اقرأ عن حماية الرهانات الاستراتيجية في هذا المقال.
تحاول معظم الشركات التأقلم مع حالة عدم اليقين والتقلبات من خلال تحسين قدرتها على وضع التوقّعات المستقبلية وزيادة رشاقتها في العمل. ورغم أهمية هذين التكتيكين إلا أنّهما يتصفان ببعض المحدودية. ففي الأوقات التي تشهد تغيّرات سريعة، تصبح التوقعات المستقبلية الموضوعة متقادمة وبائدة بمجرّد أن يجف الحبر الذي كُتبت به.
وعلى الرغم من أنّ التجاوب السريع مع التحوّلات الحاصلة في السوق أمر بالغ الأهمية، إلا أنّ تحقيق المرونة والرشاقة "المثاليتين" في العمل يُعتبرُ أمراً مكلفاً جدّاً، إن لم يكن ضرباً من المستحيل.
وبالتالي فإنّ هناك مقاربة مكمّلة يمكن أن تكون أكثر فعالية، وبوسع الشركات الراسخة استخدامها ألا وهي اللجوء إلى "الخيارات الاستراتيجية" بوصفها أداة للتحوّط ضد حالة الغموض وعدم اليقين. وكما أنّ بإمكان الخيارات المالية (Financial Options) أن تحمي المستثمرين من المخاطر وأن تساعدهم في مواجهة التقلّبات في أسواق الأوراق المالية والسلع، فإن "الخيارات الاستراتيجية" يمكن أن توفّر الحماية للشركات، وتسمح لها بالصمود والنجاح في مواجهة المجهول والمفاجآت غير المتوقعة، مثل تحرّكات المنافسين، والتطوّرات المُزعزعة (Disruptive Advances) في مجال التكنولوجيا، وظهور أسواق جديدة، وحصول تذبذب في الطلب، وغير ذلك من المفاجآت. بالإضافة إلى أنّ استعمال الشركات للخيارات الاستراتيجية، يسمح لها بأن تختبر الأجواء، وبأن تحافظ على رأس مالها، وبأن تؤجّل القرارات النهائية حتّى يتّضح مآل الأمور.
إن بعض الخيارات الاستراتيجية قد استُعْمِلت على نطاق واسع، مثل شراء خيار شراء المعادن، أو حجز شركة طيران جديدة موعداً مستقبلياً لاستلام طائراتها من شركات تصنيع الطائرات. ولكن هناك خيارات أخرى أقل شهرة أو غير مستغلّة بما يكفي، بما في ذلك ثلاثة خيارات سنركّز عليها في هذه المقالة وهي: المؤسسات المؤقتة (temporary organizations)، والاستحواذات الاستكشافية (exploratory acquisitions)، والمعامل المؤقتة وحيدة الاستخدام (disposable factories).
اقرأ أيضاً: لماذا يفشل المسؤول التنفيذي في تنفيذ الاستراتيجية رغم أنه يعمل بجهد؟
تُعتبرُ جميع الخيارات الاستراتيجية رهانات صغيرة بما يكفي للسماح للشركة بأن تخرج منها إذا اضطرت إلى ذلك. ولكنّها ترتّب تكاليف مالية قد تكون مرتفعة على المدى القصير، وهذا ما يفسّر عدم توظيفها بوتيرة أكبر. فالعديد من المدراء التنفيذيين ينظرون إليها بوصفها تشكّل هدراً، وتنطوي على مخاطر، وتتّصف بالغموض. وغالباً ما يريد المدراء التنفيذيون "إنجاز المطلوب بنجاح من المرّة الأولى" عوضاً عن التجريب.
ولكن بما أنّ الخيارات الاستراتيجية تتطلّب قدراً أقل من رأس المال، ومن السهل الخروج منها إذا تبين أنها غير ملائمة، فيمكن القول بأنّ الخيارات الاستراتيجية توفّر المال على المدى البعيد. وثمّة أمر آخر لا يقلّ أهمية، وهو أنّ هذه الخيارات الاستراتيجية تساعد الشركات في التعلّم وبناء الخبرة، وتؤهلها لاغتنام الفرص القيّمة التي لم تكن لتستطيع اغتنامها لولا تبنّي هذه الخيارات.
