كيف يمكن تحويل العلماء إلى رواد أعمال؟

5 دقائق

عندما أوكلت قيادة "مؤسسة العلوم الوطنية" (NSF)، إلى سوبرا سوريش في عام 2010، وجد أن العديد من الاكتشافات الرائدة التي طُورت من خلال منح المؤسسة لم تصل إلى السوق. لذلك سعى إلى إيجاد روابط أفضل بين الحكومة والصناعة.

وهذه بالطبع لم تكن فكرة جديدة كلياً. فقد استمرت محاولات عديدة على مدى الأعوام السابقة، بدءاً من قانون "باي دول" (Bayh-Dole Act) في عام 1980 وصولاً إلى المبادرات الكثيرة لإنعاش مكاتب نقل التقنيات ضمن الوكالات الحكومية، ولكن لم تكن أي منها قادرة على تسريع خروج الاكتشافات الجديدة من المختبرات إلى الأسواق.

ولكن هذه المرة، وبدلاً من إعادة تنظيم سير الأمور داخل "مؤسسة العلوم الوطنية"، قرر سوريش وفريقه مساعدة العلماء أنفسهم ليصبحوا رواد أعمال عن طريق الاستعانة بالنموذج الذي حقق نجاحاً باهراً بالفعل في وادي السيليكون. ونتج عن ذلك برنامج أطلق عليه اسم "آي-كوربس" (I-Corps) وهو يساعد مئات العلماء ليصبحوا رواد أعمال ناجحين.

فكرة تتشكل

عرف إيرول أركيليك منذ البداية أنه يريد أن يصبح رائد أعمال، ولكنه اتبع مساراً غير تقليدي لتأسيس الشركات. بدلاً من تأسيس شركة ناشئة في مرآب منزله حصّل شهادة دكتوراه في مجال النظم الميكانيكية الكهربائية المجهرية الجديد في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي) (MIT). ثم أمضى 6 أعوام في تأسيس شركات ناشئة في وادي السيليكون قبل الانضمام إلى "مؤسسة العلوم الوطنية" عندما طلب سوريش منه إدارة برنامج "آي-كوربس". وسرعان ما رأى أركيليك التغييرات التي يجب عليه إجراؤها على رؤية البرنامج الأولية.

قال لي أركيليك: "كانت الفكرة الأولية هي جمع الأكاديميين وممثلين عن القطاعات الصناعية في غرفة واحدة، ثم انتظار حدوث التفاعل السحري. لم أعتقد أبداً أن ذلك سينجح. فقد كان لدي أكثر من 400 مشروع تسويق في المقدمة، وكان السبب المشترك لفشلها هو أن الموظفين كانوا يعملون لإيجاد حلول لمشاكل لا تهم أحداً. وهذا ما كان علينا تغييره".

كان أركيليك يقرأ مدونة ستيف بلانك وكتابه "الخطوات الأربع للوصول إلى التجلي" (The Four Steps to the Epiphany)، الذي انبعثت منه حركة المؤسسات الناشئة الرشيقة فيما بعد. فقرر الاتصال بستيف ليرى ما إذا كان راغباً بالمساعدة في تطبيق مبادئه على العمل في "مؤسسة العلوم الوطنية"، وكانت المفاجأة الكبرى أنه وجده مهتماً بالفكرة جداً.

صمم الرجلان دورة تعليمية لمدة 8 أسابيع من أجل تعليم أساليب ستيف للخريجين، حيث يعتبر الخريجون رواد أعمال محتملين، ويخضعون للدورة التدريبية مع أساتذتهم ومرشد في الأعمال ليعملوا لاحقاً بالتشارك مع شركة "فينشرويل" (VentureWell)، غير الربحية التي تركز على تسريع الابتكار.

والآن مع وجود خطة، كل ما تبقى هو معرفة ما إن كانت ستنجح فعلاً.

الانتقال من تطوير المنتج إلى تطوير الزبائن

أحد المبادئ الجوهرية في فلسفة ستيف بلانك هي أن مؤسسي الشركات الناشئة يبدؤون دوماً بفكرة معيبة، وبذلك، يكمن سر النجاح في التعرف على العيوب وإصلاحها قبل نفاد المال. ولهذا السبب ينصح ستيف المؤسسين بالتحدث إلى الزبائن قبل البدء ببناء منتج قد يكتشفون لاحقاً عدم رغبة أحد بشرائه.

أصابت هذه الحقيقة المُرة آدم تيلتون، مؤسس شركة "ريذميو" (Rithmio)، الناشئة في يومه الأول في برنامج "آي-كوربس". فهو خريج المختبرات العلمية المرموقة في "جامعة إلينوي"، وقد طور خوارزميات نظام تحكم في الصواريخ والأقمار الصناعية وما شابه، وتفوق في أدائها التقنيات الحالية بدرجة كبيرة.

كان واثقاً أن عمله يتمتع بإمكانات تجارية هائلة. لذلك، عمل جاهداً على إعداد عرضه التقديمي الأول أمام لجنة برنامج "آي-كوربس" وتدرب عليه جيداً لمدة أسبوع. كان واثقاً أنه سيذهل الجميع في القاعة بحلوله المتطورة التي أمضى سنوات في تصميمها. وسيرونه بالتأكيد يستحق الفوز.

ولكنه للأسف لم يثر إعجاب اللجنة. شكّل ذلك تنبيهاً قاسياً له. ذكر لي تيلتون ما حدث: "قالوا لي: أنت لم تعد في المختبر، أنت الآن في وادي السيليكون. أخرج وقابل 10 شركات في هذا المجال قبل حلول غد وأخبرنا إن كان لديهم أدنى اهتمام بشراء هذا البرنامج".

المحور

بعد هذه البداية المخيبة، بدأ تيلتون وأستاذه براشانت ميتا العمل على شبكة معارفهما من المتعاقدين العسكريين من أجل العثور على من يرغب بالاستماع إلى فكرتهما ومنحهما آراء وتقييمات. وعملا بسرعة جنونية وأجريا 350 مقابلة على مدى 8 أسابيع، ولكن لم يجدا أحداً يهتم.

يتذكر تيلتون قائلاً: "في أيامنا الأولى في ريادة الأعمال، فكرنا أننا سنتمكن من بيع الرياضيات. ولكن الناس كانوا ينظرون إلى الخوارزميات التي طورناها ويقولون: عظيم، فلتعملا لدينا، ولكن لم يكن هذا ما نريده". ثم أدرك الرجلان بصعوبة أنهما قد يضطران إلى إيجاد طريقة أخرى لتسويق تقنيتهما. 

كانت نقطة التحول عندما وجدا إعلاناً لمؤتمر "مطوري تتبع الحركة" في سان فرانسيسكو، فابتاعا بطاقات للحضور دون أن يكون لديهما أي فكرة أخرى، ولكن تبين لاحقاً أن حضور المؤتمر كان أمراً حكيماً للغاية.

وكان الحظ حليفهما، إذ بدأت التقنيات الملبوسة تشقّ طريقها، فعرف الرجلان كيف يمكن لخوارزمياتهما المساعدة في إنشاء منتجات من التقنيات الملبوسة تتفوق على ما رأياه في المؤتمر. بدأ الرجلان العمل على فكرتهما الجديدة بمجرد صعودهما إلى الطائرة عائدين إلى شيكاغو، وعندما هبطت الطائرة كانا قد بنيا نموذجاً يحاكي فكرتهما الجديدة على حاسوب "تيلتون" المحمول.

تحويل الحد الأدنى الصالح للإنتاج إلى منتج حقيقي

الحد الأدنى القابل للإنتاج هو محور آخر في منهجية بلانك. وعلى عكس النموذج التقليدي، تكمن الفكرة في بناء نموذج يمكنك استخدامه من أجل اختبار نظريتك بدلاً من إنشاء نسخة مكتملة عن المنتج. كان تيلتون قادراً على بناء نموذج من منتجه خلال ثلاثة أسابيع. لم يكن نموذجاً معداً للبيع في السوق ولكنه كان جيداً بما يكفي لعرض المنتج على الزبائن المحتملين.

وهذا ما أتاح له معرفة المزيد عما يحتاجه السوق من هذه المنتجات الملبوسة. سافر إلى نيويورك من أجل حضور معرض التقنيات الملبوسة وسأل عمن اشتراها، وعن كيفية عمل دورة البيع والتفاصيل التقنية التي يجب عليه إنجازها فيما يخص استهلاك الطاقة والدقة وقوة التحمل. فساعدته كل معلومة جديدة على تحسين المنتج أكثر.

ذلك الربيع، فازت شركة "ريذميو" في مسابقة "كوزاد" للشركات الناشئة، ومكّنها هذا الفوز من كسب تمويل مستثمرين ملائكة بقيمة 650 ألف دولار. وتلقت لاحقاً تمويلاً أولياً بقيمة ثلاثة ملايين دولار من مستثمري الشركات القوية الراسخة التي يطلق عليها "الرقاقة الزرقاء" (blue-chip investors) مثل شركتي "إنتل كابيتال" و"كينروس جولد" (KGC). وأصبحت الفكرة التي كانت يوماً فكرة ضالة لا تهم أحداً شركة مكتملة.

إن شركة "ريذميو" هي مجرد مثال عن نجاح برنامج "آي-كوربس". إذ ربحت شركة "أوبس 12" (Opus 12)، للتقنية النظيفة مسابقة "فورتشن" للشركات الناشئة، في حين استحوذت شركة "بايو تيكني" (Bio-Techne) على شركة "زيفيروس بايوساينسيز" (Zephyrus Biosciences)، للعلوم البيولوجية، وهناك عدد لا يحصى من الشركات الأخرى التي لم تكن لتخطو خطوة واحدة دون هذا البرنامج.

مستقبل برنامج "آي-كوربس"

يعمل برنامج "آي-كوربس"، اليوم، بأقصى قوته. وتقول مؤسسة فينتشرويل" إنه منذ شهر مايو/أيار 2016، درّب البرنامج ما يزيد على 700 فريق جمعوا أكثر من 80 مليون دولار من تمويل المشاريع والمنح الحكومية والمصادر الأخرى. ولا تزال نسبة 81% من فرق رياديي الأعمال هذه نشطة بعد مرور ما بين 13 و21 شهراً على خضوعهم للدورة التدريبية. وهذه النتائج مذهلة.

وبناء على هذا النجاح، توسع البرنامج ليتعدى "مؤسسة العلوم الوطنية" ويصل إلى برامج مماثلة لدى وكالات أخرى مثل "المعهد الوطني للصحة" و"وزارة الطاقة" و"وزارة الدفاع" بالإضافة إلى دول أخرى مثل أستراليا وسنغافورة. يبدو جلياً أن النموذج يلاقي رواجاً كبيراً.

والجانب الآخر المثير للاهتمام من البرنامج هو أن ما يقارب 90% من المشاركين يقولون إنه غيّر طريقتهم في العمل على العلم فيما يتعلق بأنواع التجارب التي يؤدونها وكيفية كتابة عروض المنح وكيفية التحضير للنشر. وكما قال لي تيلتون: "لقد غير برنامج إنوفيشن كوربس حياتي".

وأنا أعتقد أن ذلك يلفت انتباهنا إلى أمر يفوتنا غالباً حول حركة المؤسسات الناشئة الرشيقة، وهو أنها ليست مجرد سلسلة من التقنيات والخدع، وإنما هي طريقة تفكير مختلفة جوهرياً ويمكنها مساعدة أي أحد على تأسيس منتج جديد أو شركة جديدة، سواء كان شخصاً يجري ببعض التصليحات في مرآب في مكان ما أو مجموعة مدراء تنفيذيين في شركة كبرى، أو عالم يعمل على اكتشاف جديد كلياً. 

اقرأ أيضاً: شرح مفهوم السلوك التنظيمي

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي