ليس بإمكانك رسم خطة محددة لكيفية سير المفاوضات. بدلاً من ذلك، أنت بحاجة إلى استراتيجية من الخيارات التي تتيح لك التكيّف مع كل وضع لتنمية صفات المفاوض الماهر لديك. فالفرص، كما العوائق، يمكن أن تظهر في أي لحظة. كما أن السلطة تتحرك مثل المد والجذر، فتارة ترتفع وأخرى تنخفض. والمحادثات التي تبدو وكأنها تسير ببطء شديد يمكن أن تتسارع فجأة أو تنحرف بغتة لتغيّر مسارها.
في نهاية المطاف، المفاوضات هي طريق ثنائي وباتجاهين. ومهما كان الشخص الذي تتعامل معه، فقد يكون لديه ذكاؤك وعزيمتك (أو حتى قابليتك لارتكاب الأخطاء)، وليس بوسعك فرض جدول أعمال معين أو تصورات أو سلوكيات محددة على هذا الشخص. لذلك يجب أن تكون قادراً على استباق الأمور والتجاوب معه في الوقت ذاته، اعتماداً على الكيفية التي تسير بها الأمور مع المفاوض الجالس أمامك.
أمثلة عملية عن صفات المفاوض الماهر
لنفترض، على سبيل المثال، أنك ترغب بضمان توقيع عقد خدمة مع زبون جديد. فما هو أول شيء ستقوله له بعد أن يرحّب بك في مكتبه (ناهيك عن ثاني أو ثالث شيء)؟ حيث تتوقف كل الأمور على الطريقة التي تبدأ فيها الحديث. وهو يمكن أن يُباشر الكلام بطرق مختلفة:
السيناريو الأول: "مرحباً أحمد! نحن نتطلّع قدماً إلى الدخول في شراكة معكم. لذلك دعنا نتوصّل إلى صفقة تكون مفيدة لكلينا".
السيناريو الثاني: "أنا سعيد جداً بتشريفك لي في مكتبي. لقد وضعك زملائي على القائمة القصيرة للأشخاص المحتملين الذين نرغب في توقيع عقد التوريد معهم".
السيناريو الثالث: "حان الوقت يا أحمد لتتخذ قرارك ودون تردد. فنحن معجبون بعرضك، لكن يجب عليك تخفيض سعرك قليلاً لتكسر أسعار منافسيك".
اقرأ أيضاً: صفات المفاوض الجيد
هذه العبارات الثلاث تنم عن درجات متفاوتة من الحماس والرغبة في العمل معك. كما أنها تعكس 3 أساليب مختلفة للمساومة. وكل واحد منها يستدعي جواباً خاصاً من جانبك.
حتى لو كنت مستعداً جيداً، وتوقعت عدة سيناريوهات من الإجابات المحتملة، فذلك لا ينفي أنه يجب عليك الإصغاء جيداً إلى الكلمات الدقيقة التي يتفوّه بها الزبون والتفكير في معناها الحقيقي قبل الإجابة. قد لا يكون مطلبه بالأسعار المنخفضة أكثر من مجرد هراء لا معنى له، على سبيل المثال. أو قد يكون ذكره لموضوع "الشراكة" أمراً زائفاً. وأنت لن تعلم فعلياً شعورك الحقيقي في تلك اللحظة – بالحذر أو الثقة – إلا عندما تكون جالساً قبالته في المكتب. عندئذ سيكون لديك تصور أفضل عما إذا كنت ستوافق على مطالبه أو تطلب المزيد.
مهارة الارتجال عند المفاوضين الكبار
إن المفاوضين الكبار هم فقط من يتفهمون أهمية سرعة البديهة والذكاء. شبّه ريتشارد هولبروك، الدبلوماسي الأميركي الراحل، الذي كان وسيط السلام في يوغسلافيا السابقة، المفاوضات بموسيقى الجاز. وحسب رأيه هي "عبارة عن ارتجال في نوع من النغمات. أنت تعرف إلى أين تريد الذهاب، لكنك لا تعلم كيف تصل إلى مقصدك. فالمسار ليس خطاً مستقيماً".
لكن الارتجال لا يعني ابتكار أشياء جديدة كلما مضت العملية قدماً. بل على العكس. الارتجال يتطلب منك التعلم والتكيف بتروٍ وتمعّن مع مضي قطار المفاوضات قدماً. وأنت تحتاج إلى أن تعلم ما مدى إمكانية التوافق، وما إذا كان بوسعك إيجاد فرص لتحقيق مكاسب مشتركة للطرفين. كما أنك تستكشف الطريقة المثلى لدفع نظيرك في المفاوضات إلى الانخراط بأكبر قدر من الإيجابية في العملية: هل يجب أن تقدّم الجَزرة الآن، أم أن الوقت مناسب للتلويح بالعصا؟
من المهم أن تكون جاهزاً ولديك إجابات تقريبية عن هذه الأسئلة قبل أن تبدأ. ولكن ما يُعادل ذلك في الأهمية هو أن تتعامل مع هذه المسائل على أنها افتراضات بحاجة إلى اختبارها أو إعادة صياغتها أو التخلي عنها بالكامل. كلما قلّت معرفتك، كانت استراتيجيتك مؤقتة وقابلة للتعديل أكثر. إذ يجب أن تكون لديك خطة ثانية بديلة في حال لم تسر الأمور كما كنت تأمل.
اقرأ أيضاً: عندما يكون عنصر المفاجأة خياراً تكتيكياً جيداً في المفاوضات
نُقلَ عن الجنرال دوايت أيزنهاور، مهندس يوم الغزو العظيم في الحرب العالمية الثانية، قوله الشهير: "الخطط لا قيمة لها، وهي عديمة الجدوى" لكن غالباً ما تُنسى بقيةُ الجملة التي رددها ومفادُها: "لكن التخطيط هو كل شيء". فالتخطيط الصارم يشمل تقييم السيناريوهات الواجب تطبيقها في أفضل الحالات وأسوأها. لأن ذلك يقوي من نظرتك وقدرتك على التقاط الإشارات التي توضح فيما إذا كانت الأمور تسير على ما يُرام أم أن هناك مشكلة تلوح في الأفق، وبالتالي تقرر ما إذا كنت ستواصل السير في نفس الطريق أم أنك مضطر إلى تعديل مسارك بناء على المستجدات.
وينطبق الشيء نفسه على المفاوضات.. فوجود خطة مصاغة جيداً يسلط الضوء على ما لا تعرفه، أو على المعلومات التي تحتاج إلى اكتشافها في سياق تعاملك مع نظيرك خلال عملية التفاوض. لكن هناك عنصر المفاجأة الذي يظهر لك بغتة أثناء التفاوض لأن الأسئلة التي تطرحها، والمطالب التي تضعها بين يديّ خصمك، والعروض التي تتقدم بها، يمكن أن تقود إلى تبعات غير متوقعة. فقد تلجأ إلى تقديم تنازل ما كبادرة حسن نية على أمل أن تحصل على أخرى مقابلة من المفاوض الجالس أمامك. فإذا كنت محقاً، ستسير المفاوضات وفق مسار واحد فقط. ولكن إذا قرأ المفاوض المقابل البادرة على أنها علامة ضعف، فإنكما ستذهبان في اتجاه مختلف للغاية. وبالتالي يجب أن تكون جاهزاً لمواجهة كلا الاحتمالين وقادراً على تمييز أي المسارين هو الذي فرض نفسه.
اقرأ أيضاً: الأنماط الثقافية ربما تجعل منك مفاوضاً لا يتحلى بالأخلاق الكافية
يشدد غاري كلاين، أحد أصحاب النظريات الخاصة باتخاذ القرار، على أهمية امتلاك ما يسميه "الأفكار القوية التي تعتنقها بضعف"، وطرح هذه الفكرة في كتابه المعنون: "أنوار الشارع والظلال: البحث عن المفاتيح الرئيسية من أجل المرونة في اتخاذ القرارات" (Streetlights and Shadows: Searching for the Keys to Adaptive Decision Making). فإذا لم تكن لديك فكرة حول مسار الأمور وإلى أين تتجهان، فإنك ستسير على غير هدى كالشخص المعصوب العينين الذي لا يدري إلى أين يذهب. وفي المقابل، كلما كانت افتراضاتك أكثر تحديداً، سهل عليك التقاط البراهين والأدلة التي تؤكد ما إذا كنت على صواب أم خطأ.
وبالنسبة لصفات المواهب الماهر، يكمن الخطر في قلب نصيحة كلاين رأساً على عقب. إذ يشدد الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي الشهير لدى "الأمم المتحدة"، الذي توسّط في العديد من النزاعات الدموية في أنحاء العالم، على أهمية الانفتاح الذهني والتكيّف الدائم مع الأوضاع. فقد قال لي يوماً: "لا تطلب من الواقع أن يمتثل لقواعدك الأساسية، وإنما غيّر قواعدك الأساسية لتتكيّف مع الواقع".
اقرأ أيضاً: قراءة تعبيرات الوجه هي سر النجاح في المفاوضات