ملخص: يجب أن تخطط الشركات لحقبة ما بعد الجائحة، وذلك من خلال فهم سلوكيات أصحاب المصلحة بعد انقشاع الأزمة. ستعود بعض السلوكيات إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، فيما ستشهد سلوكيات أخرى تحولات جذرية، وستختفي سلوكيات أخرى من المشهد بصورة تامة. ويقدم كُتّاب هذه المقالة خطة عمل لما بعد جائحة كورونا، وإطار عمل يساعد الشركات على رسم تصورات معقولة لما سيحدث بعد ذلك استناداً إلى الأبحاث التي تتناول سبل تكوين العادات وآليات اعتماد التكنولوجيا الحديثة وعلم الاقتصاد السلوكي.
تواجه كل شركات العالم في الوقت الحالي السؤال ذاته: ما الذي سيحدث عندما تنتهي الجائحة؟ وقد شهدت متاجر البقالة وشركات تصنيع السلع الاستهلاكية المُعلبة زيادة غير متوقعة في المبيعات، فهل سيستمر هذا النمو؟ وشهدت الفنادق وشركات الطيران انخفاضاً غير مسبوق في الطلب، فهل سيعود نشاطها إلى سابق عهده يوماً ما؟ يجب على شركات صناعة الأفلام السينمائية وشركات إنتاج ألعاب الفيديو والمسارح وضع تصوراتها حول كيفية تأثير الجائحة على عادات الترفيه بشكل دائم، وهو ما يعني باختصار أن الكثير من الشركات ستجد عند انقشاع أزمة الجائحة أن نماذج عملها القديمة قد تزعزعت ولم تعد صالحة بالمرة.
وقد عملنا طوال أشهر عدة مضت مع عدد من إدارات الشركات العاملة في قطاعات متنوعة، تشمل البيع بالتجزئة والترفيه والماليات والرعاية الصحية، لوضع خطة للتعامل مع مستجدات المرحلة التالية. توصلنا خلال هذه المدة إلى استنتاج مفاده أن التفكير الاستراتيجيّ التقليدي لم يعد يصلح لمساعدة هذه الشركات على التخطيط للتعامل مع "الأوضاع المستجدة" التي ستمليها المرحلة التالية. ووجدنا أن الأسلوب الأمثل يقتضي اتباع نهج هجين يجمع بين استراتيجية الأعمال التقليدية وأحدث الأفكار المستقاة من العلوم الاجتماعية ونظرية الابتكار.
ويستلزم التخطيط لحقبة ما بعد الجائحة ضرورة الإجابة عن 3 أسئلة أساسية. أولاً: كيف تصنع شركتك المال في الواقع؟ لم يتأنّ الكثير من الشركات بصورة كافية لتحديد المميزات الاستراتيجية الحاسمة أو تحديد كيفية تدفق الأموال والسلع والمعلومات من مورديها إلى المستهلكين. ثانياً: من الذي تسند إليه قيادة العمل في الشركة؟ حدد أصحاب المصلحة الأكثر أهمية وسلوكياتهم التي تؤثر على نموذج عملك.
وقد تجد بعض الصعوبة في الإجابة عن السؤال الثالث المهم والذي يقول: كيف سيبدو سلوك الأفراد بعد الجائحة؟ ستستمر الجائحة لفترة مؤقتة، إلا أنها ستستمر لفترة طويلة بما يكفي لتحويل بعض السلوكيات المؤقتة إلى تغيرات أساسية، حيث ستعود بعض الأشياء إلى ما كانت عليه في نهاية الأزمة، وستبدو بعض الأشياء مختلفة تماماً، فيما لن يعود البعض الآخر إلى سابق عهده بكل بساطة. الفكرة هنا أن تفرّق بين هذه الأنواع الثلاثة.
سلوكيات أصحاب المصلحة
وللمساعدة في إلقاء بعض الضوء على هذا السؤال الأخير، حددنا 3 فئات من سلوكيات أصحاب المصلحة بغرض تقييمها:
السلوكيات المستدامة
هي الأنشطة التي ستعود في الغالب إلى ما كانت عليه قبل الأزمة دون أي تغيير تقريباً. فقد كف الناس، على سبيل المثال، عن الإقامة في الفنادق خلال الأشهر التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول، لكن لم يلبث هذا السلوك أن عاد في النهاية إلى مستويات ما قبل 11 سبتمبر/أيلول. وما على أصحاب الفنادق إلا أن يجدوا طرقاً للحفاظ على الكيان في هذه الأثناء.
السلوكيات المتحولة
هي الأنشطة التي ستعود في الغالب بعد الأزمة، لكن مع بعض التغييرات الجوهرية. فقد امتنع الناس عن السفر بالطائرات عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول. وعندما بدؤوا يعاودون السفر بالطيران مجدداً، كان لا بد من تنفيذ بروتوكولات أمنية أكثر صرامة في المطارات. فشرعت المطارات في ضخ استثمارات ضخمة في تكنولوجيا الأمن بعد أن كانت تتقاعس عن ضخها في السابق. كان لهذا السلوك أثر إيجابي كبير على أعمال الشركات المصنّعة لأنظمة الأمان.
السلوكيات المنهارة
هي الأنشطة التي ستتوقف تماماً في الغالب أو يجري استبدالها ببدائل أخرى تحل محلها. إذ لم يعد بإمكان المسافرين عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول أخذ المشروبات بعد عبورهم نقطة تفتيش إدارة أمن النقل، وهو ما يعني أنك إذا كنت تمتلك مقهى خارج أي من هذه النقاط، فسيمتنع عملاؤك فجأة عن شراء القهوة أو زجاجات المياه عند وصولهم إلى المطار. ولعلك تلاحظ اليوم اختفاء الكثير من محال المشروبات الواقعة خارج نقاط التفتيش التابعة لإدارة أمن النقل.
كيف تتوقع تغيير السلوك؟
قد يبدو للوهلة الأولى أنه يستحيل توقّع كيفية تغير السلوكيات. ولكن يمكننا لحسن الحظ الاعتماد على أبحاث استمرت لعقود من الزمان حول سبل تكوين العادات وآليات اعتماد التكنولوجيا الحديثة وعلم الاقتصاد السلوكي. واستطعنا تحديد 4 عوامل يمكنها مساعدتك على تقييم سبل تغير سلوكيات أصحاب المصلحة المرتبطين بعملك:
1. الآليات
هل يشكل السلوك عادة راسخة أم عادة يمكن زعزعتها بطريقة ما؟ حيث تزداد احتمالية استمرار السلوك حينما يتحول إلى جزء من روتين معتاد. الأهم من ذلك أن دراسات تكوين العادات تشير إلى أن الوقت المستغرق في اتباع سلوك معين لا يشكل عنصراً أساسياً في تحديد إمكانية ترسخه من عدمه، بل عدد مرات ممارسته. فقد حللت، على سبيل المثال، إحدى شركات توصيل الطلبات للمنازل بيانات الطلبات التي تلقتها، واكتشفت أن كسب عميل مدى الحياة يستلزم توصيل 4 شحنات إلى منزله، وأن توصيل الطلبات 3 مرات لم يكن كافياً، وأن توصيلها 5 مرات لم يقدم أي إضافة من حيث ولاء العميل.
سل نفسك:
- السلوك المستدام: هل آليات السلوك متأصلة في العادات أو الروتين أو الطقوس اليومية؟
- السلوك المتحول: هل تم إرغام الأفراد على تغيير الآليات أو إيقاف السلوك تماماً؟
- السلوك المنهار: هل تتصف آليات السلوك بالغرابة أو التعقيد أو الصعوبة؟
2. المحفزات
هل يوفر استمرار هذا السلوك فائدة نفسية أو مالية كبيرة؟ فقد ذكّرنا البقاء في المنزل خلال الجائحة، على سبيل المثال، بمدى افتقادنا للأصحاب والخلّان. وعلى الرغم من أننا قد نتردد في ارتياد المطاعم حالياً، فإن الفوائد النفسية الإيجابية للخروج وتناول الطعام مع الأصدقاء تزيد من احتمالية عدم رؤيتنا لآخر من تناول الطعام بالخارج. وقد أثبتت الدراسات النفسية في حقيقة الأمر أن المكافآت الجوهريّة يمكن أن تكون أكثر تأثيراً بكثير من العائد النقدي البحت.
سل نفسك:
- السلوك المستدام: هل السلوك مدفوع بفوائد نفسية أم مالية؟
- السلوك المتحول: هل طرأ أي تغيير على هذه الفوائد؟
- السلوك المنهار: هل فوائد السلوك السابق غير مرضية أو خطيرة؟ هل تتحقق بتكلفة جديدة؟
3. الضغوط
يغلب على البشر التفكير بعقلية القطيع، ويحلو لهم أن يقلدوا القطيع فيما يفعلونه. فإذا كان الجميع يسيرون بسرعات عالية على الطريق السريع، مثلاً، فسنسرع السير نحن أيضاً. بيد أننا لا نلبث أن نتراجع عن هذا السلوك بطبيعة الحال بمجرد أن نلحظ الأضواء الوامضة لشرطة المرور في مرآة الرؤية الخلفية بسياراتنا، وهو ما يعني أن الضغوط الاجتماعية تفسح المجال للشخصية صاحبة السلطة. لذا، إذا أردت تقييم سلوك ما، فعليك أن تعرف من يدفع الآخرين إلى الاستمرار في ممارسته.
سل نفسك:
- السلوك المستدام: هل هناك قوى سلطوية أو اجتماعية تقود السلوك؟
- السلوك المتحول: هل يتلقى الناس رسائل متضاربة حول استمرار السلوك؟
- السلوك المنهار: هل هناك روادع سلطوية أو اجتماعية للسلوك؟
4. بدائل السلوك
سيتخلى الناس عن السلوك إذا كانت هناك طريقة أفضل للقيام بشيء معين، لكن التحول إلى السلوك الجديد يجب أن يكون غير مؤلم نسبياً. الأهم من ذلك أن نظرية اعتماد التكنولوجيا الحديثة تشير إلى أن البديل يجب أن يكون قيد الاستخدام بالفعل من قبل أوائل المستخدمين. فلم يتم اختراع برنامج "زووم"، مثلاً، في أثناء الجائحة. بل كان يجري استخدامه فعلياً من قبل مجموعة من محبيه المخلصين عندما أصيب العالم بالجائحة.
سل نفسك:
- السلوك المستدام: هل هناك عجز في البدائل القابلة للتطبيق أو بدائل السلوك؟
- السلوك المتحول: هل توجد حلول بديلة قابلة للتطبيق تلبي احتياجات السلوك؟
- السلوك المنهار: هل توجد أنشطة بديلة مجدية تلبي احتياجات السلوك؟
ألقِ نظرة على كل صاحب مصلحة والسلوكيات الحاسمة التي تؤثر في عملك التجاري. هل لديك من الأسباب ما يدفعك إلى الاعتقاد بأن هذا السلوك سيستمر؟ أم أن تحليلك يشير إلى أنه قد يختفي؟ إذن، فقد حان الوقت لوضع خطة.
قد تجد أنه قد تبقى لديك بعض السلوكيات التي يصعب توقّعها. على سبيل المثال، هل سيتسوق عملاؤك في المتجر كطريقة للتواصل مع أطفالهم؟ وهل سترتفع شعبية السفر الداخلي على حساب السفر حول العالم؟ تخيل ما قد تفعله الشركة في هذه الحالة لتحقيق النجاح بغض النظر عما إذا كان السلوك مستداماً أم متحولاً أم منهاراً. إذ يمكنك تطوير دليل إرشادي للتكيف أياً كان ما يحدث من خلال المناورة بين مختلف السيناريوهات وإضافة السلوكيات المعروفة.
تجاوز الأسئلة الوجودية الكبرى وركز على عملك
يصاب الذهن بالتشوش عندما نتعامل مع بيئة محاطة بقدر كبير من الغموض. وقد نشعر حينها بأنه يستحيل التخطيط للمستقبل، وننسى أن الأشياء يمكن أن تتغير بأسرع مما نتوقع. لا بد من التحلي في هذه اللحظة بعقلية محبة للتعلم والاكتشاف. وبدلاً من محاولة الإجابة عن الأسئلة غير المهمة، يمكننا الاعتماد على النظريات المدروسة بعناية والتي حددت كيفية تغير السلوك على مدى فترات طويلة من الزمن. كما يمكننا افتراض سيناريوهات متعددة حتى نكون مستعدين أياً كانت النتيجة. ولربما أثمرت هذه الجهود عن خطة مبتكرة قد تكون فاتحة حقبة جديدة من النمو في خطة عمل عالم ما بعد "كوفيد".