دخلت الثورة المتصاعدة ضد ما يسمى "جبابرة الإنترنت" مرحلة التدخل السياسي بعد أن كانت مقتصرة على المحللين الاقتصاديين والباحثين. واليوم تتبلور لدى أذهان الكثيرين تهمة "الاحتكار" ضد فيسبوك وجوجل وأمازون، وبات الحديث عن "تفكيك" الجبابرة مشابهاً للمراحل التي سبق تفكيك عملاق النفط في القرن التاسع عشر "ستاندرد أويل" وقضية تفكيك عملاق الاتصالات الأميركي أيه تي آند تي (AT&T) في سبعينيات القرن الماضي، تحت تهمة واحدة وهي "الاحتكار"، فماذا عن الثورة ضد فيسبوك تحديداً؟
في شهر فبراير/شباط من العام الحالي أعلنت المرشحة الرئاسية الأميركية لانتخابات 2020 إليزابيث وارين أن أحد أركان حملتها الانتخابية هو خطة متكاملة "لتفكيك" أمازون وفيسبوك وجوجل. وكتبت في مقال نشرته بهذا الخصوص، بأنها ستصدر قراراً يؤدي لعودة هذه الشركات إلى دورها كمنصات فقط، وفصل الشركات التي ابتلعتها بهدف السيطرة على قطاعات أخرى منافسة، موضحة بأنها ستفصل شركة هوول فودز وزابوس عن أمازون وتفصل وايز نست ودبل كليك عن جوجل، وإنستغرام وواتساب عن فيسبوك، وإطلاق المجال للشركات الصغيرة الجديدة لتظهر وتكبر وتنافس. وتستشهد المرشحة الرئاسية، بالقضية الحكومية التي أوقفت احتكار مايكروسوفت في تسعينيات القرن الماضي حينما كانت مايكروسوفت تبتلع كل من يقف في طريقها لتسيطر على سوق الكمبيوتر وبرمجياته، وتؤكد أن تلك القضية ضد مايكروسوفت آنذاك هي التي مهدت الطريق وسمحت لشركات مثل جوجل وفيسبوك للظهور والنمو.
الثورة ضد فيسبوك
أعتقد اليوم أن ثمة قضية حقيقية تتشكل ضد عمالقة الإنترنت تستحق التفكير والاعتبار، على الرغم من كل ما نؤمن به من حرية المنافسة والأسواق المفتوحة، فهذه الشركات التي ولدت ببساطة بسبب الإنترنت، وهو الأمر الذي يمكن تشبيهه بثروة طبيعية مشابهة للنفط. وما حصل بعد ذلك كما تفسره الأستاذة ماريانا مازوكاتو المتخصصة في الابتكار والقيمة العامة في جامعة لندن عبر مقال نشرته في مجلة "إم آي تي تكنولوجي ريفيو" بعنوان: "لنستخدم البيانات الشخصية الخاصة للصالح العام". اعتبرت فيه أن ابتكار الإنترنت هو نتاج استثمار دافعي الضرائب في الدول المتقدمة، وقد جاء بعد سنوات طويلة من الجهود والاستثمار الحكومي الذي وضع هذا الابتكار أخيراً في خدمة البشرية، ثم جاءت جوجل وفيسبوك وأمازون ووضعت يدها تقريباً على ممتلكات عامة واحتكرتها، وأن هذا الأمر لو جرى في النفط أو السكك الحديدية أو المياه وغيرها من الثروات العامة، لتدخلت الحكومات لمنع الاحتكار، وتقول الأستاذة ماتزوكاتو: "يروق للمدافعين عن هذه الشركات تصويرها كقوى للخير، كما يشيدون بالاقتصاد التشاركي الذي تقدمه المنصات الرقمية للجميع عبر الوصول المجاني إلى كل شيء بدءاً من التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى استخدام نظام تحديد المواقع العالمي ومراقبة الوضع الصحي، غير أن جوجل لا تقدم لنا أي شيء مجاناً، وفي الواقع إن ما يحدث هو العكس تماماً، فنحن من نقدم لجوجل ما تريده بالضبط".
كما يرى فريق من متبني حملة وصف الاحتكار ضد عمالقة الإنترنت، أنهم سيطروا على "النفط" الحالي والذي هو بيانات المستخدمين كما سيطرت ستاندرد أويل آنذاك، إذ تسيطر جوجل وفيسبوك وأمازون على بيانات ثلاثة أرباع سكان العالم، وهي تعمل على تدمير كل من يقف في طريقها عبر شراء الشركات في طور النمو ومحوها من الوجود أو إبقاءها لحين من الدهر حتى يتم دمج بيانات مستخدميها مع البيانات المتاحة لديها مسبقاً بهدف بيعها للمعلنين. وقد بلغ عدد الشركات التي استحوذت عليها جوجل وفيسبوك وآبل وأمازون خلال عشر سنوات ما يقارب 500 شركة، وهي جميعاً كانت شركات ناشئة تحاول شق طريقها لمنافسة هذه الشركات بشكل كلي أو جزئي غير مباشر.
يذكّر المشهد اليوم بمراحل تاريخية مشابهة، لا تكاد تختلف عن مرحلة عمالقة الإنترنت بشيء، الأولى تسمى مرحلة عملاق النفط، والثانية عملاق الاتصالات، وكلاهما مراحل تاريخية تعود ذكراها اليوم بقوة في خضم الإعداد لقضية الاحتكار والتفكيك الكبرى ضد "جبابرة الإنترنت"؛ في أواخر القرن التاسع عشر وعند اكتشاف النفط في أجزاء من كندا وولاية بنسلفانيا الأميركية، كانت السكك الحديدية هي وسيلة نقل النفط من هذه الحقول إلى مصافي التكرير، وظهرت مجموعة من شركات النفط التي تنقله وتتاجر بالمشتقات التي تنتج عنه، وكان من بين هذه الشركات واحدة اسمها "ستاندرد أويل" يقودها رجل يدعى جون روكفلر مع عدد من الشركاء. عمل هذا الرجل على شراء معظم شركات النفط الصغيرة ومصافي النفط، ثم أصبح يفرض أسعاره وشروطه على السكك الحديدية التي كان ينقل عبرها النفط، ومع توسع اكتشاف هذا المنتج أصبحت ستاندرد أويل تسيطر على نحو 90% من النفط في الولايات المتحدة. وقد بدأت الأصوات تتعالى في الكونغرس الأميركي عبر دعوى حركها السيناتور جون شرمان في عام 1888، ولكنها لم تثمر إلا بعد أكثر من 20 عاماً، حيث رسخت قانوناً لمكافحة الاحتكار وتفكيك عمالقة الاحتكار؛ ففي عام 1911 أصدرت المحكمة العليا الأميركية قراراً بتفكيك ستاندرد أويل إلى 34 شركة مستقلة.
وفي قضية شركة أيه تي آند تي تكررت الحادثة، فقد أسسها ألكسندر غراهام بيل مخترع الهاتف قبل أكثر من 130 عاماً، وكان الهدف حماية اختراعه الذي غير مجرى التاريخ، إلى أن أصبحت أيه تي آند تي أكبر شركة اتصالات في العالم، وكالعادة قامت الشركة بالاستحواذ على جميع المنافسين والتحكم بالسوق والأسعار، إلى أن أصدرت وزارة العدل الأميركية في عام 1974 قراراً بمقاضاة شركة أيه تي آند تي بتهمة الاحتكار، وتمكنت عام 1982 من الحصول على حكم قضائي فكك هذه الإمبراطورية إلى ثماني شركات منفصلة.
أعتقد اليوم أن القضية تتكامل ضد عمالقة الإنترنت، والتي بات النقاش في وصفها الاحتكاري داخل أروقة الباحثين والسياسيين، ولاحظوا أننا نتحدث هنا عن شركات تكنولوجية تسيطر على أكثر من 70% من أسواق العالم في مجالها، بحيث شلّت نماذج الأعمال حول العالم، إذ باتت العديد من الشركات والقطاعات الاقتصادية مضطرة للتحرك فقط من خلال بوابات هذه العمالقة التي تفرض عليها التعريفات الباهظة وتلقي لها بالفتات؛ بدءاً من تجارة التجزئة إلى الإعلام إلى البنوك وحركة التجارة الدولية وصولاً إلى الانتخابات، بحيث أُغلقت مصانع وشركات ووسائل إعلام وتغير اتجاه الانتخابات والاستفتاءات، وأُلقي بملايين العمال في الشوارع، بسبب مباشر أو غير مباشر من هذه المنصات.
وبعد صدور كتاب "تحرك بسرعة وكسر الإشياء" (Move Fast and Break Things) للباحث جوناثان تابلين عام 2017، والذي شرح فيه دور هذه الشركات في تقويض الديموقراطية وخيارات البشر، تصاعد النقاش بقوة بين المدافعين عن فكرة إحياء إجراءات قوانين مكافحة الاحتكار والذين يشبّهون زوكربيرغ بروكفلر العصر وبين المدافعين عن حرية السوق والمنافسة حتى العظم. حتى ظهرت أصوات أخرى ترى أن القانون الحالي للاحتكار في الولايات المتحدة لا يدين هذه الشركات بالاحتكار، لكن مع ذلك فإنه يجب تفكيكها بحسب مقال مفصل عرضته مجلة وايرد.
اقرأ أيضاً: شركة فيسبوك تغيّر الطريقة التي يدير بها المسوقون الإعلانات المستهدفة
يبدو الاتحاد الأوروبي أكثر تشدداً في تعريف الاحتكار الذي تمثله عمالقة الإنترنت، فقد أدانت أوروبا هذه الشركات أكثر من مرة وغرمتها مليارات الدولارات، كان آخرها قضية ضد احتكار جوجل للبيانات في إعلانات أدسنس أدت لدفع جوجل غرامة بلغت 2.42 مليار يورو للاتحاد الأوروبي. وقبلها تمت إدانة مايكروسوفت وآبل ودفعوا غرامات باهظة في قضايا احتكارية أخرى.
وقد بدأت "الثورة" ضد عمالقة الإنترنت تتصاعد بوضوح بعد أن تطور دورها من التحكم في الأسواق إلى التحكم في السياسة، وبعد أن بات استخدام البيانات مؤدياً ليس لتغيير عادات الشراء فقط، ولكن لتغيير نتائج الانتخابات. وبعد فضيحة شركة كامبريدج أناليتيكا المتخصصة بالخدمات السياسية والتي حصلت قبل عامين على بيانات 83 مليون مستخدم من فيسبوك دون علمهم. كان الإنذار الأكبر قد حدث، وكانت المرة الأولى التي يستدعى فيها رئيس شركة من عمالة الإنترنت إلى الكونغرس الأميركي في جلسة استماع، فقد كانت انتهاكات جوجل وفيسبوك لقوانين المنافسة تجابه بالغرامات من قبل، كما حصل أكثر من مرة مع الشركتين في أوروبا والولايات المتحدة. لكن هذه المرة، دخلت هذه الشركات إلى حجرة الانتخابات وبدأت تتحكم باللعبة السياسية، وحينما استدعي الكونغرس مارك زوكربيرغ المؤسس والرئيس لفيسبوك، وسأله عضو الكونغرس ليندساي غرام: "من هو منافسك الأكبر"؟ وبعد مرواغة من زوكربيرغ، أصر غراهام قائلاً: "إذا اشتريت سيارة فورد ولم تعمل بشكل جيد ولم تعجبني، فيمكنني أن أشتري بدلاً منها شيفروليه، لكن إذا كنت مستاء من فيسبوك فما هو المنتج المكافئ والذي أستطيع أن استبدله به؟".
ولم يعد السؤال حول الثورة ضد فيسبوك مقتصراً عن البديل المنافس داخل الولايات المتحدة فقط، بل فتح تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين الأعين عن بدائل يمكن أن تحدث على نطاق أوسع في أوروبا ودول أخرى بعد روسيا والصين، حيث أشعل دخول هواوي القائمة السوداء ومقاطعة عملاق الإنترنت جوجل لها التفكير مجدداً حول حلول أخرى عالمية لكسر الاحتكار. في المقابل، كانت الحكومة الصينية قد حظرت جوجل نفسه وحجبت تويتر وضيقت على واتساب، وخلقت تقنيتها البديلة، بايدو بديلاً لفيسبوك ووي تشات بديلاً لواتساب وويبو بديلاً لتويتر وعلي بابا بديلاً لأمازون.
وعلى صعيد آخر يتكامل هذا الحراك العالمي، ببدء التحضير لتشريعات تفرض رسوماً ورقابة على عمالقة الإنترنت وهي التشريعات التي يجري التحضير لها والنقاش حولها في بعض الدول الأوروبية، خاصة وأن هذه الشركات العملاقة تُخرج المليارات من كل بلد كأرباح بينما تسحق شركاته المحلية، لكنها لا تدفع الضرائب بكل ما في الكلمة من معنى، بل وتتفنن هذه الشركات التي تسمى (GAFA) وهي الأحرف الأولى من جوجل وفيسبوك وأمازون، في تسجيل شركات فرعية في الملاذات الضريبية الآمنة لتنقل إليها أرباحها في عملية "تجنب ضريبي" أسمتها بي بي سي بالمخجلة، وهو ما دفع فرنسا لقيادة جهد في الاتحاد الأوروبي لفرض نظام ضريبي خاص بهذه الشركات.
أعتقد أن العدوى ستنتشر، ويمكن أن نرى دولاً في منطقتنا العربية تناقش فرض رسوم على الأموال التي تحصل عليها شركات الإنترنت الكبرى، أو تقيد قدرتها على الاستحواذ المحلي لمنح المجال لشركات ناشئة محلية بالنمو.
وفي نهاية الحديث عن موضوع الثورة ضد فيسبوك تحديداً، على الصعيد الداخلي الأميركي أعتقد أن "قضية الاحتكار" تتشكل ببطء وستظهر نتائجها ولو بعد سنوات كما حصل مع قضيتي ستاندرد أويل وأيه تي آند تي.
اقرأ أيضاً: