قصة شركة بيروفية للملابس تواجه مصاعب كبيرة في إثبات نفسها أمام شركة عالميّة مشهورة.
"لست مرتاحة حيال الاستماع للآخرين بهذا الشكل"! هذا ما قالته أليخاندرا كيرينوس لريكاردو رودريغيز، نائبها في مجال التسويق، ولميغيل مارتينيز، رئيس قسم المبيعات في شركتها. لقد كانوا ثلاثتهم في غرفة اجتماعات في مدينة ليما عاصمة البيرو، يشاهدون جلسة مجموعة تركيز في مدينة سَري في إنجلترا عبر سكايب، وكانت هذه المجموعة تتباحث حول معاطف البونشو التقليدية التي تصممها وتصنعها شركة تيلا التي أنشأتها اليخاندرا قبل خمس سنوات.
أجاب ريكاردو قائلاً: "إنّهم يعرفون أنّهم مراقبون"، وقد أيّدته في رأيه سوليداد أوريلانا، استشارية الأبحاث التسويقية التي قامت بترتيب تلك الجلسة، وقالت: "هنالك كاميرات في كل زاوية من زوايا الغرفة".
كانت تلك جلسة التركيز الأولى لأليخاندرا، وكانت قد وافقت على المشاركة بها لأنّ سوليداد وريكاردو أقنعاها بأن شركة تيلا في حاجة إلى نقلة جديدة على مستوى التسويق، إن كانت عازمة على المنافسة على الساحة العالمية ضد شركة إنتاج المعاطف الأمريكية (سايرا). كانت شركة تيلا تصنع المعاطف في البيرو وتستخدم موادّ محليّة معتمدة على أساليب مستدامة في التصنيع، بينما كانت شركة سايرا تصنع معاطفها في بنغلادش من موادّ أرخص مستخدمة فقط وسم "تصميم البيرو". ولكن شركة سايرا أقدم بعدة سنوات من تيلا وقد استحوذت بسرعة على 60% من حصة السوق في بيع هذا النوع من المعاطف في أوروبا الغربية والأمريكيتين، بل وفي كل دولة من دول أمريكا الجنوبية، باستثناء البيرو. وقد كان ذلك بشكل أساسي عائداً إلى نموذج "اشترِ معطفاً وامنح آخر" وهو نموذج ذكي مدعوم بجهد تسويقي ضخم، شبيه بما تفعله شركة تومز للأحذية وشركة واربي باركر للنظارات، حيث تقوم شركة سايرا بالتبرّع بمعطف واحد للمحتاجين مقابل كل معطف يشتريه الزبون.
لشركة تيلا كذلك جهود على مستوى المسؤولية الاجتماعية، إذ كانت تستخدم نسّاجين تقليديين كما وضعت برامج لتعليم حرفة النسج التقليدي للنساء من المناطق الأقل حظّاً. وبالإضافة إلى كون معطف البونشو الذي تنتجه الشركة بيروفياً أصلياً، فإنّه كان يباع بسعر يتراوح بين 40 إلى 70 دولاراً، أمّا شركة سايرا فتبيع المعطف بسعر يتراوح بين 60 و100 دولار. لم تتمكّن شركة تيلا من توضيح هذه الصورة خارج سوقها المحليّ، كما أنّ البيرو صغيرة ولا توفّر مساحة للنموّ المتواصل.
كان ريكاردو، ابن العاصمة البيروفية ليما، يرأس قسم التسويق لمنطقة أمريكا الجنوبيّة في شركة سايرا، ثم قرر ترك عمله في مكتب الشركة في ساو باولو ليساعد أليخاندرا على تحسين الوضع التنافسي لعلامتها التجارية. لقد كانت أليخاندرا في غاية الحماسة حين عثرت على شخص بهذه الخبرة، عداك عن القاسم المشترك بينهما من الحبّ لهذا المنتج وللبيرو. لقد قرر الاثنان معاً استثمار مبلغ كبير من الميزانية المخصصة للتسويق لديهم للدخول في مشروع مشترك مع شركة سوليداد لتطوير وتجريب عدد من رسائل التسويق في عدد من الأسواق التي تستهدف الشركة التوسع فيها، كالمملكة المتحدة.
ظهرت على الشاشة منسقة بريطانية تقف أمام عشرة بريطانيين آخرين تقول لهم: "لو طُلب منكم استخدام كلمة واحدة لوصف معاطف البونشو التي بين أيديكم فماذا ستكون هذه الكلمة؟".
فقالت امرأة ذات شعر صبغ باللون الأحمر: "ناعم"، وقالت سيّدة كبيرة ثانية: "البيرو"، ثم قال رجل ثبّت قرطاً على أنفه: "أصليّ". ثم قال شابّ يجلس في المؤخّرة: "أعرف أنّ هذه ليست كلمة واحدة، ولكن أريد أن أسأل سؤالاً: "أليس هذا المعطف مماثلاً لما تصنعه شركة سايرا؟ ولكن بوسم مختلف؟"
قطّب ريكاردو جيبنه، وقال: "أخ، هذا مؤلم". لقد أدرك ريكاردو أنّ التبرعات التي كانت تقوم بها سايرا لم تكن سوى حيلة تسويقية، وضعت خصيصاً للفت الانتباه بعيداً عن حقيقة أنّ أسعار منتجاتها لا تتوافق مع جودتها.
ردّ ميغيل قائلاً: "ليس هذا بالأمر السيئ. إن كان الزبائن لا يرون فرقاً بين منتجاتنا ومنتجات سايرا إلا في تدنّي أسعار منتجاتنا، فسيكون من السهل حينها أن نسيطر على حصتها من السوق".
لقد كان ذلك جدلاً متواصلاً بين الرجلين: هل يجب على شركة تيلا أن تركّز رسالتها على جودة وأصالة منتجاتها، أم على الأسعار المعقولة لهذه المنتجات؟ لطالما آمنت اليخاندرا بضرورة أن تقوم الشركة بالتأكيد على مسؤوليتها الاجتماعية، حتّى إن كانت تشعر بالغيظ من تلك الصورة التي تشكّلت عن شركة سايرا بأنّها المتربّعة على عرش "فعل الخير" بين شركات صناعة البونشو قبل أن تتمكّن شركة تيلا من فرض حضورها. أمّا زملاؤها وسوليداد فقد اتفقوا على أنّ الشركة في حاجة إلى قصّة واحدة بسيطة لتقديمها للزبائن حول العالم. لقد أتت شركة سايرا بنموذج "اشتر معطفاً وامنح آخر"، فماذا كان لدى العلامة التجارية لشركة تيلا؟
تدخّلت اليخاندرا وقالت: "نحن لسنا هنا كي نعيد الحديث في جدالات قديمة، ثم نظرت إلى الشاشة وقالت: "دعونا نستمع إلى ما يقوله هؤلاء الناس".
المهمّة الاجتماعية
سوليداد وريكاردو ابتكرا أربعة مفاهيم ويرغبان باختبارها. المفهوم الأول يركّز على دعم شركة تيلا لروّاد الأعمال والعمّال المحليين في البيرو، والثاني يتعلق بالمنتجات الأصليّة المنتجة في البيرو، والثالث هو ما يتعلّق بالسعر، أمّا الرابع فهو توليفة من المفاهيم الثلاثة السابقة جميعاً.
حين قرأتْ منسّقة الجلسة العبارات التوصيفيّة الأساسيّة للمفهوم الأول: "اهتمام شركة تيلا لا ينحصر بالموضة وحسب، بل اهتمامها يتعلّق بنموذج للحياة" و "معاطف البونشو التي نصنعها تمنحك الدفء وتمنح رائدات العمل الفرصة للاستمرار في العمل" هزّ الكثير من الحاضرين في جلسة التركيز رؤوسهم مؤيّدين لما ذكرته.
قالت المرأة ذات الشعر الأحمر أنها تحاول شراء منتجات من شركات تتحلى بالمسؤولية الاجتماعية، ووافقها ذلك الشابّ على ضرورة أن تدعم كل شركة قضيّة ما.
ابتسمت اليخاندرا وقالت: "انظروا، قلت لكم إنّ مهمّة الشركة الاجتماعية أمرٌ مهمّ، لعل رأيي هو الأسلم" ناسيةً أنّها طلبت من زملائها للتوّ أن ينصتوا.
فقالت سوليداد محذّرة: "لا تتعجّلي، لم ينته الحديث بعد".
وجد ريكاردو فرصة سانحةً ليعود إلى الحوار، وقال: "لكن يبدو مع الأسف أنّ شركة ساير هي المسيطرة في هذا المجال"، فأجابت اليخاندرا: "صحيح، ولكن هذا مجالنا أيضاً. لقد أنشأت هذه الشركة كي أمنح البيروفيين الذين يعملون لديّ وظائف ثابتة ذات دخل جيّد، وكي أساعد في تطوير طبقة جديدة من روّاد الأعمال".
فقال ريكاردو: "لستِ في حاجة كي تقنعيني بأنّ ما نفعله هو أكثر فعالية وأهمية مما تقوم به شركة سايرا، فهم يقدمون التبرعات، ونحن نخلق فرص عمل ونطور الاقتصاد. ولكنّهم سبقونا في تسويق مهمّتهم الاجتماعية وتفوقوا علينا في ذلك. ليس في وسعنا المنافسة هنا، لأننا سنظهر كأننا مقلدون، وهذا ينقل صورة تزيد الأمور تعقيداً".
قالت سوليداد: "ولكن ما زال في الإمكان أن نحذو حذوهم في التسويق، فالعديد من الشركات الصغيرة قد حققت النموّ باتّباع نماذج الشركات الأكبر".
في الوقت ذاته عاد الرجل الذي تكلّم عن الشركة المنافسة إلى الحديث عنها مجدّداً وكأنّ الأمر مرتّب مسبقاً وقال: "أعتقد أنّ العمل الخيريّ هو الذي جعل سايرا تحقق هذا النموّ الكبير في المملكة المتحدة. فحين تشتري أنت معطف بونشو لنفسك، فإنّك بكل بساطة تساعد شخصاً آخر محتاجاً ليحصل على معطف. أنا مهتمّ بالتأكيد بمساعدة عمّال النسيج وتحسين اقتصاد البيرو، ولكن فكرة تقديم معطف لطفل صغير لتقيه من البرد، تبقى أقوى تأثيراً في الناس."
ألقى ريكاردو على أليخاندرا نظرة انتصار وكأنّه يقول لها: "ألم أقل لكم ذلك؟".
الأصالة
انتقلت منسّقة جلسة مجموعة التركيز إلى الفكرة التالية، وهي تموضع شركة تيلا لتكون الشركة التي تصنع "معاطف البونشو البيروفيّة الأصليّة" مع التركيز على الأصالة والحرفة التي ترتبط بأصحابها الأصليين.
وحين انتهت من قراءة العبارات الوصفيّة المختصرة لمفهوم الأصالة، بدأت امرأة شابّة بالحديث وقالت: "أنا لا أفهم الفرق بالضبط. أعرف مثلاً أن المعاطف غير الأصليّة التي تصنعها شركة تيسكو الأميركية ليست مصنوعة في البيرو، أمّا معاطف سايرا فليست كذلك، صحيح؟"
صاح ريكاردو: "خطأ!".
شرعت المنسّقة بتوضيح الفرق بين سلسلتي التوريد في كلا الشركتين، وتحمّس ريكاردو وقال: "لقد أخبرتكم، لا يمكن أن نتغلّب على سايرا إلا من هذه الناحية. الناس الذين يشترون معاطف البونشو يريدون أن يعرفوا أنّهم يحصلون على المعاطف الأصلية، وأنا أعرف أن زملائي القدامى هناك مذعورون من فكرة أن يأتي أحدهم ويكشف أنّ منتجهم ليس إلا تقليداً للمعطف البيروفي الأصلي".
هزّ ميغيل رأسه وقال: "هل تعتقد حقاً أنّ هؤلاء النّاس يضيّعون الوقت في القلق منّا؟ إنّهم يركّزون كل جهودهم للحفاظ على سيطرتهم على السوق عالمياً. ثم ما الذي تقترحه أنت؟ هل نصبح في موقع هجوم ضدّهم؟ هل تريدنا أن نتهم شركة سايرا بالاستيلاء على ثقافة الآخرين؟ إنّ هذا لن يؤثر سلباً على علامتنا التجارية وحسب، بل سيبدو الأمر أشبه بنملة تحاول ضرب اصبع فيل!".
طلبت أليخاندرا منهم الصمت. لقد عاد ذلك الرجل المعجب بسايرا للحديث مجدداً، وبدأت تشكّ أنّه كان يعمل في الشركة في السابق، وسأل: "ما المشكلة إن كانت المعاطف تصنع في مكان آخر ما دامت الجودة عالية والزبون عند شراء المنتج يساهم في كسوة الآخرين؟".
قال الرجل الذي يضع قرطاً على أنفه: "أنا أجد مشكلة في ذلك".
صاح ريكاردو "يا سلام!"، محركاً قبضة يده وكأنّه أمام مباراة كرة قدم لا جلسة مجموعة تركيز.
قالت المرأة ذات الشعر الأحمر: "ليست هنالك مشكلة في ذلك، ولا أرى أنّ سايرا تكذب في شيء. فهم أخذوا تصميم معطفٍ من البيرو، ويصنّعونه في بنغلادش- والناس هناك في حاجة للعمل أيضاً بالمناسبة".
همس بعض المشاركين في الجلسة معبّرين عن تأييدهم لهذا الرأي، وهذا مّا أزعج ريكاردو.
السعر المناسب
انتقلت منسقة الجلسة إلى الموضوع الثالث الذي يندرج تحته عنوانان: "الموضة بالسعر المناسب" و "معطف البانشو لعامّة الناس".
بدا ميغيل أكثر انتباهاً الآن، وقال لريكاردو: "لو كانت هناك نقطة ضعف لشركة سايرا فستكون هي هذه النقطة. قد يقول الزبائن إنهم يهتمّون بمعرفة المسؤولية الاجتماعية للشركة التي يشترون منها أو أصالة المنتج، ولكن أكثر ما يهمّهم هو السعر الجيّد".
وقالت سوليداد: "سنجد هنا أنّ حجم شركة سايرا قد يكون في مصلحتك، فهم قد تمكّنوا من تنمية الطلب على المعاطف، ولذا سيكون في إمكانك أن تدخل إلى السوق لتكسب شريحة الزبائن الذين يهتمّون للسعر دون أن تضطر لإنفاق الكثير من المال".
فقال ميغيل: "وأنتم طبعاً تعرفون أنّه ليس لدينا الكثير لننفقه أصلاً". ثم جاء السؤال من ريكاردو: "ولكن ما الذي سيحدثه وجود فرق في السعر بقيمة عشرين دولاراً؟" فأجابته سوليداد: "علينا أن نتابع لنعرف ذلك"، وأشارت إلى الشاشة.
كان الرجل صاحب القرط يتكلم ويقول: "انتظر قليلاً، كيف يمكن لشركة تيلا أن تحافظ على جودة مماثلة لجودة معاطف سايرا بسعر أقل؟ فإن كانت المعاطف تباع بسعر رخيص هكذا، فكيف يكسب العمّال في الشركة ما يكفي من المال؟"
فأجاب ميغيل متمتماً: "ذلك لأننا لا نبالغ في تسعيرها". وقال ريكاردو: "يبدو أنّ الناس لا يدركون حقاً أنّ نموذج "اشتر معطفاً وامنح آخر" يعني أنّ المستهلكين في واقع الأمر يدفعون ثمن معطفين!
وهنا بدا التوافق واضحاً بين رأي ميغيل وريكاردو.
أبدت السيدة الكبيرة ميلها لهذه النقطة وقالت: "معطف سايرا موجّه للشباب، أمّا أنا فأعيش على راتبي التقاعديّ، وعليّ أن أحرص على الحصول على أفضل سعر ممكن".
صمت الشاب صاحب القرط لوهلة ثم قال: "ما زلت غير مقتنع بهذا الأمر، هنالك شيء غريب".
غطّى ميغيل وجهه بكفّيه، وقالت سوليداد: "هذه إحدى المخاطر المتعلقة بإستراتيجية التقليد السريع، فالمستهلكون عادة يفترضون أنّ المنتج الأدنى سعراً هو بالضرورة أدنى جودة".
فردّ ريكاردو: "لذلك علينا أن نركّز على الأصالة، فعلى الناس أن يعرفوا أنّ منتجنا هو المنتج الأصليّ".
فقالت سوليداد: "لم ينته الحديث بعد".
هل نبحث عن مزيجٍ ما؟
حين انتقلت منسقة الجلسة للحديث عن المحور الأخير، والذي يقترح الجمع بين جميع المفاهيم والمواقف التي سبق الحديث عنها قال ميغيل: "لا أدري ما الحاجة أصلاً للحديث في هذا المحور!".
أدركت أليخاندرا أنّهم فعلوا ذلك إرضاءً لها وحسب، ولكنّها في الوقت ذاته لم تستطع مقاومة ذلك الشعور بأنّ الفكرة الأكثر تعقيداً هي عادة الأكثر صحّة. لقد جمعت شركة تيلا بين عدّة أمور في آنٍ معاً، فهي تقدّم معطف البونشو الأصليّ المصنوع في البيرو، وأنّها تسعى لتحسين أوضاع النساء العاملات وأسرهنّ، كما أنّ سعر المعطف الذي تقدّمه مناسب للناس. فشركة تيلا قدّمت هذا كلّه، وكانت أليخاندرا ترغب في أن يدرك الناس هذه الحقيقة.
قرأت منسقة الجلسة الجمل الإعلانية (taglines): "صناعة محليّة ذات مسؤولية اجتماعيّة وسعر مناسب للجميع"، "المنتج الأصلي بالسعر المناسب"، "ادعم منتجات البيرو المحليّة وساهم في إعمارها".
سيطرت حالة طويلة من الصمت على الجميع في كلتا الغرفتين.
قال ريكاردو: "اعذريني يا أليخاندرا، ولكنّ هذا يبدو محيّراً".
بعد عدة ثوانٍ قال الرجل صاحب القرط المعلق على أنفه: "ما زلت لا أفهم، ما هي العلامة التجارية؟"
وأضافت المرأة ذات الشعر الأحمر: "هل تدمج هذه الجمل الإعلانية بين المفاهيم السابقة جميعها؟"
تنهّدت أليخاندرا، وبدا وكأنّ سوليداد والآخرون كانوا محقّين.
أعلنت المنسّقة ختام الجلسة، وبدأ المشاركون بالخروج من القاعة، ولوّحوا للكاميرا مودّعين. وحين أغلقت الشاشة، انطلقت سوليداد في الحديث قائلة: "لقد قلت لكم مراراً إنّ القرار ليس مرتبطاً بالمستهلك بشكل حصريّ. صحيحٌ أنّ المشاركين كانوا ميّالين للتأثر بالمهمّة الاجتماعيّة، ولكن لديّ بعض التحفّظات بخصوص هذا التوجّه. إنّ بناء العلامة التجاريّة أشبه بمحاولة شراء عقار في ذهن العميل، ولا أدري إن كنتم حقاً راغبين في أن نهدر الوقت والمصادر التي لدينا كي نتفوّق على سايرا في مساحة سبقتنا في السيطرة عليها. لعلّه من الأفضل أن تجدوا مساحة أخرى شاغرة، وعليكم أن تعلموا في نهاية المطاف أنّكم بحاجة لرسالة مناسبة لتموضع شركة تيلا".
لم تتمالك أليخاندرا نفسها وانطلقت تقول ضاحكة: "ولكن ليس ثمّة ما هو مناسب في كلّ ما سبق".
لم تكن أليخاندرا جادّة، ولكنها لم تعرف إن كان بإمكانهم حلّ هذه القضيّة. فريكاردو صاحب خبرة طويلة في هذا المجال، ولكنّها كانت خائفة من أن يكون حكمه مدفوعاً برغبته في الإضرار بالشركة التي كان يعمل بها في السابق. بينما عمل ميغيل مع شركة تيلا منذ البداية، ولكنّه كان يتصرّف بالطريقة المتوقّعة من أي شخص يعمل في المبيعات. أمّا حدس أليخاندرا الشخصي فقد كان يخبرها بضرورة تعزيز المهمّة حتى لو كان هذا يتطلّب خوض معركة شرسة.
قالت سوليداد بابتسامة متفهّمة: "الأمر ليس سهلاً، فأنتم تحاولون تحديد روح الشركة".
فأجابت أليخاندرا: "أو ما سنقول للناس أنه روح شركتنا، فأنا لا أريد أن نغيّب حقيقة ما نمثّله وراء رسالة ما فقط لأنّ بيانها أكثر سهولة".
رأي الخبراء
المستهلك قادر على تقدير الرسائل غير المباشرة.
مارك رامبولا هو شريك في شركة باوربلانت فينتشرز، وهي صندوق استثمار يركّز على إعادة تشكيل نظام الغذاء العالمي. رامبولا هو المؤسس والرئيس التنفيذي السابق في شركة زيكو المتخصصة في تعليب ماء جوز الهند.
لقد قُدّم لأليخاندرا خيار خاطئ. صحيحٌ أنّ تحديد التموضع الصحيح أمرٌ في غاية الأهمّية، خاصة لشركة صغيرة تواجه معضلة جدّية فيما يتعلّق بوضعها التنافسيّ، وصحيحٌ أنّه من المهمّ وضع رسالة واضحة ومبسّطة، وصحيحٌ أنّ ثمّة فرصة واحدة للاستحواذ على جزء من أذهان المستهلكين. ولكنّ العلامات التجاريّة، كما هي حال شؤون الحياة الأخرى، لا يمكن أن تحدّد بقوالب جاهزة ومرتّبة. فعالم الأعمال سيكون دوماً أعمق وأوسع من أن تستوعبه جملة دعائيّة واحدة. على أليخاندرا بدل انشغالها باختيار جملة قد لا تشعر بالارتياح حيالها أن تحدد المهمّة التي تسعى لأن تكون الرائدة فيها.
يؤسفني القول أن العمليّة التي تتبعها شركة تيلا لن تحقق لها ذلك. فالمجموعة تحتاج إلى السيطرة على بعض الأمور في البداية. فيجدر بأليخاندرا إنفاق المبلغ المتواضع الذي لديها لدعم الأبحاث الداخلية في الشركة. فبدل الاستفسار عن الطريقة التي يرى بها المستهلك العلامة التجارية، فإنّ على الشركة طرح أسئلة أخرى من قبيل: من هي أليخاندرا؟ لماذا أنشأت هذه الشركة؟ ما القيم التي تؤمن بها وما هي اهتماماتها الشخصية؟ ما الذي تحاول أليخاندرا تحقيقه من خلال الشركة؟ إنّ الحصّة التي تمتلكها الشركة في السوق أمر مهمّ ولكنّه لا يمكن أن يكون هو الهدف بذاته. هل تيلا حريصة على تقديم الرواتب التي توفّر الحياة الكريمة؟ كم عدد النساء العاملات اللواتي حقّقن التمكين من خلال العمل مع الشركة؟ بوسع هذه الأسئلة مساعدة الشركة على الوصول إلى حقيقة ما تريده أليخاندرا، وما تمثّله شركة تيلا، وبالتالي سيقود ذلك إلى معرفة المعيار الذي يحدّد النجاح فيها.
وحين تفرغ المجموعة من هذه الأبحاث الداخليّة ستتمكّن بعد ذلك من النظر فيما هو خارج الشركة، ليس على مستوى المستهلكين وحسب بل وعلى مستوى الباعة، والمزوّدين، وحتّى عمّال النسيج، للوقوف على آرائهم ومناقشتها.
خلال السنوات التسعة التي أدرت فيها شركة زيكو كان لدينا ثلاث أو أربع عبارات لتموضع علامتنا التجارية، ولكنّها جميعها كانت ترتبط في المحصّلة بالمهمّة الاجتماعية للشركة. لقد كانت هذه هي نقطة انطلاقنا الأساسية: لقد أردنا أن نرى الناس يشربون شيئاً مفيداً لصحّتهم، في عالم يعجّ بالمشروبات المليئة بالسكّر. لقد قمنا بدايةً بموضعة زيكو كمشروب مناسب بعد أداء تمرينات اليوغا. لقد كان الخيار ضيّقاً جدّاً، ولكن كان في وسعنا الوصول إلى قاعدة أوسع من المستهلكين من خلال ذلك المجتمع المهتمّ بممارسة اليوغا. ثمّ توسّعنا وبتنا نستهدف الأشخاص الذين يمارسون رياضات التحمّل وغيرهم من الرياضيين. ولكنّا في نهاية المطاف كنّا نرجع إلى مهمّتنا المتمثّلة في تعزيز نمط حياة صحّي لمستهلكي منتجاتنا، وفريق عملنا، والناس في المجتمعات التي نأخذ منها ماء جوز الهند.
فعلى شركة تيلا أن تتقبّل حدوث تغيّر في رسالتها مع مضيّ الوقت، وعليها في الوقت ذاته أن ترجع إلى المهمّة الأساسية التي تمثّل روح الشركة: تحقيق أثر عميق ومستدام على البيرو وشعبها. من الممكن نقل هذه الرسالة مع الإشارة إلى أنّ المنتج في الوقت ذاته معقول السعر وأنّه أصليّ.
كذلك يجب ألا تستهين سوليداد بالمستهلك، فهو قادر عادة على فهم وتقدير الرسائل غير المباشرة: فلم يعد هنالك وجود الآن للاختيار بين أن يكون المنتج جيّد السعر، أو أن يكون أصلياً، أو أن يحقّق المسؤولية الاجتماعية. وفي حين أنّ وضع رسالة لطيفة تحمل عدّة أوجه في آنٍ معاً أمرٌ صعب، إلا أنّه ليس بمستحيل. وهذا هو الهدف الذي يجب على المجموعة أن تضعه نصب عينيها: أن تجد عبارة تموضع تشتمل على جميع الأمور التي تهتمّ بها أليخاندرا وفريقها. قد تكون هذه العبارة مثلاً: "تيلا نسيج الحياة. النسيج الذي يمنحنا الدفء، والحماية، والتواصل، والإلهام، ويحقق النفع للجميع". قد تكون هذه الجملة أقرب إلى التعبير عن المهمّة، وستجذب المستثمرين وأصحاب المتاجر والمستهلكين. فالنّاس ليسوا في حاجة إلى عبارة وصفيّة مختصرة، إنّهم يريدون شيئاً يؤمنون به.
كما يجدر بأليخاندرا أن تقلل من تركيزها على شركة سايرا وأن توفّر هذا التركيز للاهتمام بشؤون شركة تيلا. صحيحٌ أنّه لا يسعك أن تتجاهل حقيقة وجود منافس كبير، ولكنّ الأهمّ هو أن تعرف ما الذي تمثّله شركتك. فإن كانت الرسالة لا تعني الكثير لأليخاندرا، فإنّها بالطبع لن تعني الكثير لغيرها.
توماس باندو هو المؤسس المشارك ورئيس شركة بايز، وهي شركة أحذية أرجنتينية.
سوليداد محقّة في أنّه لا يمكن لشركة أن تمثّل كل شيء لكل النّاس، وسترتكب شركة تيلا خطأً فادحاً إن هي حاولت فعل ذلك.
أحد أهمّ المشاكل التي تواجهها العلامات التجارية اليوم هو التسييل: أي وجود عدد كبير من الرسائل الموجّهة لعدد كبير جداً من المجموعات المستهدفة. قد يجدي هذا نفعاً على المدى القصير، ولكن ستتأثر المبيعات وأداء الشركة بعد حين، لأنّه ما من أحدٍ سيكون قادراً على تحديد ما تمثّله الشركة حقاً. يمكن أن تتفادى أليخاندرا ذلك باختيار وجهة واحدة -وليس مزيجاً من الوجهات- لعمليّة التسويق في شركتها، مع الحرص على الالتزام بهذه الوجهة لعدّة سنوات على الأقل.
هذه الحالة قريبة نوعاً ما من تجربتنا في شركة بايز، وهي شركة مختصّة بتصنيع حذاء تقليدي في الأرجنتين يدعى البارغاتا. قبل عدّة سنوات قمنا بإجراء فحص لتموضع علامتنا التجارية، وتبين لنا أنّنا كنّا نسبب الإرباك للناس. فقد كنّا في سنة نركّز على مهمّتنا الاجتماعية في بناء صناعةٍ ذات معنى بالنسبة للناس، وفي السنة التي تليها كنّا نتحدّث عن التراث والتقاليد. كنا أنا وشريكي في تأسيس الشركة، كما هي حال أليخاندرا، نحبّ كل شيء كنّا نقوم به، ولذا كنّا نودّ تسويق كل ذلك. ولكنّا لم نحقّق في المحصّلة سوى الإرباك. كان الناس في الأرجنتين يقولون إنّ شركة بايز تمتاز بالتصميم، أمّا في آسيا كان الناس يظنّون أنّ رسالة شركتنا هي أن يحقّق الإنسان ذاته. وقد ازداد المشهد تعقيداً عندما تفوقت شركة تومز، وهي الشركة الأكبر في مجال صناعة أحذية البارغاتا والأحذية غير الرسميّة، علينا في جانب رسالة المهمّة الاجتماعية، وقد كان أداؤها في هذا الجانب مميزاً حقاً. فكان لزاماً علينا أن نعترف بأننا سلكنا طريقاً خاطئة، وأوقفنا كل شيء حتّى نتمكّن من وضع رسالة قويّة واحدة تمثّل الشركة.
وخلال الحوارات الداخلية والاستشارات مع الوكالات المتخصّصة والاستشاريين توصّلنا إلى رسالة متعلقة بأسلوب الحياة- فشركة بايز تمنح إحساس "التمتع بالرحلة"، وحينها توقّفنا عن الحديث عن الجوانب الأخرى في شركتنا ومنتجنا، لفترة من الزمن على الأقل. نحن نريد أن تشجّع علامتُنا التجاريّة المستهلكين على الشعور باستقلالية أكثر، والاستمتاع بمشوارهم ، وألا يتعاملوا مع الحياة بجدّية مفرطة. فإن تشكّلت هذه الصورة لدى الناس عن شركتنا، فسيكون بإمكاننا حينها إضافة رسائل أخرى مهمّة. فما زلنا عازمين على الحديث عن مهمّتنا الاجتماعية وأصالة المنتج الذي نقدّمه، ولكن حين نقوم بذلك، فسيكون ذلك تحت مظلّة الحديث عن علامتنا التجارية المتعلقة بنمط الحياة.
تحتاج شركة تيلا إلى تحديد النقطة التي تودّ التركيز عليها. وأرى أن تموضع علامتها التجارية الأقوى سيكون من جهة الأصالة. فهذه الشركة بيروفية أسّستها وتملكُها امرأة تودّ أن تردّ الجميل لوطنها الذي تحبّه. فإن نجحت شركة تيلا في التعبير عن هذه القيم بطريقة مبتكرة وجذابة، فستتمكن حينها من تعزيز مكانتها التنافسيّة.
كما لا يجدر بها أن تشغل نفسها كثيراً بشركة سايرا. فحين يشتمل المشهد على خصمٍ ضعيف وآخر قويّ فسيكون هنالك ميل طبيعي لمحاولة استغلال نقاط الضعف لدى الخصم القويّ، ولكن هذا لا يكفي كأساس لبناء العلامة التجارية. فإن أردت أن تمتلك صورة جذابة أمام المستهلكين فسيكون عليك أن تجد مساحتك الخاصة بك، وأن يكون لديك قصة ومنتجات تمتاز عمّا لدى الآخرين.
تبدو أليخاندرا مترددة جداً، بل لعلّها خائفة من الإقدام على اختيار ما، ولكن حريّ بها ألا تبقى أسيرة هذه الحالة. من الأفضل أن تحدّد موقعك بدل أن تبقى تائهاً بلا وجهة واضحة. فإن لم تسر الأمور على ما يرام أو حين يطرأ هنالك تغيير (وكثيراً ما يحصل ذلك) على الوضع التنافسي، أو تفضيلات المستهلك وقيمه، أو على الشركة ذاتها، فلا بأس من إجراء التعديلات اللازمة على الموقع الذي اخترته. فمن الضروريّ أن تحدّد موضعك وأن يكون لديك رسالة واضحة وثابتة.
ملاحظات خاصة بتدريس هذه الحالة
جيل آفري تدرّس حالة قريبة من هذه الحالة في محاضرتها الخاصّة ببناء العلامات التجارية.
ما الذي لفت انتباهك في هذه القصّة؟
كنت أجري أبحاثاً لأحدد الطريقة التي تتبعها العلامات التجاريّة الصغيرة، لتأخذ موقعها وتثبت تعلّقها بما تقوم به وإصرارها على المنافسة، وحاولت معرفة ذلك من خلال التركيز على موقفها الأضعف مقارنة بالشركات الأكبر. وحين كنت في بوينس آيرس زرت شركة بايز، ووجدت أنّها كانت تجرب بعض المقترحات المتعلقة بالقيمة كي تتمكن من التنافس مع شركة تومز، ولكنّها لم تفكّر حينها في وسمِ نفسها بالأقل حظّاً.
كيف كانت آراء الطلبة عموماً؟
عادة ما يبدون مترددين ولا يتمكنون من الإقدام على اختيار معيّن بشكل قاطع ويفضّلون الدمج بين الرسائل المختلفة في رسالة واحدة.
ما الدروس المستفادة من هذه الحالة؟
إنّ مقترحات القيمة التي تمتاز بالقوّة والجاذبية تترك انطباعاً لدى المستهلكين، كما أنّها تكون قادرة على الوقوف في وجه المنافسة. هذه الحالة تقدّم فرصة لتحليل بعض خيارات التموقع الأكثر شيوعاً بين الشركات اليوم- السعر، المهمّة الاجتماعية، الأصالة، وأسلوب الحياة.
تتناول دراسات الحالة المفترضة بعض المشاكل التي يواجهها القادة في واقع عالم الشركات، وتقدّم حلولاً يقترحها الخبراء. هذه الحالة قريبة من حالة تم دراستها في كلية هارفارد للأعمال بعنوان "بايز" (رقم الحالة: 316085-PDF-ENG) من إعداد جيل آفري، وماريا فيرناندا ميغيل، ولورا أردابيليتا، ويمكن الاطلاع على دراسة الحالة على موقع HBR.org.
تعليقات من مجتمع قراء هارفارد بزنس ريفيو
التحوّل إلى علامة تجارية فاخرة
على شركة تيلا أن تموقع نفسها كعلامة تجارية أصليّة فاخرة، وأن ترفع أسعارها لتكون أعلى من أسعار المنتج في شركة سايرا. إنّ القيام بذلك سيزيد من قوّة الشركة كمنتج لمعاطف البونشو الفاخرة، وسيكشف كذلك نقاط الضعف لدى سايرا دون الحاجة لعملة إعلانية ضدّها. كما يمكن أن تمضي الشركة قدماً في مهمّتها الاجتماعيّة المتعلقة بالمساهمة في تنمية اقتصاد البيرو.
ريموند كوهين، محلل قروض الشركات، في أحد بنوك نيويورك
الاعتماد على القصّة
على تيلا أن تعتمد على أسلوب بناء القصّة لتسليط الضوء على الأصالة والهدف الاجتماعي الذي تخدمه. يمكن أن تكون القصّة عن امرأة عاملة تنسج معطف البونشو التقليدي لتكسب قوت يومها، وترسل أطفالها للمدارس، وتتحسّن حياتها نتيجة عملها مع الشركة. كل ما يلزم هو إعلان يعدّ وتكتب كلماته بشكل متقن.
سيثو سانكار، طالب، معهد دراسات الاتصالات والإدارة (SCMS) كلية كوتشين للأعمال
تجاهلوا مجموعة التركيز
لا أمتلك الثقة بمجموعات التركيز، لأني أعتقد أنّ الناس يجدون صعوبة بالغة في وصف السبب الدقيق الذي يدفعهم للشراء. لعلّ الاختبار الأكثر نفعاً هو تجربة منهجيات تسويق متعددة في بضعة متاجر مختلفة ثم القيام بالمقارنة بين بيانات فعلية للمبيعات.