كنت أقدِّم إحدى جلسات التوجيه التنفيذية، وسأستخدم اسم فهد (غير حقيقي) للشخص المشار إليه. يقول فهد وهو أحد مدراء الأقسام العاملين في شركة لصناعة الحديد: "لم أظن يوماً أن مديري قد يتحول إلى خصم، ويدفعني دفعاً نحو الفشل"، وهو ما جعلني أتعمق أكثر وأكثر في سلوكيات هؤلاء المدراء الذين قد تصل معهم الحال إلى محاربة أقرب الناس إليهم في العمل.
وإذا نظرنا إلى التنافسية نجد أن سبينس (Spence) وهيلمريك (Helmreic) قد عرّفا سمة التنافسية بأنها نوع من الصفات التي تشير إلى "الرغبة في المنافسة بين الأشخاص والرغبة في الفوز، وأن تكون الأفضل بين الآخرين"، وقد لا تنطبق هذه السمة على من هم خارج المؤسسة، بل على من هم في داخلها أيضاً، حتى لو كان التنافس بين الزملاء أنفسهم أو بين المدير وأتباعه، أو العكس. من هنا يمكن اعتبار التنافس فطرة بشرية يسعى من خلالها الناس إلى التميز والفوز، ومن منا لا يحب الفوز!
وللتعمق أكثر في سلوكيات المدير الذي يتحول إلى عدو يحارب موظفيه، قادتني قصة فهد إلى إجراء مقابلات مع 35 رئيساً تنفيذياً ومديراً لمؤسسات في الشرق الأوسط في مختلف القطاعات (التجارة والمحركات والاستشارات والقطاع الحكومي والترفيه والصناعة وغيرها)؛ للوقوف عند هذه الظاهرة، وقد خلصت هذه الجلسات غير الرسمية إلى حصيلة من الأسباب المحتملة وراء سلوكيات المدراء الأعداء، ومنها:
قوة قدرات الموظف وصفاته
إن قوة قدرات الموظف ومهاراته وصفاته الشخصية قد تشكل تهديداً لمديره الذي تنقصه هذه الكفاءات؛ وعندها سيشعر بالخوف الدائم من أن يأخذ هذه الموظف مكانه يوماً ما، أو يأخذ التقدير على جهوده وأعماله. وهذا التفكير من شأنه أن يعزز غريزة المدير للدفاع عن منصبه، وذلك بمحاربة من يحاول الاقتراب منه. وفي هذا الخصوص وجدت دراسة في عام 2021 بعنوان: "آثار نرجسية القائد على النجاح الوظيفي للموظفين: منظور العلاقة الشخصية" أن السمات الشخصية المهيمنة للموظفين يمكن أن تعزز تأثير نرجسية القائد على صراع العلاقة بين المشرف والمرؤوس.
إنجازات الموظف المستمرة
إن الموظف صاحب الإنجازات التي تعود بالنفع عليه، والتي تظهره على أنه الموظف المتميز، قد تكون شرارة التنافس مع مديره صاحب الضعف في الإنجازات، كما أن استمرار الموظف بالترويج لإنجازاته وقدراته أمام زملائه، أو من خلال منصات التواصل المهني قد يدفع المدير إلى التفكير في أنه كائن ضعيف، ولن يستطيع أن يأخذ دوره الحقيقي من الآن فصاعداً، ما يستثير غضبه ورغبته في استرداد شرفه المهني، وهذا ما أشارت إليه دراسة باتريشيا ميغليتش (Patricia Meglich) وشون فالنتين (Sean Valentine) وديل إيسلي (Dale T. Eesley) عام 2019، التي أجريت على 749 مشاركاً، والتي خلصت إلى أن المشرف القليل الكفاءة والإنجازات يتحول إلى مشرف مسيء بسلوكياته وتصرفاته، وخصوصاً مع الموظفين العاملين معه.
مدح الموظف من قبل العملاء
هذا المفهوم الجديد من المنافسة الذي يطول الموظفين من مدرائهم، حيث إن مديح أحد العملاء للموظف أمام مديره دون مدح مديره أو مدح الموظف وذم مديره قد يجعل المدير يشعر بالخزي والعار، فيضطر المدير إلى البحث عن طرائق متعددة ليثبت للجميع أن الموظف يستمد قوته منه، وأن العميل أخطأ في تقديره، وهذا الأمر يجعله يحارب الموظف في كل مهمة قد تعود عليه بالتقدير من العملاء.
ضعف الذكاء العاطفي
يمكن أن يؤدي ضعف الذكاء العاطفي لدى المدير إلى آثار سلبية على علاقته مع موظفيه، ما يمكن أن يحولهم إلى أعداء، أو يتحول إلى عدو لهم، وهذا ما تؤكده أبحاث كل من باتريشيا وزملائه عام 2004، وبراكيت وزملائه عام 2004 ومارتن في عام 2014، أن الذكاء العاطفي له تأثير سلبي كبير على السلوك المنحرف في مكان العمل، وقد أشار أيضاً لحسن حداد في مقالته المنشورة في هارفارد بزنس ريفيو العربية إلى أن القائد المحنك هو الذي يطور الذكاء العاطفي لديه، ويستعمله لتحفيز العاملين، ويحثهم على الإبداع والإنجاز. ويمكن تلخيص علامات الضعف في مهارات الذكاء العاطفي في عدة نقاط أهمها:
- نقص التعاطف: يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يواجه صعوبة في التعاطف مع مشاعر موظفيه وآرائهم، فقد يتجاهل أو يخفض من شأن مشاعر أعضاء فريقه ومخاوفهم، ما يجعلهم يشعرون بالتهميش وعدم الأهمية.
- ضعف التواصل: يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يواجه صعوبة في فهم التأثير العاطفي لكلماته وأفعاله على موظفيه. فقد يبدو قاسياً، أو لا يهتم، ما يؤدي إلى سوء الفهم والجرح بين أفراد الفريق.
- عدم القدرة على التعرف إلى الإجهاد والإرهاق: يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يفشل في التعرف إلى علامات الإجهاد والإرهاق لدى موظفيه. فقد يضغط على أعضاء فريقه بشدة دون النظر إلى صحتهم النفسية، ما يؤدي إلى الاستياء والتراجع في الإنتاجية.
- السلوك العدواني والردود العاطفية: يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يكون عرضة لنوبات عدوانية وسلوكيات ردود فعل عاطفية. فقد يتصرف باندفاع عندما يواجه تحديات أو خلافات، ما يخلق بيئة عمل مشحونة ومعادية.
- التفضيل والمعاملة غير العادلة: من دون الذكاء العاطفي، يمكن للمدير أن يكون أكثر عرضة للتفضيل أو القيام بمعاملة غير عادلة للموظفين.
- عدم تقديم الدعم والإرشاد: يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يواجه صعوبة في تقديم الدعم العاطفي اللازم أو تقديم الملاحظات البنّاءة؛ ما يجعل الموظفين يشعرون بعدم الدعم والتوجيه.
- صعوبة في حل النزاعات: الصراع هو أمر طبيعي، ولكن يمكن للمدير الذي يفتقر إلى الذكاء العاطفي أن يواجه صعوبة في التعامل مع الصراعات بفعالية. فقد يتجنب معالجة المشكلات مباشرة، أو يزيد من تصاعد الصراعات بشكل غير لازم، أو يعالجها بطريقة مشحونة عاطفياً، ما يزيد من تفاقم المشكلة.
- العلامة الشخصية للموظف (Personal Branding): إذا لم تتوافق العلامة الشخصية الخاصة بالموظف مع علامة الشركة التجارية، فقد يؤدي ذلك إلى حدوث ارتباك وتقويض صورة الشركة. على سبيل المثال، إذا كنت محترفاً متخصصاً في مجال معين، ومعروفاً بأنك تشارك رأيك في القضايا المرتبطة بتخصصك بكل حرية ودون خوف، فقد ينعكس ذلك بشكل سلبي على الشركة التي تعمل لديها. وللتأكيد على أهمية دعم العلامة الشخصية للموظفين تقول رالوكا لوانا فوسلوبان (Raluca Loana Vosloban) في خلاصة بحثها الذي نشرته المجلة العالمية للعلوم الإدارية وتقنية المعلومات عام 2013 بعنوان "العلامة التجارية الشخصية للموظف كعلامة وميزة تنافسية"، بأنه "ينبغي على الفرد أن يأخذ في الاعتبار موقف الموظف كعامل حاسم عند تحليل العلامة الشخصية الخاصة به. ومن ثم، فإن الموظفين الذين يتمتعون بالمناخ الإيجابي والكفاءة والحماس لتحقيق الأهداف والاحترام والاستعداد للتغيير، عادة ما يبنون علامة شخصية ناجحة، وتكون موضع تقدير من الجميع"، وهذا ما يؤكد العكس بأن هناك من قد يتضرر من هذه العلامة الشخصية ونجاحها، ويحاول أن يحاربها.
في الختام، يمكن أن يتحول دور المدير من داعم إلى خصم، والانخراط في النزاعات التي تسبب فشل الموظفين، ما يجعل تجربة العمل مؤلمة وصعبة. ويذكي هذا التحول عوامل مختلفة تؤدي إلى الصراعات الشخصية وعدم القدرة على إدارة العواطف.