لا تقتصر المسألة على استخدام أدوات جيدة، ولكنها تتطلب تغييراً شاملاً في السلوك.
في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، وقبل موسم العطلات المزدحم بالسفر، اقترح مدير تصميم موقع بوكينغ دوت كوم "Booking.com" تجربة مبتكرة: وهي اختبار تصميم جديد تماماً للصفحة الرئيسية للشركة. وبدلاً من تقديم الكثير من الخيارات للفنادق، والشقق المعروضة للإيجار بغرض قضاء العطلات، وعروض السفر، كما كانت تفعل الصفحة الرئيسية الحالية للشركة، فسوف تحتوي الصفحة الجديدة على نافذة صغيرة تسأل الزبون عن المكان الذي سيذهب إليه، تواريخ السفر، عدد الأفراد المسافرين في صحبته، وتقدم له ثلاثة خيارات بسيطة: "أماكن الإقامة"، و"الرحلات الجوية"، و"تأجير السيارات". وسيتم حذف جميع عناصر المحتوى القديم -من صور ونصوص وأزرار ورسائل- التي ظلت شركة Booking.com تعمل على تحسينها لعدة سنوات مضت.
وكانت جيليان تانس، الرئيسة التنفيذية لشركة Booking.com في ذلك الوقت، متخوفة من هذه الخطوة، وأعربت عن قلقها من حدوث التباس بين الزبائن المخلصين للشركة نتيجة هذا التغيير. أما لوكاس فيرمير، رئيس فريق التجارب الأساسية في الشركة، فقد راهن على "فشل" هذه التجربة- وكان يعني أن هذه التجربة قد تؤدي إلى انحدار مقياس الأداء الحاسم للشركة: تحويل الزبائن، أو عدد زوار الموقع ممن قاموا بالحجز. إذن، وبالأخذ في الاعتبار هذه النظرة المتشائمة، لماذا لم تصوِّت الإدارة العليا برفض هذه التجربة؟ لأن سلوكاً كهذا ينتهك أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها شركة Booking.com: ألا وهو أنه باستطاعة أي فرد بالشركة تجربة أي شيء- دون أخذ إذن الإدارة.
يدير موقع Booking.com أكثر من 1,000 اختبار مكثف في وقت واحد، وفي تقديري يتم إجراء أكثر من 25,000 اختبار سنوياً. وتظهر في أي وقت كوادرليونات (ملايين المليارات) من التباديل للصفحة الأولى، ما يعني استحالة أن يرى زبونان في نفس المكان الإصدار ذاته من الموقع. أسهمت كل هذه التجارب في تحويل الشركة من شركة هولندية ناشئة صغيرة إلى أكبر منصة إلكترونية في العالم للسفر والإقامة في أقل من عقدين.
ليست Booking.com الشركة الوحيدة التي اكتشفت قوة التجارب عبر الإنترنت، فهناك شركات رقمية عملاقة، مثل "أمازون" و"فيسبوك" و"جوجل" و"مايكروسوفت"، اكتشفت أن هذه التجارب تمثل نقطة تحول جذرية فيما يخص التسويق والابتكار، فقد ساعدت محرك البحث "بينغ" (Bing) التابع لشركة "مايكروسوفت" على سبيل المثال في إجراء عشرات التحسينات شهرياً والتي أسهمت مجتمعة في تعزيز الإيرادات لكل عملية بحث بنسبة 10% إلى 25% سنوياً. (راجع مقال "القوة المدهشة لتجارب الإنترنت" (The Surprising Power of Online Experiments)، مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، عدد سبتمبر/أيلول – أكتوبر/تشرين الأول 2017). وقد اعتمدت شركات ليس لها أصول رقمية، مثل "فيديكس" و"ستيت فارم" (State Farm) و"آتش آند إم" (H&M)، التجارب عبر الإنترنت، واستخدمتها لتحديد أفضل نقاط التواصل الرقمية، وخيارات التصميم، والخصومات، وتوصيات المنتج.
وقد قال لي مارك أوكرستروم، الرئيس التنفيذي لمجموعة "إكسبيديا غروب" (Expedia Group): "في عالم آخذ في التحول نحو التقنيات الرقمية على نحو متزايد، إن لم تُجرِ التجارب على نطاق واسع، فسوف تختفي من السوق على المدى البعيد، وفي العديد من القطاعات على المدى القصير. إذ نجري كل فترة مئات، إن لم تكن آلاف، التجارب المتزامنة والتي تتضمن ملايين الزوار، ولذلك فلسنا بحاجة لتخمين ما يريده الزبائن، فلدينا القدرة على إجراء أكبر "الاستبانات لاستطلاع رأي الزبائن" مراراً وتكراراً حتى يخبرونا بما يريدون".
لكن بعد دراسة أكثر من عشر مؤسسات وتحليل البيانات مجهولة المصدر عن التجارب التي تتجاوز 1,000 تجربة، رأيت أن شركتي Booking.com و"إكسبيديا" وأمثالهما هي الاستثناء، فبدلاً من إجراء المئات أو الآلاف من الاختبارات عبر الإنترنت كل عام، لا يدير العديد من الشركات أكثر من عشرات التجارب التي ليس لها أثر يُذكر.
فإذا كانت مسألة الاختبار ذات قيمة كبيرة، فلماذا إذن لا تُجري الشركات المزيد منها؟ بعد دراسة هذا السؤال لعدة سنوات، أستطيع أن أخبرك أن الثقافة هي السبب الرئيسي، فحينما تحاول الشركات توسيع نطاق قدرتها على التجريب عبر الإنترنت، فإنها كثيراً ما تجد أن العقبات الحقيقية لا تتمثل في الأدوات والتقنيات التكنولوجية، بل في السلوكيات والمعتقدات والقيم المشتركة. فمقابل كل تجربة ناجحة، تفشل ما يقرب من 10 تجارب، وبالنسبة للعديد من المؤسسات التي تشدد على الكفاءة، والقدرة على التنبؤ، و"الربح"، فإن هذه الإخفاقات تعد نوعاً من الإسراف في استخدام الموارد.
من أجل الوصول إلى النجاح في الابتكار، فإن الشركات بحاجة إلى جعل عملية التجريب جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، حتى إن كانت الميزانيات محدودة. وهذا يعني توفير بيئة تعزز حب الاستطلاع لدى الموظفين، وإعطاء الأولوية للبيانات على حساب الآراء، وتمكين أي فرد (وليس فقط الموظفين العاملين بقسم البحث والتطوير) من إجراء التجارب أو تكليف من يقوم بها، ومراعاة الجوانب الأخلاقية في كافة التجارب، واعتماد المدراء نموذجاً جديداً للقيادة. في هذا المقال، سأتناول العديد من الشركات التي تمكنت من إدارة هذه الأمور بشكل جيد، مع التركيز بشكل خاص على شركة Booking.com، التي تتمتع بواحدة من أقوى ثقافات التجريب التي اكتشفتها.
فكرة المقالة باختصار
الفرصة
في عالم آخذ في التحول نحو التقنيات الرقمية على نحو متزايد، تعد اختبارات "أ/ب" (A/B) الموجهة والعشوائية طريقة شديدة التميز لإنشاء التجارب عبر الإنترنت أو تحسينها.
العقبات
الثقافة -وليست الأدوات أو التقنيات التكنولوجية- هي ما تمنع الشركات من إجراء مئات، بل آلاف التجارب التي يجب إجراؤها سنوياً، ثم تطبيق النتائج.
الحل
توفير بيئة تعزز حب الاستطلاع، وإعطاء الأولوية للبيانات على حساب الآراء، وتمكين أي فرد من إجراء التجارب، ومراعاة الجوانب الأخلاقية في كافة التجارب، واعتماد المدراء نموذجاً جديداً للقيادة.
تشجيع حب الاستطلاع
يجب على كل فرد في المؤسسة، بداية من القيادات، وحتى صغار العاملين بها، تقدير المفاجآت، على الرغم من صعوبة تحديد مبلغ معين لها واستحالة التنبؤ بموعد حدوثها وعددها. لكن عندما تتبنى الشركات هذه العقلية، فستتغلغل ثقافة حب الاستطلاع في كافة مفاصل المؤسسة، ولن ينظر الموظفون إلى الفشل كأخطاء مكلفة، بل كفرص للتعلم.
في الواقع، فإن إجراء عدد ضخم من التجارب بدلاً من إجراء عدد صغير منها يعد أقل خطورة، فإذا ما أجرت الشركة عدداً بسيطاً من التجارب سنوياً، فقد تحقق نجاحاً واحداً أو لا تحقق أي نجاح على الإطلاق. ومن هنا يعتبر الفشل مسألة شديدة الخطورة.
هناك مثال كلاسيكي يتعلق بحادث في "أمازون" يتضمن مراجعة لعبة "إير باتريوتس" (Air Patriots)، وهي لعبة للأجهزة المحمولة يدافع فيها اللاعبون عن الأبراج ضد الهجوم بسرب من الطائرات. عندما أطلقت أمازون إصداراً جديداً منها، فوجئ فريق التطوير بالاستجابة التالية: فقد انخفض معدل احتفاظ المستخدمين باللعبة لمدة سبعة أيام بنسبة مذهلة بلغت 70%، وتراجعت الإيرادات بنسبة 30%. اكتشف الفريق أنهم زادوا صعوبة اللعبة بحوالي 10% عن غير قصد. وسرعان ما استحدثت أمازون عملية إصلاحية، لكنّ مطوري البرمجيات تساءلوا عما إذا كان تسهيل اللعبة يمكن أن يحقق مكاسب كبيرة في استبقاء المستخدمين والإيرادات.
ولاكتشاف ذلك، أجروا اختباراً بأربعة مستويات جديدة من الصعوبة، بالإضافة إلى عنصر الضبط، وعلموا أن البديل الأسهل حقق أفضل النتائج. وبعد إدخال بعض التحسينات الإضافية أطلقت أمازون إصداراً جديداً - وهذه المرة لعب المستخدمون فترة أطول بنسبة 20% وزادت الإيرادات بنسبة 20%. أي أن هذا الحادث أدى إلى رؤية مدهشة أصبحت نقطة انطلاق لتجارب جديدة.
للأسف، لا تسير الأمور بهذه الطريقة في كثير من الأحيان، فالعديد من الشركات يربط بين التجارب والمخاطرة، ما يجعل المدراء يترددون في تخصيص موارد لهذه التجارب، لكن المكاسب التي جنتها الشركات التي حققت قفزة في الثقة جديرة بمنح الآخرين جرعة من الشجاعة للسير على دربها.
كما يبالغ العديد من المؤسسات في التحفظ بشأن طبيعة التجارب وعددها، وقد تؤدي المبالغة في التشديد على أهمية نجاح التجارب إلى تشجيع الموظفين على التركيز على الحلول الشائعة، التي يثقون في نجاحها وتجنب تجريب الأفكار التي قد يخشون فشلها، في حين أن إجراء عدد كبير من التجارب أقل خطورة من إجراء عدد قليل منها. ففي شركة Booking.com يحقق 10% فقط من التجارب نتائج إيجابية -ما يعني أن (ب)، وهو التعديل الذي يحاول تحسين أحد العناصر (كالمبيعات أو الاستخدام المتكرر أو معدلات استجابة المتلقين أو الوقت الذي يقضيه المستخدمون في الموقع، على سبيل المثال)، يحقق نتائج أفضل بين المستخدمين المحددين عشوائياً مقارنة بـ (أ) الذي يمثل عنصر الضبط، أي الوضع الراهن. (تقوم شركة Booking.com بالإضافة إلى اختبارات أ/ب بإجراء اختبارات أكثر تعقيداً والتي تقيِّم أكثر من تعديل واحد في الوقت نفسه). ولكن عندما تُجري عدداً ضخماً من التجارب، فحتى معدلات النجاح المنخفضة تعني عدداً كبيراً من النجاحات، التي تقلل بالتالي من تكلفة الفشل المالية والعاطفية، فإذا ما أجرت الشركة عدداً بسيطاً من التجارب سنوياً، فقد تحقق نجاحاً واحداً- أو لا تحقق أي نجاح على الإطلاق إن لم يسعدها الحظ. ومن هنا يعتبر الفشل مسألة شديدة الخطورة.
وقد لاحظت في الشركات التي درستها ضآلة معدل نجاح الأفكار التي تمت تجربتها مبكراً لتطوير منتج جديد تماماً، إلا أن الإخفاقات المتكررة تسمح لمطوري البرمجيات باستبعاد الخيارات غير المرحب بها وإعادة تركيز جهودهم على البدائل الواعدة.
ولا يتخوف الموظفون من احتمال الفشل في الثقافات التجريبية. يقول فيرمير، الذي يشرف الآن على جميع الاختبارات في Booking.com: "إن الموظفين الذين يزدهرون هنا هم الفضوليون والمنفتحون والمتشوقون للتعلم واكتشاف كل ما هو جديد، ولا يجدون مشكلة في ثبوت خطئهم". يبحث مسؤولو التوظيف في الشركة عن أمثال هؤلاء الأشخاص، ويحرصون على تمكينهم من اتباع حدسهم، كما تحرص الشركة على إخضاع الموظفين الجدد لعملية تأهيلية مكثفة تتضمن تدريبهم على ثقافة التجريب، ثم توفر لهم إمكانية الحصول على كافة أدوات الاختبار.
الإصرار على إعطاء الأولوية للبيانات على حساب الآراء
يجب تغليب النتائج التجريبية للتجارب الإلكترونية عبر الإنترنت إذا تصادمت مع الآراء، حتى إن كانت آراءً قوية، وأياً كان أصحاب تلك الآراء. هذا هو السلوك المتبع في شركة Booking.com، إلا أنه أمر نادر في معظم الشركات لسبب مفهوم: الطبيعة البشرية. إذ إننا نميل إلى قبول النتائج "الجيدة" التي تؤكد تحيزاتنا، ولكننا نتحقق ونبحث بدقة متناهية في النتائج "السيئة" التي تتعارض مع افتراضاتنا.
ويمكن علاج هذه الظاهرة بتطبيق التغييرات التي تفرزها التجارب مع حصر الاستثناءات في أضيق نطاق ممكن. وكما قال لي أحد مدراء Booking.com: "إذا أوحت لك نتيجة الاختبار أن ترويسة الموقع يجب أن تكون باللون الوردي، فيجب أن تكون باللون الوردي. يجب دائماً أن تتبع نتائج الاختبار".
ليس من السهل إقناع المسؤولين التنفيذيين بالإدارة العليا بالالتزام بذلك المنهج. (وكما قال الكاتب الأميركي أبتون سينكلير يوماً: "من الصعب أن تقنع شخصاً باستيعاب أمر ما، إذا كان حصوله على راتبه يعتمد على عدم استيعابه إياه!"). بيد أنه من الضروري أن يفعلوا: فلا يوجد ما يقتل روح الابتكار بشكل أسرع من ما يسمى (HiPPO)، التي تعني رأي الشخص الأعلى راتباً.
لاحظ أنني لا أقول إنه يمكن أو يجب أن تعتمد القرارات الإدارية على التجارب التي يتم إجراؤها عبر الإنترنت، فهناك بعض الأمور التي يصعب، إن لم يستحِل، إجراء تجارب عليها، مثل القرارات الاستراتيجية بشأن ما إذا كان يجب الاستحواذ على شركة ما من عدمه.
ولكن إذا تم اختبار كل ما يمكن اختباره عبر الإنترنت، فقد تسهم التجارب بصورة إيجابية في اتخاذ القرارات الإدارية وتغذية النقاشات الصحية، كما أن تلك المناقشات قد تؤدي في بعض الأحيان إلى اختيار واعٍ بتجاوز تلك البيانات. وهذا ما حدث بقرار يتعلق بأحد المسلسلات الكوميدية على "نتفليكس"، الذي أدى إلى بناء بنية تحتية متطورة لإجراء تجارب واسعة النطاق. وفقاً لمقال نُشر بصحيفة "وول ستريت جورنال" في عام 2018، فقد اختلف المسؤولون التنفيذيون في الشركة عندما أثبتت الاختبارات أن إعلاناً تظهر فيه الممثلة ليلي توملين وحدها، وهي أحد نجوم مسلسل "غريس آند فرانكي" (Grace and Frankie)، أدى إلى ارتفاع معدلات النقر من قِبَل المشاهدين المحتملين مقارنةً بالإعلانات التي أظهرت توملين وزميلتها جين فوندا. غير أن فريق المحتوى تخوف من إثارة غضب فوندا وربما يتسبب في إقدامها على فسخ عقدها. بعد المناقشات الساخنة التي انتهت بتغليب الأدلة التجريبية على "الاعتبارات الاستراتيجية"، اختارت "نتفليكس" استخدام الصور التي تظهر كلتا الممثلتين، رغم أن بيانات الزبائن لم تدعم القرار. بيد أن الأدلة التجريبية جعلت المقايضات أكثر شفافية.
إضفاء طابع الديمقراطية على التجارب
كما أشرت من قبل، يمكن لأي موظف في Booking.com إطلاق تجربة على ملايين الزبائن دون إذن من الإدارة. حيث يستخدم حوالي 75% من موظفي التكنولوجيا والمنتجات البالغ عددهم 1,800 موظف منصة التجارب الخاصة بالشركة، وتتيح لهم النماذج الموحدة إمكانية إعداد الاختبارات بأقل جهد ممكن، كما تتم العمليات -مثل توظيف المستخدمين والتوزيع العشوائي وتسجيل سلوك الزائرين وإعداد التقارير- بصورة تلقائية. واعتاد الفريق الأساسي للتجريب وخمسة فرق فرعية على توفير التدريب والدعم للمؤسسة بأكملها، ولكن نظراً لتطور احتياجات الشركة، تم تغيير هذا الهيكل مؤخراً ليصبح أربع فرق مركزية تعمل تحت رئاسة فيرمير والأخصائيين ("السفراء") المعينين في فرق الإنتاج.
لبدء العمل، يملأ الأفراد أو الفرق نموذجاً إلكترونياً مرئياً للجميع، ويشمل اسم التجربة والغرض منها والمستفيدين الرئيسيين (الزبائن أو المورّدين) والتجارب السابقة ذات الصلة وعدد التعديلات المقرر تجربتها في اختبارات أ/ب أو أ/ب/ج أو أ/ب/ن. بمجرد بدء التجربة، يراقبها الفريق عن كثب خلال الساعات القليلة الأولى، فإذا ما ارتفعت مقاييس الفشل الأولية أو الثانوية بسرعة، فيمكن للفريق إيقاف التجربة. بعد تلك الفترة الأولية، تستمر المنصة في إجراء التحقق من جودة البيانات تلقائياً وإرسال رسائل تحذيرية إذا ظهر شيء غريب. ولتشجيع الانفتاح، تحتفظ شركة Booking.com بمستودع مركزي يمكن البحث فيه عن التجارب السابقة، مع وصف كامل للنجاحات والإخفاقات وعدد الإصدارات والقرارات النهائية. ويمكن للجميع الاطلاع على المعلومات الآنية الناتجة عن التجارب الجاري تنفيذها.
أوضح لي فيرمير قائلاً: "من المفارقات العجيبة أن مركزية البنية التحتية للتجارب الخاصة بنا هو ما يجعل اللامركزية المؤسسية ممكنة، فالجميع يستخدم الأدوات نفسها، وهذا ما يعزز الثقة في بيانات كل منا ويمكننا من المناقشة والمساءلة. في حين أن بعض الشركات، مثل "مايكروسوفت" و"فيسبوك" و"جوجل"، قد تكون أكثر تقدماً تقنياً في مجالات مثل تعلم الآلة، إلا أن استخدامنا لاختبارات أ/ب البسيطة يجعلنا أكثر نجاحاً في إشراك جميع الأفراد، حتى إننا قمنا بإضفاء الطابع الديمقراطي على الاختبارات في مختلف أفرع المؤسسة".
قد ينطوي إضفاء الطابع الديموقراطي بطبيعة الحال على بعض التحديات، يتمثل أحدها في إمكانية قيام بعض الفرق أو الأفراد في شركة Booking.com بإفساد شيء على الموقع المزدحم بالزوار ما يؤدي إلى تعطيله. ثمة تحدٍّ آخر يتمثل في ضرورة تحديد كل فريق لتوجهه الخاص ومعرفة مشاكل المستخدم التي يريد حلها، وهذا يتطلب تدريباً مكثفاً ومناقشات مستمرة بين أعضاء الفريق حول طبيعة المشاكل الملائمة. ومن هنا يتم تشجيع المناقشات، ويتمكن الموظفون من التواصل مع زملائهم إذا رأوا أن هناك ما يواجههم ويستدعي التساؤل بشأنه. وكما أن بإمكان أي فرد طرح تجربة، فبإمكان أي فرد أيضاً إيقاف تجربة، إلا أن ذلك لا يحدث إلا في ظروف نادرة، مثل تمخض إحدى التجارب عن كارثة- كأن يلاحظ موظف موجود بمفرده في المكتب ليلاً، على سبيل المثال، أن التجربة تتسبب في هبوط مؤشر رئيسي مثل معدل تحويل الزبائن، والتيقن من تسببها في تكبيد الشركة خسائر بملايين الدولارات إذا سمح لها بالاستمرار.
يمنح هذا النظام الفرق الاستقلالية، التي يحتاجون إليها لتجربة أساليب جديدة يؤمنون أنها ذات قيمة، كما يسمح للموظفين في مختلف أفرع الشركة بمراقبة التجارب وتقديم ملاحظات آنية، ويحرر الجميع لتجربة أي فكرة تتعلق بتحسين أداء شركة Booking.com.
مراعاة الجوانب الأخلاقية
يجب أن تتأنى الشركات قبل إقدامها على إجراء تجارب جديدة، لتعرف على وجه اليقين ما إذا كان المستخدم سيعتبر هذه التجارب مسألة غير أخلاقية من عدمه. ورغم عدم وضوح هذه الإجابة دائماً، فإن الشركات التي تفشل في التوصل إلى إجابة قاطعة لهذا السؤال تخاطر بتلقي ردود أفعال عنيفة. فمثلاً التجربة التي استمرت لمدة أسبوع على موقع "فيسبوك" في عام 2012 لمعرفة ما إذا كانت الحالات العاطفية مُعدية على منصته أم لا. حيث جدد موقع فيسبوك ميزة "موجز الأخبار" (News Feed) -وهي قائمة خوارزمية من المنشورات والقصص والنشاطات- لمعرفة ما إذا كان الحد من مشاهدة قصص إيجابية سيؤدي بالأشخاص إلى تقليل عدد منشوراتهم ذات الطابع الإيجابي، كما اختبرت الشبكة إمكانية حدوث العكس إذا ما تعرض الأفراد لعدد أقل من القصص السلبية. تضمنت التجربة ما يقرب من 690,000 مستخدم تم اختيارهم، منهم حوالي 310,000 مستخدم تم تعريضهم دون قصد منهم لتعبيرات عاطفية معالجة في "موجز الأخبار" الخاص بهم، بينما تعرض الباقون لظروف محكومة تم فيها حذف عدد مماثل من المشاركات التي تم اختيارها عشوائياً.
عندما نشر باحثون من "فيسبوك" و"جامعة كورنيل" النتائج في إحدى المجلات الأكاديمية، اندلعت عاصفة من الغضب الشعبي. فقد أجرى فريق علوم البيانات في "فيسبوك" تجارب على المستخدمين المطمئنين لسنوات من قبل دون متاعب، لكن التلاعب العاطفي قد مس وتراً حساساً. أثار النقاد مخاوف حول إمكانية الاكتفاء بموافقة المشاركين على سياسة استخدام البيانات العامة على "فيسبوك"، وشعروا أنه كان يتعين على الشركة أن توضح للمستخدمين إمكانية رفضهم الاشتراك في الاختبار وفي جمع البيانات البحثية. تعتبر التجربة ناجحة من المنظور التعليمي، فقد توصلت إلى وجود العدوى العاطفية عبر الإنترنت، على الرغم من ضآلة أثرها. إلا أن بعض المستخدمين شعروا باستغلالهم من قِبَل "فيسبوك" باسم العلم.
تشير الأبحاث إلى أن الشركات التي تختبر الأفكار الجديدة أولاً تواجه قدراً أكبر من التدقيق من جانب الزبائن مقارنةً بالمنافسين الذين ينفذون ممارسات جديدة دون إجراء أي تجارب. في تحليل منشور لـ 16 دراسة في مجالات، مثل الرعاية الصحية وتصميم السيارات والفقر العالمي، خلصت عالمة الأخلاقيات الحيوية ميشيل ماير، وفريقها المساعد إلى أن المشاركين اعتبروا اختبارات أ/ب موضع شك من الناحية الأخلاقية أكثر من التنفيذ العالمي لممارسة غير مجربة (A أو B) على جميع السكان -حتى عندما كان كلا العلاجين غير مثيرين لأي اعتراض.
من هذا المنطلق، تتضح ضرورة التدرب على مراعاة الجوانب الأخلاقية وفرض نوع من الرقابة الأخلاقية، ويكمن التحدي في فرض هذه الرقابة دون جعل الموظفين يتسمون بالحذر الشديد أو فرض الكثير من القواعد عليهم. ولهذه الأسباب الدقيقة امتنعت Booking.com عن فرض القواعد من الإدارة العليا حول ماهية التجارب المسموح بإجرائها، وتشجع بدلاً من ذلك الموظفين على السؤال عما إذا كانت التجربة أو الممارسة المقترحة سوف تساعد الزبائن أم تؤذيهم. وقد قال لي ديفيد فيسمانز، الرئيس التنفيذي للمنتجات في شركة Booking.com: "أفضل الابتعاد عن مجالس الرقابة والمراجعات الأخلاقية، فهو حل غير مجدٍ، وإلا ستخلق لنفسك عوائق أنت في غنى عنها، كما أن فرض الرقابة الصارمة على التجارب لا تجعل الأفراد يشعرون أنهم موضع ثقة". بدلاً من ذلك، تشجع الشركة المناقشات في المنتديات الإلكترونية الداخلية المفتوحة لجميع الموظفين. يمكن أن تكون المناقشات مفعمة بالحيوية وتتناول أموراً مثل استخدام التقنيات لإقناع الزبائن بإتمام المعاملات (كإرسال رسائل مثل "الرجاء الحجز الآن وإلا ضاع عليك الحجز" أو "هناك ثلاث غرف فقط متبقية"). ويضيف فيسمانز موضحاً: "أفضل أن يكون لديّ مجتمع يقوم بالتصحيح الذاتي".
ولتحقيق هذه الغاية، تشتمل عملية التوظيف في شركة Booking.com على التدريب الأخلاقي. هناك أيضاً شركة "لينكد إن" التي تعتبر نموذجاً للشركات التي تعتمد برنامجاً تجريبياً ضخماً، ولكنها تتبع نهجاً مختلفاً بعض الشيء. فقد وضعت مبادئ توجيهية داخلية تنص على أن الشركة لن تجري تجارب "تهدف إلى تقديم تجربة سلبية للأعضاء، أو تهدف إلى تغيير الحالة المزاجية للأعضاء أو مشاعرهم، أو تتجاهل إعدادات أو خيارات الأعضاء الحاليين".
اعتماد نموذج قيادة مختلف
كيف تتعامل شركة Booking.com مع تجارب تحسين الموقع
يستخدم الموظفون في الشركة يومياً اختبارات أ/ب لتجربة أفكارهم وإدخال التعديلات اللازمة. فيما يلي مثالان على ذلك:
من خلال إضفاء الطابع الديمقراطي على التجارب واتّباع نتائج الاختبارات أياً كان مؤداها، تستطيع الشركات تمكين موظفيها من اتخاذ قرارات رشيدة من تلقاء أنفسهم وتسريع عمليات الابتكار والتحسينات. لكن إذا تم اتخاذ معظم القرارات بهذه الطريقة، فما الذي يتبقى لكبار القادة، بخلاف تطوير الاتجاه الاستراتيجي للشركة ومعالجة القرارات المصيرية، مثل عمليات الاستحواذ التي يجب إقرارها؟ هناك أربعة أشياء على الأقل:
اختيار تحدٍّ كبير يمكن تقسيمه إلى فرضيات قابلة للاختبار ووضع مقاييس الأداء الرئيسية. فالموظفون بحاجة لمعرفة كيف تدعم تجاربهم هدفاً استراتيجياً عاماً. لنفترض أن كبار قادة Booking.com يتحدون الموظفين لتصميم أفضل تجربة على الإنترنت في هذا القطاع، فقد يتوقعون أن تؤدي التجربة المثلى إلى رفع معدلات زيارة الزبائن للموقع، وبالتالي جذب المزيد من الموردين إلى منصة Booking.com، ما يسهم بدوره في توسيع قاعدة الزبائن وزيادة نشاطاتهم عليها. للتعرف على سبل تحقيق هذا الهدف، يمكن للموظفين وضع فرضيات ومقاييس ذات صلة – كافتراض أن إبراز نص مهم من شأنه أن يزيد من معدلات التحويل عن طريق تسهيل العثور على المعلومات المهمة، وأن خيار إلغاء الحجز "نقرة واحدة، بدون تكلفة" من شأنه أن يعزز معدلات عودة المستخدم دون التسبب في انخفاض حجوزات الفنادق.
وضع الأنظمة وتخصيص الموارد وإعداد التصميمات التنظيمية التي تسمح بإجراء التجارب على نطاق واسع. يتطلب الاختبار العلمي لكل فكرة تقريباً وجود بنية تحتية: من أجهزة وهياكل نقل البيانات وعلماء البيانات. ويمكن الاستعانة بالعديد من الأدوات والخدمات المملوكة لطرف ثالث بغرض تسهيل إجراء التجارب، ولكن لتوسيع نطاق المنهج التجريبي، يجب على كبار القادة دمج إمكانية الاختبار بإحكام في آليات عمل الشركة. يتطلب القيام بذلك تحقيق التوازن السليم بين المركزية واللامركزية.
بالنسبة للمجموعات المركزية، يمكن للأخصائيين المتفرغين، مثل مطوري البرمجيات، ومصممي واجهة المستخدم، ومحللي البيانات إجراء تجارب للشركة بأكملها والتركيز على تقديم أحدث الأساليب والأدوات. لكن إذا اقتصرت الاختبارات على مجموعة صغيرة من المتخصصين، فسيكون من الصعب توسيع نطاق المنهج التجريبي وتغيير ثقافة الشركة. أما في الاختبارات اللامركزية، فتنشر الشركات فرقاً متخصصة عبر وحدات الأعمال المختلفة. في حين أن هذا النهج يوسع نطاق المنهج التجريبي، بحيث يشمل المزيد من أفرع المؤسسة، إلا أنه قد يعيق تبادل المعرفة ويؤدي إلى تعارض الأهداف وضعف التنسيق بين الأخصائيين. قد تكون هناك حاجة إلى تطبيق اللامركزية لتوسيع نطاق مشاركة العاملين في المؤسسة في البداية، ولكن بعد ذلك، يتعين على الشركات الالتفات إلى تحسين قدراتها التجريبية. وهذا ما فعلته شركة Booking.com حينما استخدمت في البداية فرقاً فرعية لنشر التجارب في مختلف أفرع الشركة لكنها اكتشفت انشغالهم المبالغ فيه بدعم المستخدمين، لدرجة أنهم تجاهلوا التركيز عن بناء القدرات على مستوى الشركة. لمعالجة هذه المشكلة والتنسيق بين الفرق بشكل أفضل، انتقلت شركة Booking.com مؤخراً إلى نموذج "مركز التميز" الذي يدعم وحدات العمل، ويوحد المنهج التجريبي للشركة، ويحرص على اعتماد أفضل الممارسات ومتابعتها.
كُن نموذجاً يحتذى به. يجب على القادة أن يطبقوا القواعد ذاتها التي يفرضونها على الغير، وأن يخضعوا أفكارهم للاختبار أيضاً. تقول تانس: "دع عنك الأنا، وإياك والاعتقاد أنك الأكثر دراية ومعرفة. فإذا قلتُ، بصفتي الرئيس التنفيذي، لأي شخص: ’هذا ما أريد منك فعله، لأنني أرى أنه مفيد لشركتنا‘، فسوف ينظر إليَّ الموظف حرفياً ويقول: ’حسناً، لا بأس، سنجربه لمعرفة ما إن كنت محقة‘". يجب على الرؤساء أن يظهروا التواضع الفكري وألا يخافوا من قول، "لا أعرف". ينبغي أن يستجيبوا لنصيحة فرانسيس بيكون، مؤسس المنهج العلمي: "إذا كان الإنسان سيبدأ باليقين، فسوف ينتهي بالشك. أما إذا رضي البدء بالشك، فسوف ينتهي باليقين".
عليك إدراك أن الكلمات وحدها لن تغير السلوك. في النهاية، وجودك كقائد في مؤسسة قائمة على التجريب يعني السماح للموظفين بإجراء اختباراتهم بأنفسهم وتمكينهم من الأدوات اللازمة -وهو ما لا يحدث ببساطة بإخبار الموظفين أن بإمكانهم القيام بذلك، ولكنه يتطلب تضافر الجهود مثلما يحدث في شركة "آي بي إم".
لم يكن التجريب نشاطاً أساسياً في شركة "آي بي إم" حتى عام 2015، حينما عرض قسم تقنية المعلومات إجراء الاختبارات، إلا أنها كانت مكلفة، وتم تحميل التكلفة على وحدات العمل، وكان عليها اتباع عملية صارمة. وكان هناك متخصص واحد فقط يشرف على إجراء الاختبارات، الذي كان يضطلع أيضاً بدور الحارس الأمين الذي رفض العديد من التجارب المقترحة، نظراً لاعتقاده أنها ليست مقنعة بالقدر الكافي. ونتيجة لذلك أجرت الشركة 97 اختباراً فقط هذا العام، قبل أن يتولى آري شينكين، رئيس تحليلات التسويق في شركة "آي بي إم" في ذلك الحين، الإشراف على إجراء التجارب، وبدعم من الرئيس التنفيذي للتسويق، عمل على تمكين أكثر من 5,500 خبير تسويق في جميع أنحاء العالم لإجراء اختباراتهم الخاصة. ولحثهم على تنفيذ هذا المخطط، اتخذ آري شينكين عدة خطوات. فأتاح أدوات سهلة الاستخدام، وأنشأ مركزاً للتميز لتقديم الدعم، واستحدث إطاراً لإجراء التجارب المنضبطة، وأتاح التدريب للجميع، وجعل الاختبارات عبر الإنترنت مجانية لكافة مجموعات الأعمال.
كما دشن أيضاً "حملة اختبارات" أولية اضطرت خلالها وحدات التسويق إلى إجراء 30 تجربة عبر الإنترنت خلال 30 يوماً، ثم عقد بعد ذلك مسابقات ربع سنوية للتجارب الأكثر ابتكاراً أو الأكثر قابلية للتطوير، كما استخدم أساليب أكثر قوة: خصصت "آي بي إم" جزءاً من ميزانيات وحدات التسويق لخطط التجريب، ونجحت هذه الجهود، فبحلول عام 2018 ارتفع عدد الاختبارات السنوية إلى 2,822 اختباراً.
يتطلب تحقيق القدرة التحويلية للتجربة التزاماً مستداماً. وستؤدي التجارب بمرور الوقت إلى آلاف التغييرات الصغيرة وغير الصغيرة التي تولد معاً فوائد ضخمة.
وعلى الرغم من ضرورة توفير الأدوات المناسبة، فإنه أمر بسيط ولا يكفي لجعل التجريب أسلوب حياة، وهو ما عبر عنه فيسمانز بأفضل ما يكون عندما قال: "إذا كانت لدي نصيحة يمكنني إسداؤها إلى الرؤساء التنفيذيين، فهي: التجريب على نطاق واسع ليس أمراً فنياً، بل مسألة ثقافية يجب تقبلها بالكامل. إنك بحاجة إلى توجيه سؤالين مهمين لنفسك: إلى أي مدى أنت على استعداد لقبول أخطائك بصورة يومية؟ وما مدى الاستقلالية التي يمكنك منحها لمن يعملون معك؟ فإذا كانت الإجابة أنك لا تحب ثبوت خطئك، ولا تريد أن يقرر الموظفون مستقبل منتجاتك، فلن ينجح الأمر، ولن تجني فوائد التجريب الكاملة".
والدرس المستفاد هو أن نجاح أو إخفاق تجربة واحدة ليس مهماً، المهم هو كيفية الفصل في القرارات في ظل عدم اليقين في المؤسسة. يجب ألا تستند إلى الثقة أو الرأي الشخصي وحده، فإذا أمكن إخضاعهما للاختبار، فلا بد من حدوث ذلك.