المؤسسات المؤقتة
هناك بعض الفرص التي لا يمكن اغتنامها واستيعابها ضمن هيكلية النشاط الأساسي للشركة، وقد تحتاج إلى قدرات مختلفة بالكامل، أو إلى نموذج تجاري يمكن أن يبتلع النشاط الأساسي. ولكن إذا كانت الفرصة أو التهديد يتّسمان بشيء من عدم اليقين، فقد يكون من الصعب إيجاد مبرّر لبناء مؤسسة منفصلة دائمة لاغتنام هذه الفرصة. وبالتالي، فإنّ أحد الحلول الممكنة هو إنشاء مؤسسة مؤقتة بقيادة فريق إداري مؤلف من مزيج من الموظفين العاملين بعقود عمل مؤقتة ومن الاستشاريين. فهذه المقاربة تجعل من الممكن المضي قدماً في العمل وتجنّب حصول عمليات تسريح كبيرة للعمّال في حال فشل المشروع الجديد. أما إذا نجح المشروع، فيمكن عندها تعيين موظفين دائمين.
يمكن للمؤسسة المؤقتة أن تساعد الشركة في اختبار ردود الأفعال تجاه التهديد التنافسي الذي تشكّله، كما يمكن أن تساعدها في إجراء تقويم لاستراتيجية أو مفهوم جديدين، أو في استكشاف إمكانية نجاح شركة مشتركة معيّنة، أو في اغتنام فرصة عابرة دون عرقلة عمليات الأقسام الحالية في الشركة. كما أنّها يمكن أن تكون خياراً جذّاباً في حال وجود أولويات متضاربة، مثلاً، أو في حال بروز منافس غير متوقّع، ممّا يجعل الدخول إلى السوق بسرعة أمراً أساسياً جدّاً.
بهذا الأسلوب، على سبيل المثال، تم إطلاق وكالة أوربيتز "Orbitz" المتخصّصة بالسياحة والسفر والعاملة على شبكة الانترنت، (ويجدر بنا هنا أن نوضح أن "مجموعة بوسطن للاستشارات" (Boston Consulting Group) كانت معنيّة بإنشاء "أوربيتز"، وهي على علاقة مع شركات أخرى مذكورة في هذه المقالة). في أواخر العام 1999 ومطلع العام 2000، وخلال الفترة التي شهدت تباطؤاً في نشاط شركات الطيران، حشدت خمس شركات طيران أمريكية رئيسية قواها لإنشاء هذا الموقع المتخصّص بالسياحة والسفر. وقد ضمّت القائمة كلاً من شركات "دلتا"، و"يونايتد"، و"كونتينينتال"، و"أميريكان". وخلافاً لموقع "إكسبيديا" (Expedia) وغيره من المواقع التي تقدّم خدماتها عبر الإنترنت وتتقاضى رسماً من شركات الطيران مقابل إعطاء رحلاتها موقعاً تفضيلياً ضمن خدماتها، عمل موقع "أوربيتز" على إدراج جميع الرحلات المتوفّرة ضمن ترتيب غير متحيّز (باستثناء رحلات شركة ساوث ويست التي لم تتبادل معلوماتها مع الغير). وقد كانت هذه الشركات تعتقد بأنّ القيمة التي يقدّمها الموقع سوف تجتذب الزبائن، وبأنّ مواقع الإنترنت المنافسة التي تقدّم خدمات السياحة والسفر ستجد صعوبة في مجاراة "أوربيتز" بما أنّ تلك المواقع مصمّمة لإظهار الرحلات الأكثر رواجاً بين المدن.
كانت "أوربيتز" تمتلك استراتيجية جيّدة، لكنّ نجاحها لم يكن مضموناً على الأطلاق. فقد كان إنشاء الموقع يستدعي بناء نظام جديد للمعلوماتية، بما في ذلك خوارزمية البحث؛ كما كان يجب أن يتصف الموقع بسهولة الاستخدام. وقد كانت تلبية هذين الشرطين تستدعي استثمار الكثير من الوقت والمال. لا بل كان هناك أهم من ذلك، فلكي يتمكّن "أوربيتز" من منافسة موقعي "ترافيلوسيتي" (Travelocity) و"إكسبيديا" (Expedia)، كان يتعيّن عليه أن ينمو بسرعة، الأمر الذي يعني بأنّه لم تكن هناك مدّة زمنية طويلة لاختبار هذا المفهوم في أوساط الزبائن. ولو فشل هذا المشروع الجديد، لوجد الشركاء بين أيديهم أصولاً مكلفة كان سيتعيّن عليهم بيعها بخسارة، ولاضطروا إلى تسريح الموظفين.
وبما أنّ شركات الطيران الخمس تلك كانت في وضع تنافس فيما بينها، فقد استبعد الشركاء احتضان هذا المشروع المشترك ضمن واحدة منها. كما أدركوا أيضاً بأنّ اتّباع مقاربة تقليدية خاصّة بالشركات الناشئة – أي بناء الشركة موظفاً تلو الآخر – سيستغرق وقتاً طويلاً جدّاً. لذلك عمدوا إلى إنشاء مؤسسة مؤقتة كانت الغالبية العظمى من موظفيها من الأشخاص العاملين بعقود مؤقتة، بينما استعانوا بخبراء من المكاتب الاستشارية لتولّي الإدارة، وقد كانت تكلفتهم تبلغ ضعفين إلى أربعة أضعاف تكلفة الموظفين الدائمين (إذا ما استثنينا المكاسب والمزايا التي يحصل عليها الموظفون المتفرّغون). وقد بدأت "أوربيتز" عملها بخمسة مدراء من "مجموعة بوسطن للاستشارات" تولّوا الإشراف على العمليات، والأمور المالية، والمعلوماتية، والتطوير المؤسسي، والموارد البشرية، وقد بلغ عدد الموظفين في النهاية 60 شخصاً، بمن فيهم المحامون والمحاسبون والمهندسون، ومطوّرو البرمجيات، وخبراء الموارد البشرية. وعندما اتّضح بعد ثلاثة أشهر من إطلاق الموقع بأنّ النجاح قد حالفه، بدأت "أوربيتز" باستبدال العاملين بعقود مؤقتة بموظفين دائمين، وهي عملية استغرقت نصف عام من الزمن.
وقد حققت هذه الهيكلية، القائمة على بناء مؤسسة مؤقتة، مكاسب جمّة. فالتكلفة الإجمالية لبناء "أوربيتز" وتمويلها حتى وصولها إلى مرحلة الربحية التي تحقق الاكتفاء الذاتي قد قدّرت بـ 250 مليون دولار. وفي 2004 اشترت شركة "سيندينت" (Cendant) موقع "أوربيتز" مقابل 1.25 مليار دولار، ممّا حقق للشركاء ربحاً صافياً بلغ مليار دولار.
الاستحواذات الاستكشافية
تواجه الشركات التي تعمل على تنويع أنشطتها عبر عمليات الاستحواذ الكثير من العوامل المجهولة والمخاطر. ورغم أنّ عمليات الاستحواذ يمكن أن تكون طريقة سريعة للدخول إلى الأسواق واكتساب زبائن جدد وخبرات فنية جديدة، وولوج مجالات عمل غير مسبوقة، إلا أنّ عمليات الاستحواذ هذه تنطوي عادة على تحدّيات كبيرة فيما يخصّ الوصول إلى حالة التكامل في العمل، وقد تسجّل معدّلات فشل مرتفعة. ويصحّ هذا الأمر تحديداً في حالة الصفقات الكبيرة التي تُبرم في الأسواق غير الأساسية.
أمّا في حالة الاستحواذات الأصغر حجماً، فإنّ تكلفة الفشل تكون أقل، في حين يتحقق التكامل في العمل بسرعة أكبر. ورغم أنّ الكثير من الشركات تستعمل أسلوب الصفقات الصغيرة كأسلوب للتوسّع ضمن مناطق جغرافية جديدة، إلا أننا لم نرَ الكثير من الشركات تلجأ إلى هذه الطريقة، بوصفها طريقة منخفضة المخاطر، لاستكشاف إمكانية الدخول في أنشطة وأعمال جديدة. وتُعتبرُ الطريقة الأفضل هي التركيز على الأسواق التي تحقق التكامل، حيث يمكن للشركة أن تستفيد من نقاط قوّتها وقدراتها الحالية.
فإذا كانت عملية الاستحواذ صغيرة الحجم وجرى النظر إليها كتجربة دقيقة الاستهداف تُدار وفقاً لأهداف محدّدة، فإنّها ستكون أقدر على تحاشي عيوب عمليات الاندماج. وهي تتيح فرصة التعلّم، إذ تشبه تماماً حالة الطفل الذي يتعلّم المشي قبل أن يتعلّم الركض. كما يمكن التخلّص منها بسهولة نسبية، ودون آلام تذكر، إذا لم تكن قادرة على تقديم القيمة المرجوّة. ولكن إذا نجحت عملية الاستحواذ في مساعدة الشركة الأم على الحصول على موطئ قدم في مجال جديد، فإنّها بذلك تشكّل الأساس والإطار لهذه الشركة الأم للاستحواذ على المزيد من الأنشطة المُكمِّلة بحيث تصبح شركة رائدة في السوق.
لقد كان هذا هو المسار الذي اتّبعته شركة "بروكس أوتوميشين" (Brooks Automation)، وهي شركة تعمل انطلاقاً من تشيلمزفورد في ماساتشوستس. لقد كانت "بروكس" رائدة في إنتاج المعدّات، وأجهزة التحكّم بالبيئة، والأدوات المخصّصة للتعامل مع المواد عالية الدقة، وغير ذلك من المكوّنات المستعملة في تصنيع أنصاف النواقل. وفي السنوات الأولى من الألفية الجديدة، بدأ النمو الصناعي يتباطأ وأصبح النشاط عرضةً للدورة الاقتصادية. واستجابةً لهذا الوضع، بدأت شركة "بروكس" تدرس تنويع أنشطتها والدخول في مجالات تنطوي على إمكانيات نجاح أكبر. وبما أنّ فريق إدارة الشركة كان مدركاً للتحدّيات والنتائج السيئة التي واجهتها جهود الشركات الأخرى في مجال تنويع الأنشطة والتي كانت تتمّ على نطاق واسع – وبالتحديد الجهود التي شملت عمليات اندماج واستحواذ – فقد اختار هذا الفريق مقاربة تستند إلى مبدأ الخيارات. فبعد أن أحصى فريق إدارة "بروكس" القدرات التي تتمتّع بها الشركة، قرّر بأنّ قدرتها على تحريك المواد ضمن غرف علمية ذات بيئة شديدة البرودة مع ضبط دقيق للجو والبيئة في الوقت ذاته، هي قدرة يمكن الاستفادة منها في قطاع علوم الحياة الذي يشهد تنامياً كبيراً، وبالتحديد في مجال الأدوية والتقانة الحيوية.
ففي ذلك الوقت، كان الباحثون في هذا المجال يخزّنون عيّنات الصيغ والأنسجة في ما يشبه البرّادات المؤلفة من أقسام والتي كانت تخضع لضوابط غير دقيقة سمحت بتقلّب درجات الحرارة، مما كان يؤثّر على نشاط الخلية. كما كانت عمليات نقل المواد، وتخزينها، ومسك السجلات، جميعها، تتمّ يدوياً. ولم يكن الباحثون في مجال الأدوية والتقانة الحيوية راضين عن هذه الحالة. أمّا بالنسبة لمعدّات "بروكس"، فبالإضافة إلى أنّها كان مؤتمتة، فقد كانت تحتفظ أيضاً بالسجلات الخاصّة بحركة واستبدال كافة الصيغ وعيّنات الاختبارات، وهذه ميزة أساسية نظراً لتأكيد الجهات الناظمة، ولاسيما وزارة الأغذية والأدوية الأمريكية، على ضرورة وجود "إمكانية تتبّع" المواد.
اقرأ أيضاً: هل تتسق استراتيجية شركتك مع نموذج ملكيتها؟
لقد أدرك فريق الإدارة في "بروكس" بأنّه على الرغم من أنّ سوق قطاع علوم الحياة قد بدا سوقاً واعداً، إلا أنّه كان يختلف اختلافاً جذرياً عن قطاع أنصاف النواقل الذي كان يتركّز بشدّة في أيدي مجموعة قليلة من الشركات المصنّعة ومورّدي المعدّات والذين كانوا متركزين جغرافياً كذلك. وقد كانت "بروكس" تعمل بشكل وثيق مع عدد صغير نسبياً من الزبائن وغالباً ما كانت تدع موظفي الخدمة والصيانة التابعين لها يداومون لدى زبائنها الرئيسيين لخفض زمن تعطّل المعدّات إلى الحدّ الأدنى وبالتالي مساعدة مصنّعي الرقاقات على المحافظة على كميات الإنتاج الكبيرة والتكاليف المنخفضة، وهي أمور كانوا يحتاجون إليها. وقد كان المشترون وغيرهم من صنّاع القرار عادة مهندسين يتمركزون في معامل أنصاف النواقل. كما كانت الشركات الصانعة للرقاقات الإلكترونية تخطّط استثماراتها الرأسمالية قبل وقت طويل، وكانت تُشْرِك "بروكس" في هذه النقاشات وتُطلِعها بوضوح على حجم الطلب الذي تريده مستقبلاً.
في المقابل، كان قطاع علوم الحياة من القطاعات المشتّتة. فقد كان لدى شركات تصنيع المعدّات آلاف الزبائن وهم عادة من الباحثين والأطباء، لا من المهندسين. أما المشترون وصنّاع القرار الآخرون فلم يكونوا متمركزين، بل كانوا موزّعين على طول سلسلة التوريد بمن فيهم المموّلون والهيئات التنظيمية. كانت عمليات شراء المعدّات عادة عمليات يصعب التنبؤ بها مُسبقاً، وكانت تنطوي على دورات شراء أقصر زمنياً، الأمر الذي جعل من عملية تخطيط السعة الإنتاجية عملية أصعب.
وعندما قرّرت "بروكس" أنّ عليها دخول الحلبة قبل المنافسين الآخرين المُحتملين، ورأت أنّ تطوير عمليات إنتاجية كاملة من الصفر سيحتاج إلى وقت طويل، لجأت إلى القيام بعمليتي استحواذ لهما طابع استكشافي. ففي العام 2011، دفعت "بروكس" مبلغ 3 مليارات دولار لشراء شركة "آر تي إس لايف ساينسيز" (RTS Life Sciences)، وهي شركة بريطانية صغيرة متخصّصة بعلوم الحياة وتمتلك عقداً مع نظام الرعاية الصحية الوطنية في المملكة المتّحدة للتعامل مع العيّنات الطبية؛ كما دفعت 80 مليون دولار للاستحواذ على شركة "نيكسوس" (Nexus) التي تضمّ مئة شخص وتنشط في مجال العمل ذاته، حيث كانت تنتج المعدّات المتخصّصة بالتعامل مع المواد. لكن الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لشركة "بروكس" كان تجربة "نيكسوس" مع الزبائن في مجال علوم الحياة. وقد وسّعت "بروكس" هذه القدرة، واستثمرت في تطوير خط منتجات "نيكسوس"، وعملت على إدخال طريقة العمل المنضبطة التي تسود في الشركات الكبيرة، إلى هاتين الشركتين اللتين استحوذت عليهما.
وعندما بدأت "بروكس" تفوز بالمزيد من العقود في مجال التعامل مع المواد في قطاع علوم الحياة، أخذت تكتسب المزيد من الثقة. وخلال السنوات الأربع التالية، اشترت أربع شركات إضافية بشكل كلي أو جزئي، وبمبلغ إجمالي وصل إلى 156 مليار دولار. وفي غضون تلك العملية، تمكّنت من الاستحواذ على قدرات جديدة (وتحديداً أجهزة التبريد التي تصل درجة حرارتها إلى 150 درجة مئوية تحت الصفر)، ووسّعت من نطاق منتجاتها لتشمل خدمات ومعدّات جديدة مثل حاويات التخزين. أمّا اليوم، فقد باتت "بروكس" الشركة الرائدة في مجال التعامل مع المواد في قطاع علوم الحياة، المجال الذي بات يشكّل 20% من إيراداتها البالغة 500 مليون دولار. وتعتزم الشركة اتّباع المقاربة ذاتها في أسواق أخرى: أي تحديد الفرص في المجالات التي تستطيع أن تستفيد من خبراتها فيها، والاستحواذ على شركات صغيرة على سبيل الاختبار، وتحسين خط المنتجات والخدمات التي تقدّمها وتوسعته من خلال نقل مهاراتها التقنية، ومن ثمّ الإقدام على شراء المزيد من الشركات التي تكمّل موقعها في السوق وتنمّيه.
المعامل وحيدة الاستخدام
عندما تقوم الشركات ببناء المعامل، فإنّها تسعى غالباً إلى تحقيق الاستفادة القصوى من الأحجام، وإلى الأتمتة من أجل تخفيض تكلفة الإنتاج لكل وحدة. لكنّ إنشاء المعامل المبنيّة وفق أحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا يُعتبرُ عملية طويلة زمنياً وباهظة التكلفة، وهي لا تؤدّي في الغالب إلا إلى إضافة سعة إنتاجية هائلة فحسب. وعندما يكون الطلب متغيراً ومشوباً بشيء من عدم اليقين، فقد تتحوّل هذه المنشآت إلى عبء ضخم.
في الأنشطة والأعمال التي تتضمّن هوامش أرباح مرتفعة جداً، أو التي تتمكّن الشركات التي تدخل السوق بها أولاً من اغتنام الفرصة، أو التي تكون تكلفة الاحتفاظ بالمخزونات فيها عالية، يُعتبرُ إنشاء المعامل الصغيرة التي تستخدم لمرّة واحدة وثم يتم التخلص منها خياراً بديلاً جيّداً. فهي يمكن أن تؤمّن طريقة أفضل للتعامل مع المجهول الذي يتّصف به السوق الجديد، كما قد توفّر معلومات مبكّرة حول التكاليف، والسعة الإنتاجية، ومزيج المنتجات، بحيث يمكن الاستفادة من كافة هذه المعلومات عند بناء المعامل الدائمة (في حال قرّرت الشركة أنّها بحاجة إلى معامل دائمة). لا شكّ في أن المعامل وحيدة الاستخدام ذات تكاليف إنتاجية أعلى بالنسبة للوحدات مقارنة بالمعامل المكتملة الأركان. وبالتالي فإنّ هذا السبب إضافة إلى التردّد في "التخلّص" من معمل معيّن، هما ما يجعلان المدراء التنفيذيين يتردّدون في اللجوء إلى هذا الخيار. لكنّ هذه التكاليف الإضافية تعوّضها عادة مكاسب مقابلة مثل رأسمال بدئي أصغر، ودخول أسرع إلى السوق، وقدرة أكبر على المطابقة بين العرض والطلب.
ويمكن للشركات بالطبع أن تلجأ أيضاً إلى جهات خارجية لضمان تحقيق المرونة في الإنتاج. بل يمكن لها حتّى أن تشتري خياراً لزيادة حجم الإنتاج الذي يقوم به مقاول خارجي لصالحها. ولكن عندما يكون لدى هذه الشركة تكنولوجيا أو عملية إنتاجية مسجّلة باسمها حصرياً يمكن أن تمنحها ميزة تنافسية، فإنّ الطريقة الأنسب في هذه الحالة هي بناء معمل مؤقت يمكن التخلّص منه إذا دعت الحاجة لذلك.
تبلغ القدرة الإنتاجية للمعامل المؤقتة التي تستخدم لمرة واحدة عادة ما بين 5% و10% من القدرة الإنتاجية للمعامل الدائمة، ويمكن بناؤها خلال أشهر بدلاً من سنوات كما هو حال المعامل الدائمة. ويسمح حجمها الصغير بإنشائها في أماكن أقرب إلى مراكز الطلب، الأمر الذي يمكنّ الشركات من تلبية الأذواق المحلية بشكل أفضل وبالتقليل من تكاليف النقل – وهي ميزة لا تحظى بالتقدير الكافي عادة ذلك أنّ تكاليف الأمور اللوجستية مثل الشحن والنقل تفوق تكاليف التصنيع (مطروحاً منها المواد المشتراة) بهوامش كبيرة في العديد من القطاعات.
وقد لجأت شركات صينيّة إلى استخدام المعامل ذات التقنيات المنخفضة والتي يمكن التخلّص منها بسهولة للمنافسة في قطاع إنتاج المستحضرات الدوائية كما تبيّن لبعض زملائنا أثناء إنجازهم مهمّة معيّنة لصالح شركة أدوية أمريكية رئيسية. فالمصنع الذي أنشأته الشركة الأمريكية في الصين كان مؤتمتاً بالكامل، ومصمماً لعمليات إنتاج مرنة وواسعة النطاق ومنخفضة التكلفة، لكن هيكل التكاليف فيه الذي وُضع على أساس 30 سنة من العمل كان يفتقر إلى المرونة. وعلى العكس من ذلك تماماً، كانت المعامل التابعة للمنافسين الصينيين صغيرة وبسيطة ويدويّة ومكرّسة لإنتاج تلك الأدوية فقط. وعوضاً عن استعمال معدّات مضبوطة حاسوبياً لمراقبة العملية الإنتاجية، على سبيل المثال، اعتمد الصينيون على عمليات التفتيش البصري المتكرّرة. أي بعبارة أخرى، كانوا يستعلمون البشر لمراقبة العملية وضمان الالتزام بالمواصفات. لم يكن الصينيون ليجدوا غضاضة إذا لم تلقَ منتجاتهم الطلب المتوقع، فقد كانوا قادرين على إزالة المعدات الرخيصة واستبدالها، أو هدم المعمل المنخفض التكلفة والمضي قدماً.
تُعتبرُ المعامل المسبقة الصنع أحد أشكال هذه المعامل، رغم أنها ليست معدّة في الغالب للتخلّص منها. وفي بعض الحالات، يجري تجميعها بشكل مسبق في معامل خاصّة، ممّا يقلّل، وبشكل كبير، من الوقت المطلوب لتركيبها وتشغيلها. كما تشكّل سهولة تحريكها ميزة أخرى. إذ يمكن نقلها إلى مكان تتناسب فيه مخرجاتها مع الطلب على المدى القصير – وإذا حدث تدهور في الظروف المحلية، الاجتماعية والسياسية، يمكن عندئذ نقلها إلى موقع أكثر استقراراً. وعندما يصبح هناك ما يكفي من الطلب، يمكن استبدال هذه المعامل المسبقة الصنع بمنشأة ذات طاقة إنتاجية عالمية.
اقرأ أيضاً: التركيز على ما يعتقده الموظفون، هو ما يسدّ الفجوة بين الاستراتيجية والتنفيذ
تستعمل شركة (بروكتر آند غامبل) (Procter & Gamble) حالياً هذا النوع من المعامل المسبقة الصنع لتصنيع بعض المنتجات. أحد هذه المنتجات هو المواد الخافضة للتوتّر السطحي التي تستعمل في مواد التنظيف، ومطري الأقمشة، ومكيّف الشعر، والشامبو، ومعجون الأسنان. وقد كانت هذه المواد الخافضة للتوتّر السطحي تُنتج في معامل مركزية ضخمة باستخدام تقنية موجودة منذ عقود، أما اليوم فهناك تقنية جديدة صديقة للبيئة تسمح بتصنيعها في معامل موزّعة، الأمر الذي يسهم في تقصير سلسلة التوريد وتقليل زمن تلبية الطلبات، بالإضافة إلى خفض تكاليف النقل ومخاطر الاستثمار.
تحدّيات التنفيذ
صحيح أنّه لن تكون هناك خيارات استراتيجية تناسب كل حالة من الحالات، ولكنّ تجربتنا أظهرت بأنّ هذه الخيارات الاستراتيجية هي أدوات قويّة يمكن استخدامها بوتيرة أعلى بكثير. ولكن تحديدها وتصميمها يُعتبرُ، في معظم المؤسسات، أسهل بكثير من تطبيقها، وهذا راجع بشكل رئيسي إلى مقاومة الإدارة وإحجامها. وثمّة ثلاثة عوامل تفسّر هذا الإحجام.
أولاً، إن احتساب التكاليف العالية على المدى القصير أسهل من احتساب المكاسب المتحقّقة على المدى البعيد. فكيف لشركة أن تبرّر تبنّي خيار معيّن بدون رؤية واضحة للمكاسب البعيدة المدى؟ ولكن القيام بمراجعة للاستثمارات السابقة يمكن أن يساعد المدراء التنفيذيين في التغلّب على ردّ فعلهم هذا: كم كان بعد التقديرات السابقة عن مستويات الطلب الفعلية؟ ما هي التكاليف التي ترتّبت على سوء تقدير حجم الطلب وعدم قدرة الشركة على تلبيته؟ ما هي تكاليف رأس المال الناجمة عن الإفراط في تقدير الطلب؟ إذا كانت التكاليف المترتّبة على التوقعات غير الدقيقة مرتفعة، فإنّ الإدارة ستشعر غالباً بارتياح أكبر لفكرة الخيارات الاستراتيجية.
ثانياً، غالباً ما تحتاج الخيارات الاستراتيجية إلى قدرات تفتقر المؤسسة إليها، كما أنّ بناء هذه المهارات الجديدة قد يكون مهمّة مضنية. فقد اضطرت شركة (بروكس)، على سبيل المثال، إلى تعلّم فن الاستحواذ، ولاسيما كيفيّة تحديد الشركات المستهدفة التي تمتلك التكنولوجيات والمهارات الصحيحة، وكيفيّة إجراء تقويم للشركات المرشّحة، وكيفيّة عقد الصفقات، إضافة إلى كيفية دمج الشركات المُستحوذ عليها ضمن الشركة وإدارتها. في حالة المعامل التي يمكن التخلّص منها والمعامل المسبقة الصنع، ينبغي على المهندسين الذين كانوا يركّزون منذ فترة طويلة على بناء منشآت على المستوى العالمي وذات تكلفة منخفضة أن يتعلّموا كيف يفكّرون ويصمّمون بطرق مختلفة.
أخيراً، من الصعب تجاوز ثقافة وضع التوقعات المستقبلية (Forecasting). فعملية وضع التوقعات هذه متجذّرة في طريقة عمل المدراء. ذلك ان معظم المؤسسات ترسم خططاً لمواجهة حالات عدم اليقين من خلال وضع سيناريوهات مختلفة بحسب الاحتمالات مرتفعة كانت أم متوسطة أم منخفضة. وفي غالب الأحيان تتّبع هذه المؤسسات مقاربة وسطية. ورغم أنّنا بالتأكيد لا ندعو إلى التوقّف عن وضع التوقعات المستقبلية، إلا أنّنا نقترح على الشركات أن تأخذ بعين الاعتبار محدودية هذه العملية. حيث أنّ اتّباع مقاربة الخيارات الاستراتيجية يُمكِّنُ الإدارة من تخصيص وقت وموارد أقل لمحاولة توقّع مستقبل لا يمكن التنبؤ به، ووقت أكبر لفهم الفرص والمخاطر وكيفية التقليل منها. فإذا ما كانت هذه المؤسسات قادرة على البدء بتخيّل إمكانية استيعاب النتائج ذات احتمال الحصول المرتفع والمتوسط والمنخفض ضمن مقاربة وحيدة (مثل المعامل التي يمكن التخلّص منها أو المعامل مسبقة الصنع)، فإنّ الخيارات الاستراتيجية ستحظى بقدر أكبر من الشعبية.
تسهم هذه العوامل الثلاثة في انحياز الشركات إلى حالة التردّد، أو تبنّي مقاربة تقوم على الانتظار لرؤية ما ستؤول إليه الأمور، وهذا التوجّه قد لا يخدم مصالح الشركة على المدى البعيد. ففي العديد من الحالات، تكون الشركات التي تعثر على طرق تنطوي على مخاطر أقل تتمكن عبرها من اكتساب الخبرة والحصول على المعلومات عن السوق وبناء القدرات، قادرة على المناورة بشكل أفضل من منافسيها الأكثر حذراً والأقل إبداعية.
لكنّ التحوّل إلى مؤسسة قادرة على أخذ زمام المبادرة، على الرغم من وجود حالة من الضبابية وعدم اليقين، يحتاج إلى اتّخاذ إجراءات على جبهات عدّة. إذ يجب على القادة أن يطرحوا الخيارات كجزء من حواراتهم الاستراتيجية المعتادة مع الوحدات التجارية ومع رؤساء الأقسام. كما ينبغي أن يصبح تقويم النتائج المجهولة الهامة وتطوير الاستجابات المناسبة للتعامل معها، جزءاً لا يتجزّأ من آلية العمل المؤسسي وعملية وضع الاستراتيجيات. كما ينبغي أن تُمنح مكافآت للاستخدام البارع للخيارات الاستراتيجية، أما المدراء التنفيذيون أو المهندسون الذيم يفشلون في تبنّي هذا النهج فيجب أن يُستبدلوا أو ينقلوا إلى وظائف أخرى.
كثيراً ما يُوَجَّهُ إلينا السؤال التالي: متى يجب على شركة ما "ألا" تلجأ إلى استخدام الخيارات الاستراتيجية؟ ونحن نجيب بأنّ على فِرَقَ الإدارة أن تأخذ هذه الخيارات بعين الاعتبار وبمنتهى العناية كلما فكّرت في "أيّ" استثمار لا تتحقق مكاسبه إلا على المدى البعيد، ويكتنفه بالتالي قدر كبير من عدم اليقين. وبما أن البيئة اليوم تتّسم بالتنافسية والتقلّب، فإنّ حماية الرهانات الاستراتيجية امر مهم للغاية والخيارات الاستراتيجية هي غالباً الخيار الأفضل.
اقرأ أيضاً: التوازن الدقيق في إنجاح استراتيجية المنظومة البيئية المتكاملة