دعوة إلى زيادة الاستثمار في الموظفين

5 دقائق
.shutterstock.com/Andrii Yalanskyi

كتب بول كروغمان منذ ما يزيد عن 20 عاماً: "ليست الإنتاجية كل شيء، ولكن على المدى الطويل، تكاد تكون كل شيء. إذ تكاد قدرة الدولة على تحسين معايير الحياة فيها مع مرور الوقت تعتمد بالكامل على قدرتها على رفع إنتاج كل عامل".

هناك دورة مثمرة بين الإنتاجية والموظفين، إذ تتيح مستويات الإنتاجية الأعلى للمجتمع تجديد الاستثمار في رأسماله البشري (من خلال الأجور الأعلى كما هو جلي، إنما ليس على سبيل الحصر)، وتنتج الاستثمارات الذكية زيادة في إنتاجية العمل.
ولكن للأسف، يبدو أن هذه الدورة المثمرة قد كسرت، إذ أصيبت الإنتاجية في معظم الأنظمة الاقتصادية المتطورة بالضعف. فقد قامت منظمة التنمية والتعاون بقياس الإنتاجية في الولايات المتحدة في العقد الممتد بين عامي 2005 و2015، عن طريق مقياس الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل، ووجدت أنها كانت أقل من 1% لسبعة أعوام من ذاك العقد. أضف إلى ذلك ركود الأجور ، على الرغم من أن نسبة البطالة في الولايات المتحدة قد وصلت إلى أدنى حد لها منذ 16 عاماً، إلا أن نمو الأجور كان بطيئاً مقارنة بالفترات المماثلة السابقة. وبالطبع، يمكن للإنتاجية المتدنية التسبب بركود الأجور هذا، ولكن في العقود الأخيرة لم تنم الأجور كما هو متوقع حتى خلال فترات نشاط نمو الإنتاج الاقتصادي. يقول تقرير في صحيفة نيويورك تايمز: "على مدى قرابة 50 سنة الأخيرة، أي ما يشكل نسبة 84% من الزمن منذ عام 1966، نمت الأجور المتوسطة ببطء أكثر من المتوقع بناء على نمو الإنتاجية والتضخم". وفي أثناء معظم هذا الوقت كان المساهمون هم من جنى فوائد ارتفاع الإنتاجية، ولم يجن الموظفون شيء.

اقرأ أيضاً: دور الحوكمة في جذب المستثمرين.

كل هذه الأمور تثير سؤالاً مستعصياً على الإجابة: هل نعاني من إنتاجية منخفضة لأننا لم نستثمر كفاية في رأس المال البشري؟ أم أننا غير قادرين على الاستثمار في رأس المال البشري لأن العوامل البنيوية تتسبب بتخفيض الإنتاجية بصورة دائمة؟

تشير الأدلة إلى السؤال الأول، إذ تمكنا من تحسين الإنتاجية عندما أوقفنا نقص الاستثمار المنهجي في رأس المال البشري. والاستثمار المباشر والأكثر وضوحاً هو زيادة الأجور، ولكن هناك أشكال أخرى للاستثمار في رأس المال البشري، بما فيها التعليم والتدريب والرعاية الصحية المحسنة وغيرها من الاستثمارات الأقل وضوحاً، كتخصيص الوقت والمساحة لاستكشاف الأفكار الجديدة وفرص التطوير المهني. وقد وجدت أنا وشريكي في تأليف مقالة "الوقت والموهبة والطاقة"، مايكل مانكينز، أن هذه الاستثمارات مجدية فعلاً. فقد تمكنت أفضل الشركات تصنيفاً في دراستنا من إطلاق نسبة إضافية من قوة الإنتاج تبلغ 40% ضمن قواها العاملة عن طريق تطبيق برامج أفضل فيما يخص إدارةالوقت والمواهب والطاقة.

فلنلق نظرة على الاستثمارات الثلاثة في الأجور والوقت والطاقة، والتي يمكنها تنشيط الدورة الإنتاجية:

الأجور. لا نحتاج إلى تحميل زيادة الاستثمار في الأجور على عاتق الزبائن والمساهمين. توضح الأستاذة في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) (MIT)، زينب تون، في مقالتها "استراتيجية الوظائف الجيدة" كيف يمكن لشركات التجزئة التوفيق بين عرض قيمة الزبائن لديها واستراتيجية عملياتها ونهجها في التعامل مع رأسمالها البشري. وفي الأمثلة التي طرحتها تون نجد أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين مناصرة الزبائن وانخراط الموظفين، ما يتيح لهذه الشركات إنشاء خبرة أفضل للزبائن ووظائف ذات جودة أعلى للموظفين ونتائج مالية أفضل للمساهمين. وجدير بالذكر أن الشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء تقوم باختبار هذه المفاهيم، وأحد الأمثلة هو شركة تنظيف وخدمات مكتبية تدعى "ماندجيد باي كيو" (Managed by Q) التي قررت أن تزيد أجور موظفيها لتصبح أعلى من الأجور السائدة في السوق، فاستطاعت بالمقابل أن تحقق انخفاضاً في مستويات اضطراب الموظفين والزبائن، ما أدى بدوره إلى تخفيض تكاليف التوظيف واكتساب الزبائن. وبذلك أصبحت الآثار الإيجابية المضاعفة لمناصرة الموظفين والزبائن تفوق التعويض عن زيادة تكاليف الأجور. ومثال آخر في الجانب الآخر من نطاق الحجم، استثمرت شركة "وول مارت" 2.7 مليار دولار في شركائها من خلال زيادة الأجور وتحسين المزايا وتعزيز التدريب.

الوقت. إن معالجتنا اللامبالية للوقت تمثل مستوى صادم لنقص الاستثمار في رأس المال البشري. وعلماً أن الوقت شحيح للغاية بالنسبة للعاملين في مجال المعرفة، تشير أبحاثنا إلى أنه وسطياً، يحظى المدراء بأقل من 7 ساعات أسبوعياً من الوقت غير المنقطع للقيام بأعمال عميقة وهامة مقارنة بالأعمال السطحية. ويقضون ما تبقى من وقتهم في الاجتماعات والاتصالات الإلكترونية أو العمل ضمن أوقات إضافية لا تتعدى 20 دقيقة، وهذه ممارسات تصعّب إنجاز مهمة محددة ويمكن أن تؤدي في أسوأ الأحوال إلى إنهاك الموظف. نحن نعلم أن الأفكار العظيمة التي تحرك الابتكارات في الإنتاجية تأتي من البشر الذين يملكون الوقت والموهبة والطاقة ليقوموا بالابتكار.

وإحدى الخطوات باتجاه إبطال هذا التيار هو البدء بالتعامل مع الساعات على أنها دولارات تترتب تكاليف حقيقية على فرصها الضائعة. كما ينبغي للشركات السعي للقضاء المنهجي على العبء التنظيمي. وعن طريق منح المدراء مزيداً من الوقت ليتمكنوا من التفكير بعمق، ستتمكن من إطلاق الابتكارات التي يمكنها تحقيق أثر كبير على الإنتاجية. تستعين الشركات التي تتبع نظام تويوتا للإنتاج بفعاليات "كايزن" (التحسين المستمر) من أجل تحسين الإنتاجية على خط التصنيع، ويتطلب ذلك إبعاد العمال عن خط التصنيع هذا، ومنحهم الوقت والمساحة اللازمين لجعل العمليات أكثر مرونة أو لابتكار أساليب عمل مبتكرة. وبالمثل، تختبر مؤسسات كثيرة استخدام المراحل القصيرة "سبرنت" في منهجية أجايل فيما يتعدى المجالات التقليدية لتطوير المنتج وابتكاره. وتتمكن هذه الفترات إذا خضعت لإدارة جيدة من إخراج أفراد الفرق الموهوبين ذوي الاختصاصات المتعددة من روتينهم اليومي وتوجيه تركيزهم في الأوقات الإضافية الأسبوعية نحو تحقيق الإنجازات الابتكارية في المنتجات أو العمليات. ويعتبر كل من فعاليات كايزن والمراحل القصيرة "سبرنت" في منهجية أجايل استثماراً في الابتكار وإنتاجية رأس المال البشري. وقد اختبرت شركات تقنية كثيرة منح الموظفين وقتاً غير منظم لاستكشاف أفكار جديدة، مثل برنامج "إنكيوبيتور" في شركة لينكد إن و"بلوسكاي" في آبل و"غاراج" في مايكروسوفت.

