يمثل القادة النرجسيون معضلة للمؤسسات. على الرغم من أنهم يمثلون أحد أهم الأصول التي تملكها المؤسسة لما لهم من قدرة على إثارة أروع الانطباعات، والمحافظة على رؤية المؤسسة، وقدرتهم على تطبيق التغيير بما يملكون من كاريزما وشخصية. حيث أظهرت الأبحاث التي درست فوائد القادة النرجسيين امتلاكهم فرصاً أكبر للوصول إلى قمة الهرم الوظيفي. لكن من ناحية أخرى، يمكن أن يكونوا قادة سريعي التأثر والانفجار ضد أي اقتراح يخالف رأيهم أو يشكك في دقة مقترحاتهم. يميل القادة النرجسيون إلى الغرق في مستنقع من الصعوبات، والوقوع في حالات جدل مستعصية، علاوة على تناقص معدلات بقاء الموظفين في العمل معهم، لنقص قدرتهم على التعاطف وتشارك المسؤولية، فضلاً عما يحدث من جدل وارتباك ناتجين عن عدم رغبتهم في التعبير المقنع عن أنفسهم. باختصار، يمكن للنرجسيين أن يكونوا أصحاب قيمة كبيرة عندما يكون التغيير أمراً حتمياً وضرورياً في المؤسسة، لكنهم مصدر إزعاج ومشاكل أكثر في باقي الأوقات.
اكتشاف فوائد القادة النرجسيين
وهنا نقترح إمكانية الاحتواء والسيطرة على سلبيات النرجسية. بمعنى آخر، ماذا لو تمكنا من إعادة توجيه حب الذات عندهم للتركيز على مساعدة الآخرين. ماذا عن تحفيزهم ليصبحوا "المساعد الأفضل" أو "مقدم المشورة الأبرز" أو "العضو الأهم في الفريق"؟ حيث يُطلق على النرجسيين الذين يفعلون ما سبق النرجسيين بسبب الانتماء الاجتماعي. وهم أشخاص لديهم روح إيثاريّة عالية في تقديم المساعدة للآخرين. ويمكن استخدام النرجسية الموجودة لدى تلك الفئة في غايات إنتاجية. وعلى الرغم من الفكرة القائلة إن كل النرجسيين يتحركون انطلاقاً من وجهات نظر غير واقعية ومتضخمة ومتلهفة لردود فعل إيجابية، بسبب ارتباط صورتهم تجاه أنفسهم بمساعدة الآخرين، يميل هذا النوع إلى تبادل التفويض وتبادل الموارد وتقديم الدعم في إطار المجموعة التي ينتمي إليها، وذلك لدعم التصور حول الذات على أنهم مساعدين أبطال، وهم من تحتاجهم المؤسسات. وعلى النقيض من ذلك، بيّنت الأبحاث نوعاً آخر من النرجسيين، وهم النرجسيون الفرديون أصحاب الاعتزاز بذواتهم، الذين يركزون على تحقيق أشياء لأنفسهم في هذا العالم.
ماذا يعني هذا عملياً؟ لقد أجرينا بعض التجارب لاختبار الاختلافات السلوكية بين النرجسيين ذوي الانتماء الاجتماعي والنرجسيين الفرديين. بدأنا بقياس مستوى النرجسية عند الفرديين عبر الطلب من المشاركين الإشارة إلى اتفاقهم مع عبارات على غرار "أنا دائماً أعرف ماذا أفعل" و"وُلدت مع التفوق". أما لقياس النرجسية عند المنتمين إلى جماعات معينة، فقد طلبنا منهم الإشارة إلى اتفاقهم مع عبارات على غرار "أنا الشخص الأكثر مساعدة الذي أعرفه" و"سأصبح شهيراً بسبب ما أقدمه لصالح الأخرين".
اقرا أيضاً: لماذا لا نكف عن توظيف الرؤساء التنفيذيين النرجسيين
وبعدها، أجرينا تجربة أُخرى مستخدمين فيها لعبة "الدكتاتور"، وفيها يحصل اللاعب على موارد، مثل مال أو حلوى، ثم يُطلب منه تقاسمها مع شريك له. تراوح احتمالات تصرّف المشاركين بين الأنانية المطلقة للاحتفاظ الكامل بكل الموارد، إلى الإيجابية الاجتماعية المطلقة لإعطاء كل الموارد لشريكه. وقدمنا لعبة "الدكتاتور" ضمن مفهومين مختلفين، المفهوم الأول: محاكاة العلاقات المجتمعية، مثل العلاقات مع الأهل أو الأصدقاء. أما المفهوم الثاني: محاكاة العلاقات التبادلية كتلك التي تحدث بين شركاء الأعمال أو المستهلكين عندما يشترون منتجاً ما. كان الفرق الرئيس بين المفهومبن الأول والثاني بأنه عند تقديم خدمة في علاقة تبادلية وليست علاقة مجتمعية، فإن الأفراد توقعوا فيها معاملة بالمثل. على سبيل المثال، إذا طلبت من صديق لك مساعدتك على الانتقال، فلن تنقطع علاقتكما إن لم تدفع النقود له، وذلك لأنها علاقة مجتمعية. بل دفع النقود لصديقك يؤدي إلى احتمال الإضرار بعلاقتكما. وفي الوقت نفسه، إذا طلبت من شركة نقل مساعدتك على الانتقال، من غير المحتمل أن يقبلوا فقط بكلمة شكر.
وسعياً منا لمحاكاة العلاقات المجتمعية، طلبنا من المشاركين، تقاسم الشوكولاتة بينهم وبين شركائهم. أما في حالة محاكاة العلاقات التبادلية، فطلبنا منهم تقاسم الأموال بينهم وبين شركائهم، وذلك نظراً لمعرفتنا المعتمدة على الأبحاث الحالية، أنه إذا كان المال موجوداً في إطار عمليات صنع القرار، فسيكون دليلاً على وجود علاقة تبادلية.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع الرئيس المباشر في العمل إذا كان نرجسياً؟
وفي إحدى مراحل الدراسة، زودنا المشاركين بوحدة موارد واحدة فقط من أجل تسليط الضوء على مفهوم الربح والخسارة، أجبر هذا المشاركين على اتخاذ قرار واحد، إما الاحتفاظ بالمورد كاملاً وترك شريكه بلا شيء، أو تقديم كل ما لديه لشريكه والبقاء دون شيء.
ومع تنفيذ هذا النشاط، برز نمط مثير للاهتمام. فضمن القسم الأول من اللعبة، الذي كان حول العلاقات المجتمعية، كان كلا النوعين من النرجسيين اجتماعيين للغاية وإيجابيين ومتشاركين، حيث قدم 9 من أصل 10 مشاركين الشوكولاتة لزميله. ما يدل على أنه عندما تكون الموارد شوكولاتة فقط، يعتمد عليها النرجسيون وسيلةً مهذبةً لشكر الآخرين، إذ استخدم كلا النوعين هذه الطريقة.
لكن عندما قدمنا للمشاركين المال، تصرف النرجسيون أصحاب الانتماء الاجتماعي بأسلوب مختلف جداً عن النرجسيين الفرديين، إذ بات الفرديون أكثر أنانية بكثير، حيث اختار 9 من أصل 10 مشاركين الاحتفاظ بالمورد لنفسهم. في حين، كان رد فعل النرجسيين المنتمين إلى جماعات معينة مختلفاً جداً حيث وهب نصف المشاركين المورد للشريك. ويُعتبر هذا أمراً إيجابياً.
ومن أجل اختبار عواقب نرجسية أصحاب الانتماء الاجتماعي في ظروف العمل، أجرينا دراسة طويلة المدى حول فرق تدرّس ماجستير إدارة الأعمال، ووجدنا أن النرجسيين الفرديين كان لهم أثر سلبي على الفريق. كانت الفرق ذات المستويات النرجسية الفردية الأعلى أكثر احتمالية لوجود أفراد يدّعون مكانة لا يرى باقي الفريق أنهم يستحقونها، وهو الأمر الذي يثير الصراع ويقلل من الأداء. بينما في الوقت نفسه، تمكنت الفرق ذات المستوى النرجسي القائمة على الانتماء الاجتماعي من تلافي هذا المصير والتفوق على المجموعات التي تحتوي نسبة كبيرة من النرجسية الفردية.
اقرأ ايضاً: الأساتذة النرجسيون يمنحون الطلاب النرجسيين درجات أفضل
أخيراً، يمكن للنرجسيين أن يكونوا كارثيين على الجماعات والمؤسسات، لأنهم يريدون كل شيء. ولكن عندما يكون النرجسيون أصحاب الانتماء المجتمعي، قد يتم تخفيف جزء كبير من الجانب السلبي للنرجسية. كما تستطيع المؤسسات بدلاً من تجنب النرجسيين بالكامل توظيف النوع المناسب منهم لاكتشاف فوائد القادة النرجسيين، إذ تشير أبحاثنا إلى أنه في إمكان النرجسيين أصحاب الانتماء المجتمعي تقديم الأفضل من ناحية القيادة والكاريزما والرؤية علاوة على المساهمات التي تكون لتحقيق الصالح العام الأفضل.
اقرأ أيضاً: