تمرُّ المملكة العربية السعودية بمرحلة تاريخية مُهمة، تخوض خلالها رحلة تحوّل ملهمة تنقلها من الاعتماد على الاقتصاد النفطي إلى اقتصاد أكثر تنوعاً وتكاملاً مع اقتصادات الدول الأخرى. وتجاوزت المملكة الكثير من محطات هذه الرحلة في وقت قصير للغاية، وتحديداً منذ إطلاق رؤية 2030، التي وضعت ضمن أهدافها زيادة مساهمة الشركات الصغيرة في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى 35%، وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر من 3.8% إلى 5.7%.
كان الاستثمار الجريء والتوسع في الشركات الناشئة ركيزتين أساسيتين في خلق القيمة على مستوى الاقتصاد العالمي، خاصة أن الشركات الناشئة استطاعت وحدها تحقيق قيمة 3 تريليونات دولار، وهو رقم مكافئ للناتج المحلي الإجمالي لاقتصاد مجموعة الدول الصناعية السبع. وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية تُعد لاعباً جديداً، مقارنة بدول أخرى، في مجال ريادة الأعمال والشركات الناشئة، فقد استطاعت في سنوات قليلة إتاحة الفرصة لتأسيس 1,140 شركة ناشئة، وتحقيق نمو في 5 سنوات تجاوز ما حققته دول أخرى في عدة عقود.
فشهد تمويل الشركات الناشئة نمواً أكثر من 20 مرة في 5 سنوات، لتصبح المملكة هي السوق الوحيدة من بين الأسواق الثلاث الأولى في المنطقة التي سجلت نمواً كبيراً على أساس سنوي. فعلى سبيل المثال، سجلت المملكة استثماراً جريئاً بمبلغ يقارب المليار دولار في عام 2022 عبر 144 صفقة، متجاوزة أرقام العام السابق بنسبة 72%.
استحوذت المملكة على 31% من إجمالي المبالغ المستثمرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، صعوداً من حصة نسبتها 21% في عام 2021، وشهد متوسط حجم الصفقة الواحدة في السعودية ارتفاعاً من أقل من مليون دولار لكل صفقة في عام 2017، إلى متوسط يزيد على 20 مليون دولار لكل صفقة في عام 2022، وفقاً لتقرير ماغنيت عن الاستثمار الجريء في السعودية لعام 2022.
هذه الأرقام المبهرة كانت نتيجة لجهود المملكة في خلق البيئة الريادية المناسبة، وتذليل العقبات أمام رواد الأعمال، وتسهيل رحلتهم في تحويل أفكارهم إلى شركات راسخة في السوق السعودية، وإدراك القادة لدور الشركات الناشئة في الاقتصاد. يقول الأمير محمد بن سلمان: "إن المنشآت الناشئة والصغيرة والمتوسطة من أهم محركات النمو الاقتصادي، إذ تعمل على خلق الوظائف ودعم الابتكار وتعزيز الصادرات وسنسعى إلى دعم ريادة الأعمال والاستثمار فـي الصناعات الجديدة".
تبنّت المملكة استراتيجيات فعّالة مكّنتها من تحقيق هذه الأرقام الصعبة في وقت قليل، وبلوغ مراتب متقدمة عالمياً، إذ جاءت الرياض، في تقرير لترتيب النظم البيئية للشركات الناشئة التقنية في 200 مدينة حول العالم، ضمن أفضل 10% في مؤشر النجوم الصاعدة، واحتلت المركز الثاني في التقرير نفسه في فئة نمو رأس المال الجريء في المراحل المبكرة من بين الأنظمة البيئية الأخرى.
صناديق رأس المال الجريء
يصعب على البنوك تمويل الشركات الناشئة التقنية، إذ تفرض سياساتها ضمانات مالية أو أصولاً ثابتة في الوقت الذي لا تملك هذه الشركات فيه سوى أصول غير ملموسة مثل التطبيقات والخوارزميات التي تعتمد على الأكواد البرمجية، وهي ليست ذات قيمة مادية للبنوك. كما يخشى المستثمرون العاديون المغامرة بمبالغ تمويلية ضخمة لصالح فكرة جديدة، أو مشروع وطني ربما يكون العائد منه بعيداً نسبياً، وهنا يأتي دور الاستثمار الجريء.
أدرك قادة المملكة أن وجود صناديق تمويل حكومية سيشجع المستثمرين والشركات الخاصة على اتباع النهج نفسه، انطلاقاً من أن مبادرات القطاع العام هي أكثر عوامل التمكين إقناعاً في أي اقتصاد. فكان عام 2018 محورياً في تاريخ ريادة الأعمال السعودية، إذ أسست المملكة الشركة السعودية لرأس المال الجريء "إس في سي" (SVC)، بإجمالي حجم تمويل يبلغ 1.5 مليار دولار، وصندوق جدا (Jada)، برأس مال مليار دولار، اللذين سرّعا بدورهما وتيرة الاستثمار، خاصة للمشاريع ذات التكلفة الكبرى، وشجعا المستثمرين على المشاركة في تمويل الشركات الناشئة. إذ استثمرت الأولى في نحو 35 صندوقاً استثمارياً و525 شركة، واستثمر جدا في 29 صندوقاً ودعم 453 شركة.
ويقول رئيس مجلس الإدارة ومؤسس مجموعة عقال، فارس الراشد: "إذا كان هناك أشخاص مستعدون للاستثمار ولكنهم مترددون بشأن المخاطر، فإن وجود صندوق مثل "إس في سي" (SVC) ليشارك بـ 50% من التمويل أو أكثر زادهم طمأنينة وإقداماً، إضافة إلى أنه ساعد في سد فجوة التمويل بين المراحل المختلفة للشركات، وخاصة في المراحل المتأخرة التي تحتاج إلى تكلفة ضخمة تبدأ من 20 مليون دولار"، وذلك في مقال سابق له نُشر في هارفارد بزنس ريفيو.
هيئة منشآت لدعم البيئة الريادية
أسست المملكة هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت" لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة وتطويرها، إذ تساعدها في الوصول إلى التمويل المناسب، وبناء الجسور بين رواد الأعمال والكيانات الوطنية الكبرى والمستثمرين، إلى جانب تقديم خدمات التدريب والاستشارات والإرشاد لمساعدة رواد الأعمال على مواجهة تحديات نموهم. فعلى سبيل المثال، توفر برامج تدريبية لرواد ورائدات الأعمال عبر أكاديمية منشآت لتطوير القدرات والمهارات لرواد الأعمال وأصحاب المنشآت، التي تقدم مجموعة واسعة من التدريبات والدورات بداية من نشر ثقافة ريادة الأعمال، مروراً باختيار الفكرة، والتسويق لها، والوصول إلى التمويل، وحتى عقد دورات تدريبية متخصصة في كل قطاع.
من البرامج النوعية التي توفرها منشآت أيضاً برنامج الشركات الناشئة الجامعية، الذي يهدف إلى تحويل الأفكار الإبداعية ومشاريع التخرج بالجامعات السعودية إلى شركات ناشئة عبر تقديم الدعم المادي وتوجيه الطلاب من خلال برامج إرشادية وفعاليات متنوعة.
تُعنى منشآت أيضاً ببرامج إطلاق مسرعات وحاضنات الأعمال، وخدمات تسهيل استخراج الأوراق والتراخيص، وبرامج التمكين وبناء الجسور بين رواد الأعمال من ناحية وأصحاب الخبرات والممولين من ناحية أخرى، لتصبح منشآت ركيزة أساسية لخلق منظومة متكاملة لريادة الأعمال.
إصلاحات تشريعية لجذب الاستثمارات الأجنبية
أجرت المملكة العديد من الإصلاحات التشريعية وتعديلات اللوائح القانونية سواء لتسهيل تأسيس الشركات الناشئة وصناديق رأس المال الجريء أو لجذب الاستثمارات الأجنبية. فمثلاً، في 2018، قلّصت الهيئة العامة للاستثمار السعودية إجراءات إصدار التراخيص الاستثمارية من 53 ساعة إلى أقل من 4 ساعات عبر إعادة هيكلة الإجراءات، وتقليص المستندات المطلوبة، وتدريب الكوادر الوظيفية. فزاد عدد تراخيص الاستثمارات الأجنبية من 142 بنهاية 2017 إلى 9,383 في بداية 2022. إضافة إلى تعديل القواعد المنظِّمة للاستثمار الأجنبي في الأوراق المالية وتخفيف عدد من الشروط على المستثمر الأجنبي. كما تُعدُّ وزارة الاستثمار مشروع قانون جديد للاستثمار يدعم المساواة في المعاملة بين المستثمرين المحليين والأجانب فيما يتعلق بالاستثمارات المباشرة في المملكة.
هذه البيئة الريادية السريعة النمو، والمنظومة الاقتصادية المتكاملة الخدمات، جعلتا السعودية سوقاً جاذبة للمستثمرين الأجانب والشركات الدولية الكبرى الساعية لنمو أعمالها. إذ وصل الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية خلال عام 2021 إلى أعلى مستوى له في 10 أعوام، وفقاً لتقرير صادر عن مركز التواصل الحكومي.
جسور التواصل
تتبع المملكة أيضاً أحد المسارات المثالية لتحفيز بيئة الأعمال، وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، عبر زيادة فرص التواصل بين أطراف المنظومة، فتعقِد فعاليات عديدة مثل ملتقى بيبان، الذي يعزز الفرص الملموسة من خلال توحيد رواد الأعمال المحليين والدوليين والمستثمرين والمسؤولين الحكوميين للتعاون وتبادل الأفكار، الذي يُطلِق بدوره واحدة من أكبر مسابقات الشركات الناشئة في العالم، وهي كأس العالم لريادة الأعمال (EWC)، التي جذبت أكثر من 400,000 رائد أعمال من 200 دولة، منذ تأسيسها.
نادي الشركات المليارية
واصلت المملكة رسم دروبها الطموحة في هذا القطاع، إذ تهدف إلى دخول المزيد من شركاتها، بعد شركة إس تي سي باي (STC Pay)، إلى نادي الشركات المليارية، فأطلقت برنامج الشركات المليارية (Saudi Unicorns) لدعم الشركات السعودية الناشئة في رحلتها لتصبح أحادية القرن، من خلال توفير خدمات مصممة وفقاً لمتطلباتها، وربطها بالموارد والشبكات اللازمة، وتوفير التوجيه الاستراتيجي. واستطاعت جذب 35 شركة تقنية متسارعة النمو حتى الآن.
وتوقع الرئيس التنفيذي للبرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات، إبراهيم نياز، أن تشهد السوق السعودية ولادة نحو 18 إلى 20 شركة مليارية جديدة بحلول عام 2030. كما توقع تقرير جديد صادر عن شركة "إس تي في" (STV) ظهور أكثر من 45 شركة ناشئة "يونيكورن" في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحلول عام 2030، بقيادة المملكة العربية السعودية.
التركيز على القطاعات الأكثر مساهمة في الاقتصاد
ركّز التمويل السعودي على القطاعات الأكثر تأثيراً في الاقتصاد، وعلى رأسها التكنولوجيا المالية، باعتبارها البنية التحتية الأساسية التي يمكن من خلالها للعديد من الصناعات التقنية الأخرى تسويق منتجاتها وخدماتها الرقمية، على غرار تطبيقات خدمات التوصيل. لذلك، كان القطاع الأكثر حصولاً على التمويل في المملكة، إذ استحوذ على 24% من إجمالي تمويل رأس المال الاستثماري في المملكة، وارتفع عدد شركات التكنولوجيا المالية المسجلة والمرخصة العاملة في المملكة من 80 إلى 147 شركة ناشئة في 2022 مثل تمارا (Tamara)، وإس تي سي باي (STC Pay)، إذ جمعت كل منهما أكثر من 200 مليون دولار.
كما استثمر الممولون في قطاعات التجارة الإلكترونية، والرعاية الصحية، وتكنولوجيا الغذاء، وتكنولوجيا النقل، وخدمات التوصيل، والتكنولوجيا التعليمية، ما جعل السوق السعودية متنوعة ومفتوحة على العديد من الفرص للمستثمرين.
ركّز التمويل السعودي على القطاعات الأكثر تأثيراً في الاقتصاد، وعلى رأسها التكنولوجيا المالية، باعتبارها البنية التحتية الأساسية التي يمكن من خلالها للعديد من الصناعات التقنية الأخرى تسويق منتجاتها وخدماتها الرقمية، على غرار تطبيقات خدمات التوصيل.
استقطاب الأفكار الريادية من جميع أنحاء العالم
تعمل السعودية على جذب أفضل الأفكار المبتكرة واحتضانها، لتصبح المكان الأنسب لبدء أي شركة ناشئة في الشرق الأوسط. فمثلاً أعلنت مؤخراً عن تنفيذ 4 مسرِّعات أعمال لدعم 100 شركة ناشئة، تقنية ورقمية، وتمكينها حول العالم بشكل سنوي، واستقطابها لفتح مقارها الرئيسية بالمملكة من خلال شراكة استراتيجية مع مسرِّعة جوجل للأعمال الناشئة.
وعلى مدار السنوات الماضية، أقامت شركات عالمية مدرجة ضمن قائمة فورتشن 500 موقعاً لها في الشرق الأوسط، وقد اتجهت بعض هذه الشركات مؤخراً إلى نقل مقارها الإقليمية إلى الرياض بعد تهديد المملكة بإيقاف التعاقدات الحكومية مع الشركات العالمية إذا لم تنقل مقراتها الإقليمية في الرياض بحلول عام 2024، إذ وصلت عدد هذه الشركات إلى 80 شركة عالمية خلال عامين فقط، وفقاً لوزير الاستثمار، خالد الفالح.
وتسهم الشركات العالمية الكبرى في التطورات الاقتصادية الأخيرة في السعودية، مثل استثمار شركة مايكروسوفت (Microsoft) مليار دولار في سحابة عالمية فائقة النطاق في المملكة، وإضافة شركة أوراكل (Oracle) مليار دولار لتوسيع أعمالها في عدد من مناطق المملكة، وإنشاء منطقة لخدمات شركة زووم (Zoom) في المملكة، واستثمار شركة سيكويا كابيتال لأول مرة في شركة التكنولوجيا المالية (Saudi FinTech Lean Technologies) في عام 2022.
يساعد اهتمام المملكة بقطاع الشركات الناشئة في تحقيق رؤيتها الخاصة بالعمالة السعودية، إذ تهدف رؤية المملكة 2030 إلى خفض نسبة بطالة السعوديين من 11% إلى 7% بحلول عام 2030؛ ما يتطلب إيجاد وظائف نوعية وعالية الإنتاجية. وبدورها، تستطيع الشركات الناشئة توليد ما بين 22% إلى 53% من الوظائف الجديدة.
وضعت المملكة خطة طموحة، ورسمت طريقاً واضحاً لتحويل الخطة إلى واقع ملموس، مكّنها من الخروج من الاقتصاد النفطي إلى اقتصاد أكثر تنوعاً وتكيفاً مع متغيرات العالم، مثل الاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة واقتصاد الشركات الناشئة، في مدة قصيرة.