ماذا تعرف عن القيادة في زمن التحوّلات الكبرى تحديداُ؟ لطالما أظهر القادة شجاعتهم وجرأتهم الحقيقية في أزمنة التحولات والانتقالات الكبرى، وتحديداً خلال ما يسمى "أزمنة العتبات" وهو تعبير استعمله سابقاً عالم الإنثربولوجيا البلجيكي آرنولد فان جينيب، الذي كان أول من حدد الأنماط المشتركة للكيفية التي تميز الثقافات بها الانتقالات والتحولات من حالة إنسانية إلى أخرى (مثل الانتقال من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ).
ففي كتابه الصادر عام 1909 بعنوان "طقوس العبور" (The rites of passage)، وصف جينيب المراحل الثلاث للانفصال عن عالم والدخول في عالم آخر. وتعتبر مرحلة العتبة مرحلة أساسية. علّق عالم الإنثربولوجيا فيكتور تورنر لاحقاً على عمل جينيب شارحاً مرحلة العتبة هذه على النحو التالي: "هي لحظة يختبر فيها الأشخاص، الذين يجري نقلهم وفقاً لسيناريو ثقافي معين، التحرر من المطالب المعيارية، في وقت يكونون فيه فعلياً في منزلة وسطى ما بين منازل متتابعة في أنظمة قانونية سياسية. وفي هذه الفجوة الواقعة ما بين عوالم منظمة يمكن لأي شيء أن يحصل".
لكن يتعين على المؤسسات أيضاً أن تمرّ بهذا النوع المؤلم من الأزمنة الانتقالية من وقت لآخر، لأن هذه الأزمنة المضطربة هي بالضبط الأوقات التي يُظهر القادة فيها أكبر أثر لهم. إذ يجب عليهم أن يكونوا قادرين على صياغة العالم الجديد وفقاً لاستراتيجية ذكية، وغالباً في أعقاب حالة من الخلل، ودفع المؤسسة في الوقت نفسه إلى تبني التغيير المطلوب.
القيادة في زمن التحوّلات الكبرى
يعتبر وصول لو غيرستنر إلى شركة "آي بي إم" (IBM) عام 1993 مثالاً كلاسيكياً على القيادة خلال أزمنة التحولات والانتقالات الكبرى. فقد كان كمن أُسقط بالمظلة لينقذ شركة مضطربة، ما جعله يدفع هذه الشركة نحو التفكير بطريقة جديدة، الأمر الذي قاد في النهاية إلى زيادة قيمة الشركة وتنمية إيراداتها بأكثر من 40%.
وثمة مثال آخر يمكن اقتباسه هنا من شركة "بروكتر آند غامبل" (Procter & Gamble)، وكان ذلك في صيف العام 2000، في وقت خسرت فيه الشركة وبسرعة 85 مليار دولار من رأسمالها في السوق. فالرئيس التنفيذي الجديد آلان لافلي (أيه جي) كان قد دُفع إلى دائرة الضوء، بينما كان الموظفون يشعرون بحالة من عدم الاهتمام. أما بالنسبة للمحللين الخارجيين ولأصحاب الشأن وللمساهمين فقد كانوا جميعاً في حالة تشكيك تطال كل شيء. وبالتالي، فإن الشركة كانت تمر بزمن من التحولات الكبرى، وكان دور ليفلي يقتضي إعادة الأمور إلى نصابها.
وكما قال في مقال له نُشر في هارفارد بزنس ريفيو عام 2009، يتمثل "دور الرئيس التنفيذي في تفسير قيم المؤسسة في ضوء التغيير والمنافسة، وكذلك في تعريف معاييرها. كان ذلك أولوية قصوى خلال سنتي الأولى بوصفي الرئيس التنفيذي لشركة "بروكتر آند غامبل"، بعد تحديد الأهداف ولكن قبل الاستراتيجية". وبحلول العام 2010 تجاوزت إيرادات الشركة 80 مليار دولار، بينما زادت قيمتها السوقية بأكثر من 100 مليار دولار في حين ارتفع عدد علاماتها التجارية التي تدرّ لها مليارات الدولارات مثل "جيليت" و"بامبرز" و"تايد" من 10 إلى 24 علامة، ما يشير إلى أن قيادة لافلي في أزمنة التحولات الصعبة التي مرت بها الشركة كانت ناجحة.
تتصف أوقات التحولات والعتبات الكبرى بقدر كبير من الاضطرابات غير المتناسقة، وبالتالي، فإن واجب القائد هو تقديم سند قوي للموظفين، مع تأمين ضمانات بخصوص الأمور التي لن تتغير دائماً. وهذا ما فعله غيرستنر بامتلاكه لرؤية واضحة ومتسقة بخصوص الوجهة التي كان يتعين على "آي بي إم" أن تسير خلالها، كما أن لافلي فعلها أيضاً من خلال إعادة تشديده على القيم الحقيقية الراسخة.
كما أن القادة العظام يتصرفون بوصفهم مرشدين وموجهين للموظفين الآخرين في المؤسسة، حيث يقدمون لهم النصح والمشورة طوال مختلف مراحل الانتقال. ولعل الواجب الأساسي للقادة خلال أزمنة التحولات والتغير في أي مؤسسة يتمثل في ضمان مستويات مرتفعة من الانخراط والمشاركة. قال لورنس بوسيدي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "آلايد سيغنال" (Allied Signal)، يوماً: "نحن بحاجة إلى أناس أفضل في الإقناع أكثر من الحاجة إلى من يصدر الأوامر. أناس يعلمون كيف يرشدون ويوجهون وكيف يساعدون على بناء آراء توافقية. ففي هذه الأيام، المدراء يضيفون القيمة من خلال الوساطة مع الناس، وليس عبر التربّع على سدة الإمبراطوريات".
يشير هذا الأمر إلى أن العديد من القادة أنفسهم بحاجة إلى اختبار حالة التحولات والانتقالات الكبرى هذه. فإذا كانوا مهتمين حقاً برؤية مؤسساتهم تحقق نجاحات عظيمة، فيجب على العديد منهم تحقيق نقلة نوعية من نموذج غير ناضج قائم على التركيز على الهرمية والتراتبية المؤسسية، والتنازع في الصلاحيات والخلاف على نطاق المسؤولية بين مختلف الأقسام والجهات والأفراد، والسلطة الرسمية المرتبطة بالمركز، إلى مرحلة أكثر نضجاً تعتمد على تجميع الطاقات الجماعية وتوجيهها عبر اللجوء إلى النفوذ، وإشراك الناس، وغير ذلك من عناصر ما أطلق عليه أنا اسم "القيادة المفتوحة".