عندما أراد تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة "آبل" تعيين أنجلا أهريندتس نائبة للرئيس ومسؤولة عن قسم التجزئة في "آبل"، فقد اختارها كما قال لأنها قائدة تؤمن بالإنسان، وذكّرها بأنه لمس ذلك في طبيعتها حينما استمع لخطابها في مؤتمر "تيد"، وتحديداً عندما اختتمت حديثها بأنه: "مهما تقدمت التكنولوجيا تبقى قدرات الإنسان الأساسية هي الأساس الذي نعود إليه". وهكذا استطاع كوك إقناع أنجلا بترك عملها كرئيسة ناجحة لشركة "بربري" (Burberry) للانضمام إلى عالم "آبل" بكل ما فيه من ريادة تكنولوجية.
تستحضرني هذه القصة وأمثالها الكثير عند التفكير في تعزيز ريادة الأعمال في الإمارات أو عندما أقرأ الأبحاث ودراسات الحالة العلمية التي تثبت أن نجاح التحول الرقمي مرهون بثقافة المؤسسة وثقافة المجتمع، وهو ما يصب في النهاية بالتركيز على "الإنسان"، ولا نكاد نقرأ عن سيرة أي من القادة ورواد الأعمال الناجحين دون أن نجد الإجماع حول العامل الرئيسي للنجاح، ألا وهو "الإنسان". هذه الحقيقة دفعت البنك الدولي لإطلاق أهم مؤشراته للتنمية باسم "رأس المال البشري" والذي احتلت فيه دولة الإمارات المرتبة الأولى عربياً بحسب إحصاءات العام 2020.
تستحضرني هذه المبادئ الأساسية حينما يردني تساؤل حول سبب إطلاق دولة الإمارات منصباً وزارياً لريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. كانت إجابتي على الدوام بأن هذه التسمية ما هي إلا إعلان أكثر وضوحاً للعامل الأساسي الذي طالما اعتمدت عليه دولة الإمارات في بناء تميزها؛ وهو "الإيمان ببناء الإنسان". لقد ظهرت دراسات بحثية وأكاديمية كثيرة وفي جامعات عالمية في محاولة لاكتشاف سرّ اللامستحيل في دولة الإمارات، وكانت جميعها تتفق في النهاية على هذا العامل الأساسي المنغمس في الحمض النووي لشعب الإمارات والذي ترسخ عبر قادته جيلاً بعد جيل، بدءاً من رؤى المؤسس الراحل المغفور له الشيخ زايد، حينما رسّخت كلماته هذا المعنى عندما قال: "الإنسان هو الثروة الحقيقية".
ولأن بناء الإنسان "صعب" كما ذكر المغفور له في كلماته، إلّا أنه بيّن لنا قبل أن تثبت الدراسات البحثية الأكاديمية، أن بذل الجهد لبناء هذا الإنسان هو أمر يستحق الاستثمار فيه، باعتباره الثروة المستدامة والميزة التنافسية التي لا تنضب مع النفط أو من دونه. وفي كتابها "الدولة الريادية" (The Entrepreneurial State) تذكر عالمة الابتكار ماريانا مازوكاتو، أن بناء مجتمع ريادة الأعمال بكل مكوناته، يحتاج لدولة تمتلك عقلية ريادة الأعمال. ولا شك في أن دولة الإمارات العربية المتحدة والتي احتلت المركز الأول عربياً والسادس عشر عالمياً في سهولة ممارسة الأعمال بحسب التقرير الأخير للبنك الدولي ما زالت تقدم هذه العقلية الريادية كل يوم. وهو ما يجعلني وفريق عملي في هذه المنصب الوزاري التي تشرفت بتولى مهامها، مهتماً بالعمل مع باقي مؤسسات الدولة لتحقيق مهمة رئيسية وهي ترسيخ "ريادة العقول". بالنسبة لنا ريادة الأعمال لا تقتصر على المشاريع الناشئة الفردية، بل تتسع لبناء عقلية الريادة في كل مفاصل المجتمع وأركانه الاقتصادية.
وعندما نتحدث عن ريادة العقول، فنحن نتحدث عن بناء "بيئة عمل متكاملة" (Ecosystem) لريادة الأعمال، فبمقدار ما نهتم بتأسيس بنية تشريعية وتحفيزية منافسة لجذب رواد الأعمال من الشباب وغيرهم من الراغبين بإطلاق أحلامهم لتأسيس شركات ناشئة أحادية القرن يونيكورن" مثل كريم وسوق وأنغامي وغيرها الكثير من المشاريع الناشئة العالمية التي نشأت وترعرعت في بيئة دولة الإمارات، فنحن في الوقت ذاته نستهدف خلق هذا المناخ لرفع قدرات الشركات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها ركناً من أركان الاقتصاد في الدولة.
الريادة في الأسرة والمدرسة
ريادة العقول تبدأ من خلق ما يسميه الاقتصادي مايكل بورتر "العناقيد الاقتصادية" أو (Economic Clusters) وهو ما يؤدي لخلق بيئة عمل ريادية متكاملة. وتبدأ عملية بناء هذه العقلية الريادية على مستوى الأسرة، وهنا لسنا بحاجة لكثير من الجهد لتذكير أبناء الإمارات، بأنهم كانوا على الدوام رواداً للأعمال الحرة، فالرجال الذين كانوا يبحرون لأشهر مصارعين الأمواج والرياح الموسمية بحثاً عن اللؤلؤ، أو يبحرون إلى أقاصي الهند للاتجار بالتوابل والسلع الأخرى، بينما تعمل النساء في أعمال يدوية مبتكرة طيلة فترة غياب الأزواج والأشقاء والآباء، هم أسلافنا منذ زمن غير ببعيد، وما زال كثير منهم يعيش بيننا بعد أن نقلوا هذه العزيمة عبر الدماء إلى أبناءهم.
لم يتوقف رائد الأعمال الإماراتي بعد أن انتهى عهد تجارة اللؤلؤ فجأة، بل نهض كرائد أعمال يستكشف فرصاً أخرى. هذه هي العقلية الريادية التي نحتاج لاستنهاضها اليوم.
ومن الأسر إلى المدارس والجامعات، فقد حان الوقت لتكون عقلية الريادة جزءاً لايتجزأ من المناهج التعليمية والأنشطة العملية والبحثية. لقد بدأ تأسيس هذه القاعدة لريادة الأعمال عبر نماذج عديدة منها استراتيجية دبي للمناطق الجامعية الحرة، والتي ستحول الجامعات إلى منصات لريادة الأعمال وتوليد الشركات الناشئة، وهذه القاعدة هي تطبيق عملي لرؤية عامة تتجه الجهات التعليمية الناظمة في دولة الإمارات لتعميمها، وسنعمل على المساعدة في جعل ريادة الأعمال هاجساً حتى لدى الأطفال في المدارس.
لقد أثبتت الجامعات والمدارس المتقدمة حول العالم ومنها جامعات دولة الإمارات ذات التصنيف المتقدم، أن تعزيز مبدأ الأسئلة والفضول كان دوماً هو الشرارة التي أطلقت ابتكارات عالمية شكلت الأساس لمشاريع ريادية خلّاقة.
رائد الأعمال في المؤسسة الحكومية
رائد الأعمال في العمل الحكومي هو جزء لا يتجزأ من ريادة العقول التي نتحدث عنها، وقد كتب بيتر دراكر والذي يطلق عليه "الأب الروحي للإدارة الحديثة" بأن ريادة الأعمال هي التي ستحافظ على المرونة والتجديد الذاتي في الخدمة العامة. وقد ذكر العالمان ديفيد أوزبورن وتيد غيبلر في كتابهما "إعادة ابتكار الحكومة" (Reinventing Government) فصلاً بعنوان "كيف تسهم الروح الريادية في إدخال التحول إلى القطاع العام".
العمل الدائم على تعزيز هذه العقلية الريادية في العمل الحكومي الإماراتي، ربما يفسّر للكثيرين تلك الظاهرة التي حيرت الكثيرين، وهي أن المؤسسات الحكومية في الإمارات ما زالت سابقة في كثير من الحالات عقلية القطاع الخاص، بل وتعتبر مؤسساتنا الحكومية اللاعب المحرّك في معظم الابتكارات والتقنيات الجديدة.
وفي الوقت الذي يعاني فيه رواد الأعمال وأصحاب الأفكار المبتكرة في معظم دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية حيث مقر وادي السيليكون، من أن المشاريع الريادية غالباً ما تسبق التشريعات التي تقوننها، وتظل تعمل بشكل مخالف للقانون حتى تتأقلم معها التشريعات، فقد استعدت دولة الإمارات العربية المتحدة لاحتضان الابتكارات حتى قبل حدوثها، ومن ضمن تلك التشريعات ما أصدره الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، بمنح مجلس الوزراء ترخيصاً مؤقتاً لتنفيذ أي مشروع مبتكر قائم على تقنيات حديثة ذات صفة مستقبلية أو باستخدام الذكاء الاصطناعي حتى ولو لم يكن هناك تشريع منظم له في الدولة. كما تم إطلاق "مختبر التشريعات" في العام 2019، تأكيداً على حماية الدولة للابتكار ووضع قواعد جديدة وضابطة عالمية تخدم الاقتصاد المعرفي.
هذا المناخ الحكومي الريادي هو الذي جعل الإمارات قبلة لرواد الأعمال والمبتكرين لتجريب أفكار ومنتجات جديدة تعتبر في كثير من الدول حالة متمردة على نماذج الأعمال القائمة، وهذا ما عبر عنه الرئيس التنفيذي لمستشفى "كليفلاند كلينك" أبوظبي (Cleveland Clinic) في مقابلة مع هارفارد بزنس ريفيو حينما قال: "ساعدت المرونة التي تتيحها نظم هذا البلد لولادة الأفكار وتطبيقها قبل غيرها من البلدان، وهذا لا يختلف عن احتضان دولة الإمارات لأفكار الابتكارات وتطبيقاتها في مجال التكسي الطائر والسيارات ذاتية القيادة وسلسلة الكتل (البلوك تشين) قبل غيرها من الدول، بينما قد يحتاج هذا الابتكار الذي نطبقه في كليفلاند كلينك أبوظبي أو أي ابتكارات أخرى من هذا القبيل إجراءات بيروقراطية وتشريعية طويلة في دول أخرى".
رائد الأعمال في الشركات التقليدية
وريادة العقول التي نهتم ببنائها تستهدف أيضاً مساعدة الشركات التقليدية على حقن عملياتها وإدارتها بجرعة الريادة.
لقد باتت الشركات بمختلف أنواعها تدرك أن الإدارة الريادية الرشيقة ضرورة ملحة لمواكبة التغير المتسارع في نماذج الأعمال مع التطورات التكنولوجية، وكما ذكرت "بوسطن كونسلتينغ جروب" في تقرير صدر العام 2019، أن عمر نماذج الأعمال في الشركات انخفض من 15 عاماً إلى 5 أعوام. وهو ما يفترض بالشركات على اختلاف أنواعها الحرص على توظيف العقول الريادية وخاصة في قمة الإدارة للحفاظ على روح الريادة والتجديد في عقلية المؤسسة، وهذا ما أكد عليه أبرز مفكري نماذج الأعمال في العالم أليكس أوستروالدر وإيف بينيور في كتابهما الجديد "الشركة التي لا تقهر" (The Invincible Company) والمقال المنشور في هارفارد بزنس ريفيو "لماذا تحتاج كل شركة إلى رائد أعمال ضمن المناصب التنفيذية العليا"، فقد اقترحا على الشركات والمؤسسات بمختلف أنواعها إحداث منصب جديد يسمى "الرئيس التنفيذي لريادة الأعمال" (Chief Entrepreneur Officer).
رائد الأعمال في الشركات العائلية
تأتي عقلية الريادة أيضاً كحل مبتكر اليوم باتت تدركه الشركات العائلية كنموذج لدمج رؤى القيادات المؤسسة من الجيلين الأول والثاني مع الأجيال الشابة من الجيلين الثالث والرابع في الشركات العائلية. إذ يدرك الجميع من القائمين على هذه الشركات التي تشكل مكوناً مهماً من اقتصاد دولة الإمارات والخليج العربي عموماً، أن هذه الشركات تقف اليوم أمام مفترق طرق بحثاً عن حلول لدمج الأجيال الجديدة في نموذج العمل العائلي للحيلولة دون تفككه، ونقله بسلاسة نحو نموذج عصري محكوم.
تظهر العقلية الريادية كحل لهذه الأزمة، وهو ما بدأت تطبقه بالفعل بعض الشركات العائلية في الإمارات والمنطقة، عبر إحداث صناديق استثمار جريئة تتبع للشركات العائلية وتتيح للأبناء الراغبين بالخروج من نموذج العمل التقليدي للعائلة بالاستثمار في مشاريع ريادية تقنية وعصرية تندمج تحت عباءة الشركة الأم وتبث فيها روح الريادة وعقليتها.
دعوة للمشاركة
يؤكد كل ما ذكرناه، بأن غرس عقلية الريادة في كل المؤسسات والأفراد لن تكون مهمة محصورة في مؤسسة واحدة متمثلة بالمنصب الوزاري لريادة الأعمال، بل هي مهمة تقع على عاتق الجميع مدفوعين بالضرورة التي يؤكدها البحث العلمي، وسنعمل عبر فريق عملنا على لعب دور المسهّل والمساعد لتأسيس هذه العقلية الريادية. وسنشجع رواد الأعمال وحاضنات ومسرعات الرواد والشركات الصغيرة والمتوسطة والعائلية على مشاركة أفضل ممارساتها أو التحديات التي تواجهها بهدف المساعدة وتعميم الحلول المفيدة، وتقديم أفكار لتنمية عقلية الريادة.
تبدأ ممارسة العقلية الريادية عبر إدخالها أولاً في جدول أعمالنا كأفراد ومؤسسات حكومية وخاصة، والبدء بتشجيع ما يطلق عليه (Side-Preneur) أو العمل الريادي الجانبي، فقد أثبتت هذه التقنية نجاحها لدى الأفراد الذي جربوا أعمالاً ريادية جانبية خلال ممارستهم لوظائفهم الأساسية، كما أثبتت جدواها عبر الشركات الريادية العالمية الكبرى ومنها "جوجل" والتي تسمح للموظفين بتخصيص نسبة من وقتهم للعمل على أفكار ومشاريع يختارونها بأنفسهم، وهو ما أدى إلى ولادة العديد من الابتكارات في تلك الشركات العالمية.
نعمل مع زملائنا في باقي المؤسسات الحكومية والخاصة والتعليمية والمؤسسات غير الربحية، على خلق هذا المناخ الذي يساهم في ترسيخ ريادة العقول في كل مفاصل الدولة، وندعو الجميع من مواطنين ومقيمين ليكونوا جزءاً من جهود تعزيز ريادة الأعمال في الإمارات وجزءاً من هذه التفاعل البناء لما فيه خير البلد والمنطقة والعالم.