلاف يتعلق بتقويم جزء من الشركة فقط، ألا وهو مشروع جديد تشعر الشركة المُستهدَفة بالحماسة تجاهه خلافاً للشركة المُستحْوِذة. وليس هناك ما يكفي من الوقت لاستبعاد هذا المشروع من الصفقة، من خلال بيعه كشركة منفصلة مثلاً.

يمكن لأي طرف أن يقترح المضي قدماً بالاتفاق، مع العمل في الوقت نفسه على صياغة آلية سريعة لإحالة العرض النهائي إلى التحكيم الذي سيقرر أي من الطرفين قدم تقويماً منصفاً للمشروع. نحن نتنبأ بأن يقود هذا المقترح إلى التوصل إلى اتفاق ينجم عن عملية تفاوضية، ودون الحاجة إلى اللجوء إلى التحكيم. وإذا كان أي من الطرفين يحاول أن يضخم تقويمه للمشروع الجديد، فإن التحدي بإحالة العرض النهائي إلى التحكيم يجب أن يعيده إلى مائدة المفاوضات ويجعله أميل إلى تقديم التنازلات.

لمحة موجزة عن عملية إحالة العرض النهائي إلى التحكيم

إحالة العرض النهائي إلى التحكيم – والذي يُعرف أيضاً باسم "تحكيم البيسبول" بسبب استخدامه في النزاعات المتعلقة بالرواتب والأجور في الدوري الأمريكي الرئيسي للبيسبول. وكان هذا المفهوم قد ظهر للمرّة الأولى في ستينيات القرن الماضي على يد الباحث في شؤون العلاقات العمالية كارل ستيفنز كاستراتيجية لدفع الأطراف نحو التوصل إلى اتفاق. وكان التحكيم التقليدي مستخدماً بكثرة كبديل عن الإضرابات لحل الخلافات بين إدارات الشركات والعمال. في عمليات التحكيم التقليدية، يعرض الطرفان قضيتهما على طرف حيادي ثالث يكون حكمه في القضية ملزماً. وبصورة أساسية، تُعتبرُ عملية التحكيم التقليدية عملية قضائية كفوءة. لكن الأبحاث أظهرت بأن الطرفين يظلان متباعدين على أمل أن يقسّم المحكّم الفرق في القيمة بين العرضين بينهما. في تلك الحالة، كلما كان عرضك يتمتع بقدر أكبر من اللامنطقية، كلما كنت أقدر على تحقيق مكاسب أكبر. وبالتالي، فإن العديد من الناس كانوا يشككون في الحكمة من اللجوء إلى التحكيم. وقد توصّل ستيفنز إلى مفهوم إحالة العرض النهائي إلى التحكيم لمعالجة المشكلة وتشجيع المفاوضين على حل النزاعات بأنفسهم. وبموجب هذه الإستراتيجية، يعود تقديم عرض نهائي منطقي على من يقدمه بالنفع الكبير عوضاً عن أن يُعاقب على ذلك. فالطرفان يقدمان عرضيهما النهائيين، ويجب على المحكّم أن يختار واحداً منهما. ورغم أن ذلك قد يمنع المحكّم من اختيار رقم يعتقد بأنه منصف بحق، إلا أن خطورة العملية تدفع الطرفين إلى التوصّل إلى اتفاق، الأمر الذي يرفع إلى حدٍ كبير من نسب التوصّل إلى تسوية. وفي الحالة النادرة التي يجري فيها اللجوء إلى التحكيم فعلياً، ينافس كل طرف ليكون أكثر منطقية من الطرف الآخر.

وبحسب ما يذكره ستيفنز في عام 1976، "لم تبدِ الجمعيات المعنية بالعلاقات بين العمال وأصحاب العمل حماسة كبيرة لهذا الاقتراح. وقد كان هناك ميل إلى التقليل من شأن هذا الاقتراح بوصفه "حيلة" لا تجدي نفعاً". وقد انتقد الكثير من الناس الشرط القائل بأن المحكّم يجب أن يختار أهون الشرّين عوضاً عن اختيار العرض الذي كان منصفاً فعلاً. ومع ذلك، فإن استراتيجية إحالة العرض النهائي إلى التحكيم قد أثبتت بأنها بديل قوي عن اللجوء إلى المحاكم والإضرابات ويمكن تطبيقها من أجل السيطرة خلال التفاوض.

اقرأ أيضاً: دراسة: لطفك في التفاوض قد يُفضي إلى نتائج عكسية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي