هناك ما هو مثير حول اختيار مشاريع ريادة الأعمال، فالاحتمالات تبدو لا متناهية؛ والمخاطر محفزة، وكل نجاح صغير أو نكسة مفجعة يمكن أن تنشئ خطوة أخرى للطريق نحو الاكتفاء الذاتي وتحقيق الهدف. بالنسبة للشباب، إنّ تأسيس عمل من لا شيء (سوى البذور العارية) لفكرة ما، يعني تحقيق حلم طويل للاستقلالية، والقدرة على إثبات قدرتهم على تمهيد طريقهم في الحياة.
لكن ماذا سيحدث بعد تحقيق الحلم والنهاية السعيدة لريادة الأعمال؟ ما الذي سيحدث بعد انتهاء كل الليالي وعندما تغلق الحاضنات، ويظهر المشروع الذي كان يوماً ما لريادي واحد يواجه العالم ثم تحول إلى جهد فريق متكامل؟ لكن ماذا سيحدث عندما تتحول الفكرة إلى عمل؟ إنّ بعض المشاريع يمكن أن تُزهر، لكن بعضها أيضاً يمكن أن يخفق تماماً وينطفيء كالشرارة على الرصيف الرطب.
يمكنك أن ترى أنّ المشكلة في الطريقة التي نتعامل فيها مع ريادة الأعمال على أنها رحلة محدودة؛ مثل قصة مارك زوكربيرغ التي بدأت ببصيرة شاب غير ناضجة وانتهت كعمل مزدهر. في الحقيقة، أن تنشئ عملاً من الصفر هو الخطوة الأولى، وفي بعض الأحيان هو الخطوة الأسهل. أما الجزء الصعب فيكمن في تحويل الجهود الريادية الفاشلة إلى مشروع متكامل تدريجياً.
ومن الأمور المثيرة للسخرية، أنّ الصفات التي تجعل الشاب المتفائل ناجحاً جداً كمؤسس طموح (مثل الشغف، الرؤية، الاستقلالية والهدف الواحد)، قد تقف هي نفسها عائقاً أمام تحقيق نجاحه كرئيس تنفيذي!.
هذا الانفصال الظاهر غير المتوقع بين المؤسسين الناجحين والرؤساء التنفيذيين هو ليس فقط قضية الريادين الفرديين، لكنه أيضاً قضية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل. في غضون بضع سنوات شهدنا ثورة متنوعة في النشاط الريادي خصوصاً بين الشباب. في العام 2015 وجدت منصة (بيت.كوم) في الشرق الأوسط أنّ 64% من مجتمع العينة يفضلون إدارة أعمالهم الخاصة على العمل لحساب شخص آخر. إنّ نتائج الدراسة التي نشرت في تقرير العام 2016 حول الموضوع، والتي اعتمدت بشكل خاص على بيانات جمعت خلال أجيال وجدت أنّ: "من بين 2,834 فرداً من الصين، وهونغ كونغ، وسنغافورة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، حاز الشرق الأوسط على أعلى نسبة من رواد الأعمال بنسبة 63%". هذه الإحصائيات ليست فقط مهمة لما تعنيه لمنظور الأعمال الآن، إلا أنها مفيدة أيضاً في معرفة كيف يمكن أن تؤثر هذه الإحصائية على ريادة الأعمال في المستقبل.
بالنظر للمستقبل، نحن على وشك أن نرى نقلة نوعية من المسارات الوظيفية التقليدية إلى مشاريع أكثر إبداعاً. هذا التدفق في ريادة الأعمال يمكنه أن يعيد تعريف طريقة قيادة عالم الأعمال في العقد القادم بشكل جيد، ويقود منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو عصر جديد من الإنتاجية المبدعة، وعلى الرغم من أنّ هذا التدفق يدفع نحو نهضة ريادة الأعمال المشروطة إلا أنّ المؤسسين غير المؤهلين يفشلون لا محالة كرؤساء تنفيذيين.
لا يمكن لكل الشغف الريادي في العالم أن يحوّل مؤسساً غير مؤهل إلى رئيس تنفيذي بارع، وبمجرد أن يفشل المشروع تختفي احتمالية ترك أي أثر إيجابي. إنّ عزمنا للاستفادة القصوى من جهود جيل هذه الألفية، يجعلنا بحاجة لإعادة صياغة الرواية حول الرحلة الريادية نفسها، وذلك بالنظر إلى ما وراء المنتج، أو النظر إلى عرض للعمل الذي يكون الإنسان أو الجهد البشري هو مركزه وأساسه.
خلال عملي كمستشارة ومرشدة في عالم الأعمال، عملت مع الحاضنات وشاهدت بعض الأفكار الرائعة التي بدأت تترسخ، ولكني رأيت أيضاً أن بعضاً من تلك المشاريع المبدعة فشلت في الحصول على الاحتضان، نتيجة لعجز مؤسسها في الوصول إلى المستوى المطلوب. وكما نرى، تستطيع الحاضنات أن تعلّم الريادي الطموح المهارات التي يحتاجها ليطلق مشروعه، كيف سيحول المشروع من فكرة إلى تطبيق؟ كيف سيتبنى استراتيجية أو يحلل السوق المستهدف؟ لكن بمجرد أن تطلق تلك المشاريع ستحتاج إلى أكثر من منتج قوي لتزدهر. ومن الأسس الرئيسة في المشاريع وعالم الأعمال أنها مؤسسات معتمدة على الجهد البشري، الذي يتطلب قيادة وتوجيهاً ذكياً وعاطفياً وهنا يتعثر المؤسسون.
يحتاج المؤسس حين يبدأ عملاً ما، لأن يكون هو المتحكم ليعرف المنتج من الداخل والخارج ويحافظ على رؤية المستقبل. إنّ ذلك الشغف أحادي التفكير للمشروع هو ما يلهم المستثمرين ويجمع أعضاء الفريق. لكن بمجرد أن يبدأ تطبيق المشروع، يمكن لنفس الصفات التي جعلت من الريادي مؤسساً استثنائياً أن تفشل المشروع. إنّ الرئيس التنفيذي الجيد مرن، وشجاع، وقادر على التفويض على عكس المؤسسين؛ فهم لا يستطيعون أن يحافظوا على سرية أفكارهم، ويتجاهلون نصيحة الفريق ويعملون على كل المهمات بأنفسهم. إنّ عدم المرونة وتبني رؤية فاشلة من الطرق التي تسبب فشل الأعمال.
إنّ المؤسس الفعال الذي تحول إلى رئيس تنفيذي يتعلم كيف يركز على الأهداف السامية ويتجاهل صغائر الأمور. كتب المستثمر ومدرب القيادة جون هام مقالاً حول هذا الموضوع ويقول فيه : "العمل بعزلة وفردية هو أمر جيد للعلماء العباقرة الذين يركزون على الأفكار اللامعة، لكنه كارثي للقائد الذي يعتمد على ازدهار مؤسسته مقابل التعامل الفعال مع الزبائن، والمستثمرين، والمحللين، والمراسلين والغرباء".
في الوقت الحالي، نستطيع أن نمنح الرياديين الصغار المهارات التي يحتاجونها لصياغة خطة أو تحضير عرض للعمل، لكن بماذا ستنفع مساعداتنا إذا فشل العمل بسبب مؤسسه الذي يفتقد لمهارات القيادة اللازمة لإدارة عمله؟ نحن نحتاج لإعادة صياغة ريادة متمركزة حول الإنسان، ونعطي المزيد من الأفكار حول كيف يمكننا تحضير المؤسسين ليصبحوا قادة عاطفيين وأذكياء. إذا استطعنا تحقيق ذلك، لن نساعد فقط الأعمال الفردية لتحقيق إمكاناتها، بل أيضاً سنضع الرياديين على طريق النجاح حتى بعد انتهاء المشروع المطروح.
من تجربتي التوجيهية والتدريبية لعدد كبير من رواد الأعمال الناشئين في منطقتنا العربية، يمكنني أن ألخص أهم التحديات التي يواجهها بعض رواد الأعمال، لإدارة مشاريعهم كرؤساء تنفيذيين أكفاء، وذلك بما يلي:
الارتباط عاطفياً بالفكرة الأولية لمشروعهم: ما يحول دون انفتاحهم على أي تطورات في المنتج أو الخدمة، وأذكر هنا مثالاً حياً لصاحبة مشروع حصلت على طلب من مستثمر من بلد آخر لفتح سوق جديدة، ما تطلب إدخال بعض التعديلات على طريقة الإنتاج من أجل توفير الكميات المطلوبة من السوق الجديدة، لكن ارتباطها العاطفي بمنتجها وفكرتها الرئيسية جعلها ترفض اقتراحات المستثمر وأضاعت فرصة ذهبية لتوسيع مشروعها الناشئ.
الإصرار على التحكم بكل تفاصيل إدارة الشركة: وذلك خوفاً من فقدان السيطرة أو لعدم الثقة بأي كان، فالتخوف من تفويض بعض الوظائف يضيع جهد صاحب المشروع ووقته بالأنشطة اليومية عوض استثماره لوقته وجهده في التركيز على الصورة الأكبر والرؤية المستقبلية.
عدم تحديد المسؤوليات والأدوار والضوابط: خاصة إذا كان المسؤولون من المقربين، فقد تسبب العلاقات الشخصية في بعض الأحيان إعاقة في مسار المشروع لعدم تمكن رائد الأعمال من أخذ قرارات صارمة خوفاً على مشاعر الآخرين.
ربما تكون بعض صفات رائد الأعمال الناجح فطرية ويولد بها بعض الموهوبين، لكن الرئيس التنفيذي لا يولد فقط، بل يمكن أن يصنع ويكتسب السمات والمهارات التي تميّز الرؤساء التنفيذيين الناجحين، وذلك عبر برامج التوجيه والإرشاد. مثل: الاحتكاك برواد أعمال مخضرمين وورشات عمل ترتكز على إدماج مهارات القيادة لرواد الأعمال، وأيضاً تشجيع بعض الشركات من القطاع الخاص لتبني بعض الشباب لإعطائهم فرصة التعلم بالتجربة، وذلك بجعلهم يتعرضون على بعض الفرص للتعامل مع بعض التحديات الحقيقية ومواجهتها بعقلية الرئيس التنفيذي الناجح.
أنصح رواد الأعمال الطامحين في اكتساب مهارات الرئيس التنفيذي وقيادة مشروعهم نحو التطور المستدام، بالتركيز على اكتساب المهارات المذكورة أدناه والتي اخترتها ضمن أكثر السمات التي تم تداولها في دراسات متعددة كأهم ما يعرف به الرؤساء التنفيذيون المتميزون:
- استراتيجية التوجه والقدرة على تطوير بناء استراتيجي واعتماد التخطيط المسبق لتحقيق التميز التنافسي، وإمكانية ترجمة الأهداف الاستراتيجية العريضة إلى خطط عملية وأهداف محددة.
- القدرة على التنبؤ، واستشعار المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعوائق التي تتطلب التكيف لإعداد القدرات والإمكانات الكفيلة بالاستفادة من الفرص وتجنب المخاطر.
- الموضوعية والحزم في اتخاذ القرارات: فالرئيس التنفيذي يضع مصلحة الشركة في أولوية قراراته مهما كانت الاعتبارات الشخصية.
- تفويض بعض المهام والمسؤوليات، وتمكين الطاقات والموارد البشرية من خلال تطوير قدرات الشركة على استقطاب الكفاءات، وتطوير الموظفين المتميزين القادرين على الالتزام بمعايير الأداء المناسب.
- على جميع أفراد الفريق الانضباط والالتزام بالقوانين والأنظمة الإدارية المطبقة ضمن الشركة من دون تحيز أو استثناءات.
- الذكاء الاجتماعي: وذلك يتضمن القدرة على التواصل وبناء علاقات إيجابية والمحافظة عليها.
قد يُنظر إلى ريادة الأعمال على أنها وظيفة معتمدة على مشروع ما، لكنها أيضاً فلسفة في تحديد مهنة الشخص بنفسه. نحن نحتاج لإعادة صياغة تعريف ريادة الأعمال بأنها متمركزة حول الإنسان قبل المشروع، ونحتاج إلى التركيز على معرفة كيف يمكننا تحضير المؤسسين والمساهمة في خلق جيل جديد من رواد الأعمال القادرين على المضي قدماً بهذا القطاع الحيوي الذي يمكن اعتباره القوة الدافعة للنمو الاقتصادي، والأمل الكبير في خلق فرص عمل للملايين من الشباب، ما يحفز على إنشاء شركات صلبة ومستدامة يديرها رؤساء تنفيذيون أكفاء.
إن حققنا ذلك لن نساعد فقط الأعمال الفردية لتحقيق إمكاناتها، بل أيضاً سنضع الرياديين على طريق النجاح حتى بعد انتهاء المشروع المطروح في تحديد مهنة الشخص بنفسه.
ما أن يمتلك رياديو الأعمال مهارات الرئيس التنفيذي في القيادة ستكون خياراتهم لا حدود لها، ستكون لهم القدرة على أن يتخلوا عن مشروع واحد مستقل للمصلحة العامة، أو تكون لهم القدرة لينضموا لمجال الشركات. وبمنح المؤسسين الصغار أدوات القيادة التي يحتاجونها ليزدهروا كرؤساء تنفيذيين نحن نعرض عليهم شيئاً أكثر قيمة من أي مشروع، نحن نمنحهم الحرية والوسائل لتحديد مستقبلهم بأنفسهم. أليس ذلك هو جوهر ريادة الأعمال؟