الطاقة. ربما كانت أكثر خطوة تحويلية يمكن لأي شركة اتخاذها من أجل قوتها العاملة هي الاستثمار في إيجاد وظائف وبيئات عمل تطلق العنان للإلهام الذاتي. وهذه هي البوابة التي توصلنا إلى الطاقة التقديرية التي تضاعف إنتاجية العمل، إذ تزيد إنتاجية الموظف الذي يحصل على الإلهام على ضعفي إنتاجية الموظف الذي يشعر بالرضا، ولكن لا يحصل على الإلهام سوى موظف واحد من بين كل ثمانية موظفين. نحن نقوم بقياس الطاقة التنظيمية من خلال انخراط الموظفين، ورغم مرور عقود على الاستثمار في برامج الانخراط، لا تزال مستوياته منخفضة على نحو منهجي معند.

تفكر الشركات بطريقة لتغيير ذلك، ولذلك يجب عليها التركيز على الوظائف التي ستتمكن من الاستمرار في المستقبل. لأن قوى التدمير الإبداعي ستستمر حتماً في إنهاء بعض الأعمال، عن طريق اتباع الطرق الآلية والرقمية أو استخدام الوسائل الافتراضية في العمل، ولكن هذه القوى نفسها ستنشئ أنواعاً جديدة من العمل والوظائف. يتطلب إنشاء وظائف ملهمة وبيئات عمل تساعد على انخراط الموظفين معالجة شاملة للعوامل التي تحرك إلهام الموظف، والتي لخصناها في هرم شركة بين (Bain) لاحتياجات الموظف، ويتضمن ذلك استقلالية ومرونة أكبر بالإضافة إلى قيادة ملهمة. وتعمل شركات مثل آي بي إم بجدّ من أجل تطبيق التفكير التصميمي في جميع أنحاء الشركة. كما التزمت شركات أخرى، مثل شركة أيه إن زد (ANZ) المصرفية الأسترالية العملاقة، بتبني منهجية أجايل على نطاق واسع في أقل من عام واحد عن طريق اتباع البرامج المثبتة التي تستخدمها شركة سبوتيفاي للموسيقى.

على مدى زمن طويل جداً، كانت فلسفات الإدارة تركز على الكفاءة لا على الإنتاجية. ولم يؤد ذلك إلى نقص الاستثمار في الموارد البشرية فحسب، بل إلى نسبة أقل من إجمالي عائدات المساهمين على الرغم من وجود فترة أصبحت فيها تكاليف رأس المال (وبالتالي تكاليف الاستثمار من أجل النمو) منخفضة بصورة غير اعتيادية. ولكنّ النقص لا يكمن في موارد المال، بل في أفكار النمو الجيدة.

بيّن أخصائي الاقتصاد الكلي في جامعة نورث وسترن، روبرت غوردون، أن فترات الإنتاجية الابتكارية في الولايات المتحدة لم تكن نتيجة تعميق رأس المال (تخصيص رأسمال أكبر لكل ساعة عمل)، وإنما نتيجة لما تطلق عليه الأنظمة الاقتصادية إجمالي إنتاجية العامل، وهو مقياس شامل لتأثير الابتكار التقني. من يمتلك هذه الأفكار الملهمة ويستطيع ترجمتها إلى ابتكارات محركة للإنتاجية؟ الموظفون. لهذا نحن نؤمن أن رأس المال البشري، وليس المالي، هو غالباً موردك الأندر. وتجديد الاستثمار في هذا المورد الأندر سيطلق العنان لمستويات جديدة من إنتاجية العمل في الأنظمة الاقتصادية والشركات التي تحتاج إليها بشدة حول العالم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي