أين هن رائدات الأعمال؟ وكيف بالإمكان الحيلولة دون انسحاب المرأة من ريادة الأعمال؟
نحن بحاجة إلى مفكرين مبتكرين يمتلكون عقلية ريادية لطرح حلول استيعابية قادرة على تحويل اقتصاداتنا إلى آليات أكثر قدرة على التحمل وأكثر استدامة، خاصة أن تحفيز التفكير والسلوك الريادي أصبح على رأس جدول أعمال صانعي السياسات في مختلف أنحاء العالم بعد فترتين من الانكماش الاقتصادي أعقبتا الأزمة المالية وجائحة "كوفيد-19". ويتضح هذا الاتجاه جلياً من واقع العدد الهائل للمشاريع البحثية حول هذا الموضوع تحت مظلة المفوضية الأوروبية وحملة "ريادة الأعمال والابتكار للجميع" (Mass Entrepreneurship and Innovation) التي جرى تدشينها مؤخراً في الصين، وفي ظل ازدهار منظومة رأس المال المغامر (الجريء) المدعومة من الحكومات في منطقة الشرق الأوسط. وقد بات انتشار الوعي بالإسهامات الاقتصادية والاجتماعية المحتملة لريادة الأعمال واقعاً ملموساً حتى في إفريقيا، على الرغم من الافتقار إلى البنى التحتية المؤسسية الداعمة في كثير من الأحيان.
ومع ذلك، لا يزال تمثيل المرأة هزيلاً إلى حد كبير في أنشطة ريادة الأعمال في معظم الاقتصادات باستثناءات قليلة هنا وهناك وبعض نماذج النجاح المشرّف ولكن على استحياء. تثير هذه المعضلة موجة من الاعتراضات الأخلاقية (بخصوص التكافؤ بين الجنسين وقضية التحرر) والمخاوف العملية حيال عدم سد فجوة التفاوت بين الجنسين الذي قد يكلف الاقتصاد العالمي 5 تريليونات دولار أميركي. وفي حين أن معظم عوامل الشد والجذب أو العوائق التي تقف في طريق ريادة الأعمال النسائية تختلف إلى حد كبير من سياق لآخر، فهناك عائق مشترك بين كل السياقات، ألا وهو الصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال. حيث تسهم هذه الصور النمطية التقليدية في جعل المواقف البطولية حكراً على الرجال، وهو ما يسفر في الغالب عن انتقاص النساء من قدرهن كرائدات أعمال "حقيقيات" أو ناجحات، في حين أن المستثمرين يركزون على المخاطر أكثر من الفوائد المحتملة وينتهي بهم الأمر بتقديم تمويل ضئيل. وهكذا، يؤدي هذا العائق المعرفي إلى قتل نوايا المرأة في اقتحام عالم ريادة الأعمال ويعرقل نمو مشاريعها الجديدة، سواء في الدول النامية، مثل الهند أو باكستان أو الدول المتقدمة، مثل فنلندا أو الولايات المتحدة.
هل سيتمكن التعليم الريادي من جذب النساء؟
هل يمكن لتعليم ريادة الأعمال أن يحد على الأقل من الأثر الهدّام للصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال من ناحية، ويغذي دافعية المرأة ويشجعها من ناحية أخرى على اقتحام عالم ريادة الأعمال؟ لاحظت خلال التحضير لمشروع بحثي حول هذا الموضوع أن التناقض كان السمة الأساسية التي تعتري إسهام تعليم ريادة الأعمال حتى الآن، حيث تشير بعض الدراسات إلى آثارها الإيجابية، ويشير بعضها الآخر إلى انعدام آثارها على الإطلاق، فيما يبين بعضها أنها حققت آثاراً سلبية على المرأة. علاوة على ذلك، فقد استند الكثير من هذه الدراسات إلى قياس الأثر لمرة واحدة بعد انتهاء كل دورة تعليمية (وهو مقياس غير مثالي لتقييم الأثر) وكانت جميعها محدودة النطاق للغاية وتركّز على نوع واحد محدد من الطلاب من الجنسية نفسها في مؤسسة واحدة (ما يقلل من صلاحية تعميمها).
وحينما طالعت الدراسات السابقة للتعرّف على ما يحدث تجاه الصور النمطية لريادة الأعمال خلال دورات ريادة الأعمال، وجدت احتمالين متناقضين تماماً. فقد يؤدي تعليم ريادة الأعمال من ناحية إلى استنساخ الصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال أو تعزيزها بقوة، لا سيما عندما تقدم الدورة للطالبات صورة ذهنية عن ريادة الأعمال لا تتناسب مع شخصية المرأة. وقد تسهم الدورة من ناحية أخرى في التخفيف من أثر الصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال من خلال رفع مستوى وعي الطالبات بالحوافز الاجتماعية والاقتصادية الملموسة وغيرها من الحوافز السياسية والقانونية لريادة الأعمال النسائية خارج جدران الجامعة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقائمين على تعليم ريادة الأعمال استهداف الصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال مباشرة من خلال تصميم محتوى المناهج التعليمية بطريقة ترسم صورة أكثر شمولاً لريادة الأعمال. وأخيراً، يبدو أن التنبؤ بتأثير تعليم ريادة الأعمال على نوايا الطالبات وسلوكياتهن الريادية يخضع لمزيج معقد من العوامل التعليمية والسياقية. ومن هنا كان من المنطقي أن أدرس تأثير تعليم ريادة الأعمال على مستوى كل حالة على حدة، ثم ربط النتائج بمجريات الأحداث خارج أُطر الدورات التدريبية.
النتائج في دولة الإمارات العربية المتحدة
كنت أعمل آنذاك في الحرم الجامعي لـ "جامعة أبوظبي" في العين بدولة الإمارات العربية المتحدة. ويعتبر هذا السياق مثيراً للاهتمام بشدة فيما يخص ريادة الأعمال النسائية، حيث تشير إحصاءات 2017-2018 إلى أن المرأة لا تسهم إلا بنسبة 5.6% فقط من أصحاب الشركات القائمة وبنسبة 9.0% من عدد البالغين الذين أسسوا عملاً تجارياً خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية (شهدت هذه المعدلات ارتفاعاً بنسب كبيرة، ولكن دون أن تصل إلى 50%، وفقاً لما ورد في تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال لعام 2019/2020). كما أن عدد الوافدين يفوق عدد الإماراتيين بنسبة 9 إلى 1، وينحدر معظم المقيمين من ثقافات مختلفة ولا يزالون متمسكين على الأرجح بقيمهم التقليدية. وقد أكدت دراسة استندت إلى مقابلات شخصية مع رائدات أعمال في الإمارات استمرار وجود الصور النمطية التقليدية للفوارق بين الرجل والمرأة. وأخيراً، كانت الإمارات إبان الدراسة لا تزال تطبق نظاماً قانونياً يستند بقوة إلى القيم الأبوية. وكانت دولة الإمارات من ناحية أخرى لا تزال في طور الإسراع بدخول عصر الحداثة من خلال طرح عدد من الإصلاحات التشريعية لتنفيذ رؤى طموحة، مثل الاستراتيجية الوطنية للابتكار التي "تسعى جاهدة إلى غرس ثقافة ريادة الأعمال في المدارس والجامعات لتنشئة أجيال تمتلك القدرات القيادية والإبداعية، وتتحلى بروح المسؤولية والطموح". وتعد بيئة الابتكار وريادة الأعمال بيئة خصبة نظراً لضخامة القطاع الخاص الموجود فيها واتصافه بالعالمية، ووفرة حاضنات الأعمال ورؤوس الأموال المغامرة (الجريئة)، إضافة إلى قوة الحوافز الحكومية لتعزيز مشاركة المرأة في قوة العمل بصورة عامة وتطوير أفكار ومشاريع جديدة على وجه الخصوص. فهل سيكون لتعليم ريادة الأعمال في هذا السياق تحديداً أثر إيجابي أم سلبي على نوايا ريادة الأعمال لدى الطالبات؟
تواصلت مع زملائي داخل الجامعة وخارجها، حتى وجدت 7 أساتذة جامعيين متخصصين في ريادة أعمال بجامعات مختلفة أبدوا استعدادهم لدعوة طلابهم للمشاركة في المشروع البحثي. ووجّهنا الدعوة أيضاً إلى عدد من الزملاء الذين يدرّسون مجموعة مواد مختلفة لطلاب تنطبق عليهم المواصفات نفسها للمشاركة كمجموعات ضبط. وكانت المحصلة النهائية مشاركة 246 طالباً وطالبة في بداية الدورة ونهايتها. وبعد جمع البيانات، انضمت الأستاذة صوفيا بلغيتي-ماهوت، زميلتي آنذاك والباحثة المتمرسة في مجال التكافؤ بين الجنسين، إلى المشروع لمعالجة النتائج والمساعدة في تحليلها. وتوصلنا إلى نتائج محبطة وواعدة في الوقت نفسه.
وكان مبعث الإحباط أننا وجدنا أن الطلاب الذكور لا يزالون أكثر تطلعاً لاقتحام عالم ريادة الأعمال مقارنة بزملائهم من الطالبات، على الرغم من كل التقدم المحرز مؤخراً. كانت هذه النتيجة تنطبق على العينة البحثية كلها (طلاب ريادة الأعمال وغيرهم)، وحتى بالنسبة لطلاب ريادة الأعمال بصورة منفصلة (بينما أخذ الكثير من الطلاب هذه الدورة التدريبية كمقرر اختياري). وكانت النتائج واعدة لأننا أثبتنا أن نوايا كل الطلاب والطالبات الريادية قد شهدت طفرة كبيرة وأن الفارق بين الجنسين قد اختفى بنهاية الدورة، فقد شهدت النوايا الريادية لطالبات ريادة الأعمال طفرة كبيرة مقارنة بنظرائهن من الذكور.
المضي قدماً
باختصار، أسهمت دورات ريادة الأعمال المقدمة للمشاركين في عينتنا البحثية في تحقيق طموحات حكومة الإمارات من حيث تحفيز العقلية الريادية بين كافة الطلاب وتمكين جيل المستقبل من رائدات الأعمال. وعلى الرغم من ضرورة إجراء المزيد من الدراسات في المستقبل التي يفضّل أن تُجرى بمنهج التحليل الطولي المقارن والمختلط لإلقاء مزيد من الضوء على سبل تحقيق هذه الغاية (من خلال الإجابة عن السؤال التالي: ما المحتوى والتقنيات التعليمية الأكثر فاعلية؟)، فإن هذه النتائج الإيجابية تدعم التوجهات الحكومية التي تهيب بكل جامعات الإمارات العربية المتحدة دمج ريادة الأعمال في المناهج التعليمية لكافة الطلاب بكل تخصصاتهم.
ثمة ملحوظة أخيرة غاية في الأهمية، وهي أن الكثير من الجامعات في دولة الإمارات تواصل تقديم دورات أخرى في ريادة الأعمال كمقررات اختيارية، على الرغم من الخطوات المتخذة من قبل الحكومة لدمج ريادة الأعمال في المناهج الدراسية الأساسية للجامعات العامة والخاصة من خلال مبادرة وطنية على مستوى الدولة أسعدني الحظ بالمشاركة فيها منذ البداية. علاوة على ذلك، يشهد مختلف ربوع العالم موجة عارمة من المبادرات الهادفة للربح وغير الهادفة للربح والتي يتم تقديمها عموماً على أساس تطوعي لتدريب جيل المستقبل من رواد الأعمال المحتملين أو توجيههم، لكن الصور النمطية الذكورية لريادة الأعمال وغيرها من العوائق الثقافية والاقتصادية تظل حجر عثرة حقيقياً يؤثر بالسلب على إقبال الإناث على الالتحاق بهذه الدورات في المقام الأول. وإذا لم تُبذل جهود إضافية تركّز على إلحاق مرشحات من الإناث بهذه الدورات، أو جعل التحاقهن إلزامياً بصورة مباشرة، فلن يجدي تقديم المزيد من البرامج أو الدورات التدريبية نفعاً بكل بساطة في سد هذا التفاوت بين الجنسين والحيلولة دون انسحاب المرأة من ريادة الأعمال.