الأتمتة لن تؤدي إلى تهميش سائقي الشاحنات

6 دقائق
أتمتة الشاحنات

لا يكاد يمر يوم دون أن يلمّح أحدهم بأن تقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والروبوتات ستدخل تغيرات جذرية على سوق العمل في القرن الحادي والعشرين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قيادة الشاحنات - وهي مهنة تدخل في العديد من القطاعات ومسؤولة عن أكثر من 70% من حمولات الشحن في الولايات المتحدة – التي يتكهن الكثيرون بأنها ستشهد فقدان الكثير من الوظائف مع ظهور تكنولوجيا القيادة الذاتية، حتى أن البعض توقع أن المركبات ذاتية القيادة التي تتبع أتمتة الشاحنات ستتسبب في فقدان 2-3 ملايين فرصة عمل في مجال النقل بالشاحنات خلال السنوات القليلة المقبلة. ولكن عند النظر إلى البيانات نجد أن معظم التوقعات التي يتم الإعلان عنها مبالغ فيها، وإن كان فقدان فرص العمل نتيجة الأتمتة لا يزال يمثل خطراً حقيقياً.

أسباب تؤكد أن أتمتة الشاحنات لن تهمش السائقين

في دراسة بعنوان "مراجعة العلاقات الصناعية والعمل"، نرى أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة تؤكد اعتقادنا:

السبب الأول: عمل سائقي الشاحنات لا يقتصر على قيادة الشاحنات فحسب

لنفترض أن تكنولوجيا القيادة الذاتية يمكن أن تؤدي كل مهام القيادة - وهي فرضية سنعاود الحديث عنها بعد قليل - فهل هذا هو كل ما يفعله سائقو الشاحنات؟ لا بكل تأكيد. إذ يؤدي سائقو الشاحنات جميع أنواع المهام، من فحص المركبات وتأمين البضائع، إلى صيانة السجلات وتوفير خدمة العملاء. العديد من هذه المهام غير قابلة للأتمتة في وقت قريب. على سبيل المثال، لا تتوفر حالياً أي تقنية (أو حتى يجري اختبارها على نطاق واسع) لأتمتة تحميل الشاحنات وتفريغها. أما المعدات التي يمكن استخدامها في هذا الغرض (مثل الرافعات الهيدروليكية باليت جاك) فتقتصر وظيفتها على المساعدة في تخفيف الجهد البدني. ولا يزال التعامل مع هذه المهمة الأساسية متروكاً لسائقي الشاحنات.

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: ما معنى الأتمتة؟

ثم هنالك خدمة العملاء. في أثناء تحميل وتفريغ الحمولة، عادة ما يسهم سائقو الشاحنات أيضاً في خدمة العملاء على الأرض، مكملين بذلك عمل ممثلي خدمة العملاء الرسميين. يمكن الاستغناء عن أنشطة خدمة العملاء هذه عن طريق تعيين ممثلين لخدمة العملاء أو استبدالها بالتقنيات التكنولوجية، كما حدث في القطاعات الأخرى، ولكن إلى أن يحدث ذلك، ستعتمد الشركات على سائقي الشاحنات للقيام بها.

اقرأ أيضاً: الشيخوخة والأتمتة: تحديان متلازمان تواجههما دول مجلس التعاون الخليجي

في حين أن بعض المهام أقرب إلى الأتمتة - على سبيل المثال، يمكن التحقق من اختلال توازن الحمولة وانخفاض ضغط الهواء في الإطارات وغيرها من مشاكل السلامة بواسطة أجهزة الاستشعار - لا يزال التعامل مع أي مشكلات يتطلب تدخل العنصر البشري. حتى لو رصد جهاز الاستشعار إطار سيارة مفرغاً من الهواء، فإن السائق هو المنوط بإصلاحه. أما المهام الأخرى التي تم أتمتتها في العديد من شركات النقل، مثل تحديث دفاتر السجلات والفواتير وغيرها من الأعمال الورقية، فلم تكن تستغرق الكثير من الوقت من سائقي الشاحنات، لذا يُعتقد ألا يكون للتشغيل الآلي الكامل أثر كبير على طلب تشغيلهم.

السبب الثاني: الأتمتة الكاملة لقيادة الشاحنات أمر مستبعد في المستقبل أتمتة الشاحنات

الآن دعونا نلقِ نظرة على مهمة القيادة نفسها. هل ستسير الشاحنات بالقيادة الذاتية قريباً؟ يجب أولاً معرفة معنى القيادة الذاتية. قامت "جمعية مهندسي السيارات" (The Society of Automotive Engineers) بتطوير المعايير الحالية، والتي تحدد الأتمتة في إطار نطاق من 5 مستويات - من المستوى صفر أي دون أتمتة، إلى المستوى الخامس وتعني الأتمتة الكاملة. حيث يتناقص مقدار التفاعل البشري مع السيارة مع ارتفاع المستوى واعتماداً على الشخص أو الجهاز الذي يتحكم في وظائف القيادة، مثل التسارع والتوجيه.

في حين تشير العناوين الرئيسة إلى ظهور الشاحنات ذاتية القيادة، فإن هذه الأخبار غالباً ما تخلط بين عروض المستوى الخامس للأتمتة (الكاملة) التي تُجرى في بيئة محكومة إلى حد كبير، وهي بيئات نادرة، واعتماد التقنيات التي تركز إلى حدٍ كبير على المستوى الثاني أو المستوى الثالث (الأتمتة الجزئية أو المشروطة)، وهي أكثر شيوعاً. وقد بنينا توقعات التوظيف في دراستنا على استحداث المستوى الرابع من الأتمتة، وهي بيئة عالية الأتمتة تفترض أن النظام يتحكم في عملية القيادة والمراقبة في بعض الظروف التشغيلية، وليس كلها. استخدمنا المستوى الرابع كمقياس معياري لنا، لأن المستوى الخامس للأتمتة، والذي يتطلب من النظام أداء جميع أنشطة القيادة والمراقبة في كل الظروف، لا تُجرى له حالياً اختبارات عملية، والمستوى الثالث للأتمتة، والذي يتطلب تدخل العنصر البشري كمصدر احتياطي في حال تعطل النظام، لا يشكل تهديداً حقيقياً لوظائف السائقين.

اقرأ أيضاً: لماذا من الممكن أن يتبع ازدهار الأتمتة فترة من الكساد؟

ووجدنا أن الكثير من الشركات تعمل على تطوير المستوى الرابع لأتمتة الشاحنات ذاتية القيادة، وتسعى إلى إثبات كفاءة التكلفة من خلال تقليل الحاجة إلى العمالة. مع تطور هذه التكنولوجيا، يتزايد خطر استبدال بعض السائقين. لكن كم؟

تركز معظم جوانب هذا التطوير على أتمتة الأجزاء الطويلة من رحلة الشاحنة التي تسير فيها على طرق سريعة، وليس حركة النقل لمسافات قصيرة أو سير الشاحنة على الطرق الداخلية. قدّرنا نسبة الشاحنات في الولايات المتحدة التي تُستخدم في عمليات النقل لمسافات الطويلة، باستخدام استبيان جرد المركبات واستخدامها (VIUS)، والذي حُدّث آخر مرة عام 2002. ووفقاً لحساباتنا، يتم استخدام ما يقرب من ربع شاحنات النقل الثقيل في عمليات النقل لمسافات طويلة تصل إلى 201 ميل أو أكثر، مقارنة بما يقرب من نصف شاحنات النقل الثقيل التي تستخدم في عمليات النقل لمسافات قصيرة نسبياً (50 ميلاً أو أقل). وبما أن أتمتة الشاحنات تستهدف هذه المسافات الطويلة في الوقت الحالي، فمن المتوقع أن نشهد فقدان فرص العمل لما يقرب من ربع سائقي الشاحنات الثقيلة، والذين يقدر عددهم بحوالي 450,000 سائق، لأن التكنولوجيا أصبحت أكثر تطوراً وفاعلية مع مرور الوقت ومع التغلب على العقبات التنظيمية. وعلى الرغم من أن هذا الرقم لم يدخل بعد في خانة الملايين، فإنه بالطبع لا يزال يشكل رقماً كبيراً من الأشخاص المعرضين لخطر البطالة.

من المتوقع أيضاً أن تعتمد شركات الشحن في بعض القطاعات تقنية الأتمتة قبل غيرها. على سبيل المثال، كانت شركات النقل بنظام الإيجار وشركات النقل الخاصة العاملة في المخازن والنقل تاريخياً من أوائل الشركات التي اعتمدت تكنولوجيا تشغيل الشاحنات، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة، مقارنة بتلك التي تحمل شحناتها الخاصة في القطاعات الأخرى. إذا اقتصر تركيزنا على الجرارات التي تُستخدم في عمليات النقل لمسافات الطويلة بنظام النقل والتخزين المستأجر، فإن الآثار الأولية المحتملة للأتمتة ستطول حوالي 19% من الشاحنات، أو حوالي 342,000 سائق.

السبب الثالث: عدد سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة ليس بالضخامة التي يظنها البعض

على الرغم من أن عدداً من المقالات تؤكد أن هناك ما يقرب من 3 ملايين سائق شاحنة في الولايات المتحدة، فإن عددهم أقل من ذلك في الواقع، ما يعني أنه يمكن فقد عدد أقل من الوظائف حتى في حال تحقق أسوأ السيناريوهات. يحتوي نظام التصنيف المهني القياسي (SOC) المعتمد من الحكومة الفيدرالية على فئة تسمى "سائقون/عمال مبيعات وسائقو شاحنات"، والتي تنقسم إلى ثلاث مجموعات: "سائقون/عمال مبيعات" و"سائقو شاحنات النقل الخفيف أو خدمات التوصيل" و"سائقو شاحنات النقل الثقيل والمقطورات". ووفقاً لمكتب إحصاءات العمل (BLS)، يعمل 3.1 مليون شخص في هذه المجموعات. لكن يتضح من المواصفات الواردة بالتصنيف المهني القياسي أن "السائقين/عمال المبيعات" لا يندرجون تحت فئة سائقي الشاحنات على الأرجح، وأن فئة "سائقي الشاحنات النقل الخفيف أو خدمات التوصيل" تحتوي على العديد من الوظائف بخلاف قيادة الشاحنات. ويُعتقد أيضاً أن هؤلاء السائقين يعملون في المناطق الداخلية، وبالتالي غير معرضين لخطر فقدان وظائفهم نتيجة ظهور تكنولوجيا المستوى الرابع التي يجري تطويرها لاستخدامها في المسافات الطويلة.

اقرأ أيضاً: كيف ستغيّر الأتمتة عمل البشر؟

أما فئة "سائقي شاحنات النقل الثقيل والمقطورات" فهي الفئة الوحيدة التي يشترط فيها استصدار "رخصة قيادة تجارية" للعمل في هذه المهنة، وهو شرط قياسي للعمل سائق شاحنة. بلغ عدد العاملين المندرجين تحت هذه الفئة حوالي 1.8 مليون شخص في عام 2018. وإذا أضفنا إلى هذا العدد سائقي الشاحنات الذي يعملون لحسابهم الخاص (وهؤلاء لا يتم احتسابهم في تعداد مكتب إحصاءات العمل، وإن كانت نسبتهم تُقدّر بحوالي من 10-25% من إجمالي عدد سائقي الشاحنات)، فإن إجمالي عدد سائقي شاحنات النقل الثقيل في الولايات المتحدة يبلغ حوالي 2.4 مليون شخص. وإذا احتسبنا عدد السائقين الذين يعملون على شاحنات تنقل حملات لمسافات طويلة في القطاع الأكثر عرضة للتأثر بتكنولوجيا المستوى الرابع، وإذا افترضنا أن هناك 114,000 مشغل إضافي قد يكونون عرضة للتأثر بتلك التقنية، فسنجد أن إجمالي عدد السائقين المعرضين في البداية لهذه الأتمتة يصل إلى 456,000 شخص - وهو رقم أقل بكثير مما تشير إليه عناوين الأخبار التي تحذر من خطر الشاحنات ذاتية القيادة، ولكنه لا يزال عدداً كبيراً جداً في كل الأحوال. يكفي أنه يمثل 0.3% من إجمالي القوى العاملة في الولايات المتحدة، ويقارب إجمالي عدد عمال اللحام، وهي مهنة ذات إعداد مهني مماثل إلى حد كبير.

هناك أيضاً عقبات تشغيلية وتنظيمية قد تعيق تنفيذ تكنولوجيا المستوى الرابع على وجه السرعة. إحداها أن الشاحنات معرضة للأعطال في أثناء رحلاتها لأسباب متعددة وليس لدينا بعد بنية تحتية جاهزة لخدمة الشاحنات ذاتية القيادة ومنع سرقة الحمولة. يتمثل السبب الثاني في أن النقل بالشاحنات بين الولايات أمر معقد تتدخل فيه العديد من الأطراف: حيث تضع الحكومة الفيدرالية معايير معينة لسلامة المركبات، لكن الولايات تصدر تراخيص للسائقين والمركبات، وتسن قوانين المرور، وتضع ضوابط محددة لحجم ووزن الشاحنات المسموح بسيرها على الطرق، علاوة على السلطات القضائية المحلية التي تضع ضوابط معينة لاستخدام الشاحنات في شوارع المدن ومواقف السيارات. وإننا لنشهد بالفعل اختلاف منهجيات الولايات في تنظيم القيادة الذاتية للمركبات، حتى إن بعض الولايات تفرض قيوداً على استخدام تكنولوجيا المستوى الرابع. يتضح من كل هذه العوامل أننا لن نشهد فقدان ملايين الوظائف في قيادة شاحنات النقل الثقيل قريباً.

لكن على الرغم من أن الأرقام ليست بالفداحة التي تشير إليها بعض العناوين، فإن قيادة الشاحنات واسعة الانتشار تواجه تحديات كبيرة، بسبب تقلبات دورة الأعمال، وسلاسل التوريد المعقدة بصورة متزايدة، والتغيرات الديموغرافية للقوى العاملة. وهذا يزيد من أهمية فهم التحديات التي تواجه هذا القطاع فهماً دقيقاً في العقد المقبل، بما في ذلك تحديات أتمتة الشاحنات المفروضة عليه.

اقرأ أيضاً: حاول تحسين عمليات شركتك قبل أن تبدأ في الأتمتة

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي