في كل مكان اليوم تواجهنا الأخبار حول مخاوف راسخة بشدة في داخلنا بشأن طبيعة العمل والذكاء الاصطناعي والأتمتة. وتركز التغطية الإخبارية عادةً على فقدان الوظائف والاضطرابات الاجتماعية التي يُعتقد أنها ستترتب على تلك التقنيات على الأرجح.
وهذه المخاوف لها أساس حقيقي، فالمدراء في شتى الصناعات لديهم أهداف للتكلفة، وتقنية تساعد على تحويل دفة المهام الأدنى قيمة من البشر إلى الآلات. ويبين فيلم العام الماضي أرقام خفية بوضوح تحولاً طرأ في عصر آخر، إذ تعرّض موظفو وكالة ناسا البارعون في الرياضيات إلى عملية إحلال.
لكننا نؤمن أساساً أن الهوس بقدرة التكنولوجيا على خفض التكاليف أمر مضلل، ولا يعود ذلك بسبب التبعات الاجتماعية، ولكن لأننا نعتقد أن هذا الهوس أسلوب فاشل في مزاولة الأعمال.
وحقيقة الأمر أن مصالح الشركات والعاملين أكثر توافقاً. إن الوعد الذي تعد به طفرات عصرنا الحالي لا يتعلق فقط بالكفاءة، وإنما بإطلاق العنان لخلق القيمة واقتناصها في زمن الضغوط المتصاعدة على الأداء، إلا أن هذا سيتطلب إحداث تحول جوهري في طبيعة العمل.
بينما تنجز الآلات قدراً أكبر من المهام التي كانت في فترة من الفترات حكراً على البشر، لن تكون الشركات والأشخاص الذين سيصمدون هم الذين يخمنون مجموعة المهارات التالية المحدودة بشكل صحيح، وإنما سيعززون قدرة العاملين لديهم على التعلم بوتيرة أسرع، وينطبق ذلك على كلٍ من العاملين الدائمين واقتصاد الأعمال المستقلة. وبينما يتراجع نصف عُمر مهارات محددة، وتصبح الآلات بارعة في مهام تتضمن حتى صناعة القرار، فسوف تصبح القدرات البشرية جوهرياً أهم: ألا وهي التعاطف، وحب الاستطلاع، والإبداع، والخيال، والذكاء العاطفي والاجتماعي، والقيادة، وتطوير الآخرين.
وبينما نُعيد النظر في طبيعة العمل، سيبتعد تركيز العاملين جميعهم عن المهام الروتينية، وقبل ذلك، كان الابتكار والارتقاء المستمر بالقيمة المقدمة للعملاء حكرين على فئة ثانوية بمرور الوقت. وفي المستقبل، ستعج المؤسسات المزدهرة بموظفين محبين للاستطلاع والتعلم طوال حياتهم، من أولئك الذين يضعون أهدافاً لعملهم، ويكتشفون معارف جديدة بالتصدي للتحديات غير المتوقعة، فتضمن لهم التمكين. (ويُتوقع منهم) أن يفعلوا أكثر بكثير من تنفيذ المهام.
وبالتالي، فإن القادة الذين ينصب تركيزهم على تحسين المهام وأتمتتها يرون نصف الصورة فقط. والسؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف يمكننا ابتكار طرق العمل ذات القيمة الأعظم؟
ودون إعادة النظر في طبيعة العمل، ستواجه الشركات فجوة في الاكتشاف والإبداع، وسوف يتعطل ابتكارها ونموها، لأنها تحسّنت من أجل أن تحقق الكفاءة بدلاً من الكشف والتجريب. ولن يكون سد هذه الفجوة ببساطة مسألة متعلقة ببرامج التدريب على المعارف الحالية، لأن الحاجة الحقيقية هي للتعلم الذي يخلق معارف جديدة في محل العمل نفسه، بينما يواجه العمال على نحو متزايد مواقف لم يقابلوها من قبل. كيف نعيد تصميم بيئات عملنا لتسريع هذا النوع من التعلم أثناء العمل؟
ثمة توتر حقيقي في هذا الجانب، يتعين على التنفيذيين اليوم اتخاذ قرارات ذكية، بينما تخلق الأتمتة والذكاء الاصطناعي كفاءات مهولة. تستخدم مؤسستنا نفسها أتمتة العمليات الروبوتية، وتساعد العملاء بواسطتها، ونحن على دراية كاملة بخيارات إحلال رأس المال (الزهيد حالياً) محل العمالة.
إن الشركات التي تجتاز هذا التوتر هي التي ستركز جهود الجميع على كيفية خلق قيمة أكبر للزبائن وللعمل. تستطيع الآلات أن تصمم وفقاً للمواصفات ببراعة، ولكن في المستقبل المنظور، ستكون الطريقة المثلى للتميز وزيادة الإيرادات هي المزج ما بين التكنولوجيا والعبقرية والتعاطف والإبداع البشري.
إدارة بيئة العمل والذكاء الاصطناعي
وبينما نتصدى لعمل المستقبل، كيف ننتقل من "هنا" إلى "هناك"؟ إن الخطوات الصغيرة التي تُتخذ بذكاء يمكن أن تحرك عجلة تحقيق إنجازات كبيرة:
أشرك العاملين باعتبارهم متعاونين محوريين بينما تستكشف كيفية ومكان مزاولة العمل
ملايين الأشخاص اليوم يكرسون بالفعل ملايين الساعات من وقتهم، بمحض إرادتهم، عبر مسافات بعيدة، بغية المشاركة في ابتكار منتجات وخدمات يهتمون لأمرها، فلم لا يفعلون الشيء نفسه لمستقبلهم الخاص؟ لكي ينجح ذلك، يتعين على القادة أن يؤمنوا به حق الإيمان. إن إعادة تخيل أعمال المستقبل بشكل ناجح - من ناحية القائمين عليها ومكان إنجازها وكيفيته - يمكن أن تتم إذا نظرتَ للموهبة على أنها مكون حيوي من مكونات الميزة التنافسية بحق، لا مجرد تكلفة لها.
ابتكر تجربة كاملة للعامل تساعد على التعجيل بتحسين الأداء
وهذا يتجاوز بكثير سؤال العاملين عن أفكارهم. اختر بيئة عمل واحدة للعاملين في الخطوط الأمامية، على أن تكون محورية للأداء، وكلّف العاملين فيها بهدف أو مسألة ذات مغزى. وباستخدام منهج نظامي، أفسح المجال لهم للتجريب، وارصد مقاييس الأداء الرئيسية، خصوصاً تلك المتعلقة بالقيمة المقدمة بدلاً من المتعلقة بتكلفة الإنجاز، وكرر التجربة أثناء التعلم.
أعد النظر في نقاشاتك المتعلقة بالكفاءة
غني عن الذكر أن الشركات تحتاج إلى أن تتحلى بالذكاء في تعاملها مع الأموال، وإننا بلا شك لا نؤيد الإهدار أو القرارات المالية الطائشة، وكما قال توم فريدمان، إذا استطاعت الآلة إنجاز المهمة، فلا ريب في ذلك، وليس من المنطق مقاومته. إلا أن التركيز على نحو مبالغ فيه على خفض التكلفة أمر غير مستدام، فكم عدد الشركات التي خفضت تكاليفها من أجل النمو دون أن تستديم جرعة مكافئة على الأقل من الابتكار؟ وعليه، استغل الحوارات التي تدور حول الكفاءة للحث على إجراء نقاش استراتيجي حول الجودة والسمعة وقيمة الزبون. وأي رئيس تنفيذي للشؤون المالية سيبحث عدة سبل لإعادة استثمار رأس المال النقدي. لماذا لا نفعل بالمثل عندما نتعامل مع رأس المال البشري؟
لن يكن من السهل اغتنام الفرصة الكبيرة المتاحة والمتمثلة في طفرات عصرنا الحالي، لكننا سوف نُصعب الأمور على أنفسنا لو ظللنا مهوسين بالكفاءة القابلة للتطوير.
إن المشكلة الأكبر المتعلقة بسياسة الأعمال والسياسة الاقتصادية والعامة تتمثل في وجوب أن نعيد النظر في العمل ومساعدة الناس على تعزيز القدرات الضرورية للنجاح في مثل هذا النوع من الأعمال. وحتى تكون جهات التوظيف قادرة على مساعدة الموظفين في تعزيز مرونتهم وشغفهم، ستلازمنا فجوة الاكتشاف، وسنقع فريسة لفخ الكفاءة.
وبالرجوع إلى فيلم "أرقام خفية"، إذا شاهدت الفيلم، فأنت تعلم أن التحدي الحقيقي لم يكن حوسبياً، وإنما كان يتعلق بالخيال، ولذا ينتابنا شعور متفائل حيال المستقبل. إن الشركات والعاملين في حاجة إلى الشيء نفسه المتعلق بطبيعة العمل والذكاء الاصطناعي ويعني: بيئات ينخرط فيها البشر في عمل أكثر إشباعاً، وابتكار يخرج المزيد من إمكاناتهم، بدعم من التقنية لأداء المهام الروتينية. وفي ذاك المستقبل، ستكون المكافآت كبيرة للشركات والعاملين بها على حد سواء.
اقرأ أيضاً: