شغلي الشاغل: الفنان الخطاط منير الشعراني

14 دقيقة
الخطاط منير الشعراني
"أعمل باستمرار على التحرر من نفسي بهدف تطوير منهجي وأسلوبي".

عبر أربعين عاماً اختطّ منير الشعراني لنفسه أسلوباً جمع بين الفن والجرافيك والخط العربي والحكمة. ففي لوحات منير الشعراني يمكنك أن تجد اللوحة الفنية الجمالية الإبداعية والتصميم المميز والخط النادر مع عبارات منتخبة عن الحكمة والإنسان والعقل. وهذا ما جعل لوحة منير الشعراني جزءًا لا  غنى عنه في المكتب والمنزل للعديد من السياسيين والأدباء ورجال الأعمال في المنطقة العربية والعالم.

هارفارد بزنس ريفيو: يصفك الناس بالفنان والخطاط والرسام ومصمم الجرافيك، ما هو اللقب الذي تشعر بأنه يعبر عنك؟

الشعراني: أرى نفسي فناناً تشكيلياً، خطاطاً ومصممًا، وذلك لأنني حاصل على شهادة أكاديمية في التصميم الجرافيكي، وأحتفظ بلقب الخطاط لأنه اللقب الصحيح لمن يمارس فن الخط، على رغم أنّ دلالته ابتذلت.

هارفارد بزنس ريفيو: ما الفرق بين الخطاط الفنان والخطاط التقليدي؟

الشعراني: اعتاد الناس أن يطلقوا على الخطاط المهني الذي يعمل بالطلب اسم أو لقب "خطاط"، ولكن من وجهة نظري فإن اللقب الذي كان سائداً دقيق في هذا المجال وهو "نسّاخ"، بينما لقب الخطاط على وزن فعّال، فيطلق على "المبدع" المجدد في هذا المجال الذي يمارس هذا الفنّ بعقليّة الفنان لا المهني، لا على "النسّاخ" أو المقلّد.

هارفارد بزنس ريفيو: ما الذي يميز الخطاط الفنان عن غيره؟ وهل يتجاوز فكرة تصميم شكل الخط إلى الإبداع والدخول في تفاصيل لا يدخلها خطاط آخر؟

الشعراني: الفناّن في الخط العربي ـــ كغيره من الفنّانين ـــ هو من يمارس فن الخط بصيغة مختلفة عن الآخرين، بحيث يكون له بصمة شخصية تجعل أعماله مميزة عن أعمال غيره، وذلك عبر التفرد بالمنهج والتميز بالتشكيل والإضافة والإبداع، وليس بالنقل والتقليد، و إتقان قواعد الخط العربي لا يكفي لأن يصبح الشخص فناناً، فالأمر في هذا الفنّ مشابه لما هو عليه في الشعر، إذ ليس كل من يعرف العَروض وقواعد اللغة العربية يستطيع أن يكون شاعراً حتى لو تمكّن من النظم، فالشاعر هو الفنان، بينما الناظم هو الآخر الذي لا يجيد سوى صف الكلمات وإخراج القصيدة على نحو ما يفعل الشاعر من حيث الشكل، لكنّه لا يستطيع أن يجاريه من حيث الشعرية والإبداع والروح. و التفرّد لا يكون إلا بالمنتج الإبداعي الذي يميز أعمال صاحبه عن أعمال الآخرين.

هارفارد بزنس ريفيو: ما الشيء المميز الذي وجدته في الخط العربي عن غيره من فنون الخط؟ والذي دفعك لاكتشاف الجانب الإبداعي فيه؟

الشعراني: الاهتمام بالفنون يبدأ في مراحل مبكّرة من العمر، و قد بدأ اهتمامي بالخط العربي منذ المرحلة الابتدائية بعد تعلمي القراءة والكتابة، إذ أصبحت أقرأ الكتب وأشاهد عناوينها و ألاحظ جمال الخطوط فيها، وقد بدأت بتقليد الخطوط التي أراها، ولفت نظري حينها الجمال الكامن في الخط العربي الذي يعبّر عنه بصيغ مختلفة. إنّ الخط العربي يتميز عن غيره من الخطوط بخصوصيته الأدائية والجمالية، فإذا ما أخذنا الخط العربي بمعناه البصري نراه عبارة عن فن تجريدي يقوم على التكثيف الذي نشأ عبر مراحل مختلفة من تحول الكتابة من صورية إلى مقطعية ثم إلى كتابة بالحروف الأبجدية، و تطوير أشكال هذه الحروف وكتابتها لتتجاوز وظيفة التوصيل وتنتقل إلى صيغ جمالية في مرحلة لاحقة حوّلتها إلى فنّ و ميزتها عن الكتابات الأخرى.

هارفارد بزنس ريفيو: يقال أنك تتلمذت على يد بعض خطاطي دمشق العريقين أمثال بدوي الديراني، ما فائدة التلمذة ومتى يمكن أن تطلق الإبداع أو تقيده؟ 

الشعراني: تتلمذت على يد الخطاط بدوي الديراني كبير خطاطي بلاد الشام، ولم أتتلمذ على غيره باستثناء درس أو اثنين عند خطاط آخر قبل ذلك لم أستفد منه شيئًا، وبدوي الديراني كان المعلم الذي كان له الفضل في تسديد خطاي و وضعي على أول طريق الإبداع، فقد كان يعطيني الدرس بخطّه ويكلفني بمحاكاته مئات المرّات، ويقوم  بتصحيح أخطائي مرّة إثر أخرى، و يوجهني نحو تعلم الأصول، لكنه في الوقت نفسه كان يقول لي بلسانه و عبر أعماله: تمكّن من الأصول ثم افعل ما يحلو لك. تعلمت منه أنواع الخطّ الكلاسيكية حتّى أتقنتها، وتعلمت منه أيضاً أنّ الخطاط يجب أن يكون مبدعاً وأن يظهر شخصيته في عمله، وهذا ما ميّز بدوي عن معاصريه وسابقيه.

هارفارد بزنس ريفيو: كيف استطعت رسم منهجك الخاص بعيداً عما تعلمته على يد معلمك الديراني؟

الشعراني: بدأت دراستي للخط العربي عند الديراني منذ سن العاشرة، وكنت أتردد إليه لمدة 5 سنوات قبل وفاته، حيث كنت أكتب ويصحح لي ويعلّمني ويرشدني ويوجهني، وكنت أستمد من حديثه وروحه وعمله وخلقه وردود أفعاله الكثير. فالتميّز في الفنّ من وجهة نظري التي استخلصتها منه، هو أن تهضم ما سبقك، ثم تفعل ما يحلو لك، فالأصل يشكّل قاعدة للمبدع لكي يستند إليها  في الارتقاء بما تعلّمه وتجاوزه و تطويره، بعد أن يعرف ما الذي قدمه السابقون و يحدّد ما يمكنه إضافته إلى ما فعلوه، لذا كان من الطبيعي أن أعمل بما استخلصته من دروس أستاذي فأعمل مايحلو لي بعد أن تعلّمت منه وهضمت ما فعله الأسلاف، و قد ساعدني على تطوير وتصميم عملي ومنهجي حبي للاطلاع وسعة البحث، فعملت على تطوير معرفتي بالخط العربي نظريًا وبصرياً وتاريخياً، وعلى معرفة مراحل تطوره؟ وكيف حصل هذا التطور بصيغه جمالية؟ وما الأنواع التي كانت موجودة؟ وما الذي أهمل منها؟ إلى جانب ذلك، درست كل ما حصلت عليه من كتب وصور تتعلق بفن الخط العربي، وكان للصورة وقع كبير إذ اكتشفت أنّ كثيراً من الخطوط لا تدخل في الصيغة النمطية المهيمنة التي وضعها المستشرقون والعثمانيون للتأريخ الخاص بالخط العربي، مثل أنواع الخط الكوفي التي اختفت في العصر العثماني ولم يعد التعامل فيها موجوداً، إلى أن أُعيد اكتشافها مرة أخرى عند ترميم الآثار في بلادنا، ناهيك عن الخطوط على الخامات المختلفة غير الورق، كالحجارة والرخام والمعادن و الخزف والمنسوجات والخشبيات وغيرها.

اعتمدت أيضاً على التجديد ومحاولة الإضافة، من خلال معرفتي بأسس التشكيل ودراستي الأكاديمية لفن التصميم، حيث عملت على تطوير بعض الأنواع المهملة والقديمة واستحداث أنواع جديدة والإضافة والتوليد من خلال ذلك، وأعتقد أنّ هذا ما يميز أسلوبي.

هارفارد بزنس ريفيو: اليوم تبدو لوحات الشعراني معروفة عن بعد، وأصبحت "علامة مميزة" مسجلة في أذهان الناس، فكيف اخترت هويتك البصرية؟ 

الشعراني: لقد قمت باستنباط هويتي عبر محاولة التطوير بناء على إعادة العلاقة بين أسس الخط العربي مع أسس التشكيل العامة، لأني أرى أن الخط العربي فن من الفنون التشكيلية أو الفنون الجميلة، لذلك درسته بعقلية المصمم والفنان في آن واحد، بعد أن درسته كخطاط.

لقد درست ما يسمى بالخطوط الكلاسيكية على يد الخطاط بدوي الديراني، ثم عدت إلى الآثار الخطية القديمة ومنها المهمل والمنسي والمتروك والمسكوت عنه طوال الفترة العثمانية - حتى في البلاد التي نشأت فيها هذه الخطوط - واستطعت الوصول إلى أسلوبي من خلال تعميق فهمي ومعرفتي بفن الخطّ العريي و تجلياته وإعادة الارتباط بين أسسه الجمالية والأسس العامة للتشكيل، وتعاملت وفق منهج موحد مع إعادة تجديد وتطوير أنواع الخط العربي والإضافة إليها أو الحذف منها. 

هارفارد بزنس ريفيو: ما هو نوع الخط العربي الأقرب إليك؟

الشعراني: لا أستطيع تحديد نوع الخط الأقرب إلي، فالخط الأقرب إلي هو الذي يتناسب بلحظة معينة مع العبارة التي أخطها و مع المضمون الذي أرغب في إيصاله، لقد اكتشفت في الخط العربي طاقة تعبيرية تتعدد تجلياتها بتعدد أنواعه، منها ما يناسب العمل على لوحة تتكلم عن الحب، ومنها ما يناسب لوحة موضوعها الحرية، وهناك ما يناسب لوحة تتكلم بروح فلسفية أو تحمل معنى فلسفياً، فلكل معنى هناك خط عربي هو الأقرب لروح هذا المعنى، والأفضل هو الأفضل في التعبير عن محتوى عمل ما بصيغة جمالية ملائمة.

هارفارد بزنس ريفيو: عند الحديث عن تطوير الخط العربي، فإنك تعتبر قد دخلت إلى ما هو مقدس، فما هي الجرأة التي احتجتها لتجري تطويرات في الخط العربي؟

الشعراني: في البداية أرغب في الحديث عن ما يوصف بالمقدّس، فأنا أرى أنّ الخط العربي لم يكن مقدساً في يوم من الأيام، ولم يروّج لهذا الوصف إلا في العصر العثماني، وقد تمّ - قبل ذلك - تطوير الخط العربي كفنّ لضرورات استخدامية أولّا ثم جماليّة تحت مظلة الحضارة العربية التي بدأت عطاءها في دمشق في العصر الأموي، وفي ذلك العصر بدأت المرحلة الأولى لتطوير الخط العربي عندما عرّبت الدواوين وهذا أمر دنيوي وليس مقدساً، وكان الخط العربي يستخدم في كتابة نصوص وكتب وفي أمور أخرى دينية ودنيوية، لذلك فإنّ الخط العربي كان مستخدمًا في كل الأغراض ولم يتمّ التعامل معه كمقدس منذ ابتدأت رحلة تطوره منذ ما قبل الإسلام بـ 600 عام تقريباً وحتى يومنا هذا إلا من قبل العثمانيين وأشياعهم، وقد تسارع هذا التطور في العصرين الأموي والعباسي، وكان كل المطورين خطاطون عملوا  ككتّاب في الدولة وليس كرجال دين أو كنسّاخين للمصاحف وغيرها، مثل ابن مقلة الذي كان وزيراً وكاتباً عمل على تطوير الخط ووضع أسس جمالية له وإضافة واشتقاق أساليب جديدة إليه.

الخطّ العربي ليس مقدساً، وليس له صيغة نهائية، ولا يستطيع أحد أن يغلق الباب على تطوره ولا يستطيع الادعاء أنه وصل إلى الذروة في أي زمن من الأزمنة، لأن مثل هذا الادعاء لا يعني سوى الحكم على هذا الفن بالموت والفن حياة متجددة وهكذا الحال مع فنّ الخط العربي، الذي عرف أطوارًا من النمو و انتقل من ذروة إلى أخرى، فليس هناك حد لتطويره، و لقد منحني فهمي هذا و معرفتي الحجّة والشجاعة اللذان مكناني بالإضافة إلى مقدرتي العملية الجرأة على القيام بما قدمته من التجديد والتطوير والابتكار والإضافة، و تمكنت من الدفاع عن ذلك وانتزاع الاعتراف والاستحسان به حتى من كثيرين ممن كانوا يرفضونه. 

هارفارد بزنس ريفيو: تحدثت سابقاً عن إضافة وابتكار أشياء جديدة في الخط العربي، كيف قمت بذلك؟

الشعراني: لا يمكن أن يتم التطوير دون الاعتماد على الأسس، أنا أعمل على تطوير الخط العربي انطلاقًا من فهم عميق لهيكله وبنائه الأساسي، ويمكن القول إننا نستطيع الإضافة والتطوير في الخط العربي لأنه قادر على أن يستوعب هذا باستمرار، ففي الخط العربي مرونة تساعدنا على خلق أشياء جديدة اعتماداً على هيكله، الذي أشبهه بالهيكل العظمي للإنسان والذي يشكّل الأساس، الذي تتراكب عليه طبقات مختلفة كلّ منها يحدث تغييراً فيه حتى يكسوه الجلد، ثم الثياب ويختلف هذا بين شخص وآخر، فهناك السمين والنحيف، والطويل والقصير، ومن يرتدي حلة جميلة أو قبيحة أو ثوبًا ضيقًا أو فضفاضًا، كذلك الحال بالنسبة للهيكل الأساسي للحرف، إذ تتنوع أشكال الخط العربي وتأخذ أشكالاً جديدة عبر اختلاف الطبقات التي تكسو هيكله الأساسي.

هارفارد بزنس ريفيو: تتكون لوحة منير الشعراني من الخط والجرافيك و فيها الألوان والنقط الحمراء، كيف خلقت هذا التركيب؟

الشعراني: بدأ عملي بشكل تراكمي منذ وعيت ضرورة استنهاض الخطّ العربي والإضافة إليه وتجديده وتطويره وإخراجه من ثوب التقليدية الذي لبسه على مدى 500 عام. وقامت تجربتي على وعي كامل لأهمية إعادة الاعتبار إليه كفنّ من الفنون الجميلة – و ليس كفنّ مرتبط بالمقدس - فهو صالح جماليًا لكل الاستخدامات الفنيّة، وعلينا أن نعي إمكانية الاستفادة منه. من هنا بدأت البحث عن سبل لتطويره وتجديده بدأتها بانتخاب أنواع منه من المسكوت عنه والمنسي تنطوي على جماليات عالية فاستكملت حروف بعضها وطوّرتها واختبرتها على أغلفة الكتب ثمّ وظفتها بأسلوب مغاير للمألوف في لوحاتي الخطيّة وعرضتها مع لوحات أخرى بأسلوبي المطور في خطوط معروفة في أوّل معرض لأعمالي الخطيّة في القاهرة عام 1987، وقد نجح المعرض نجاحاً كبيراً و نالت أعمالي إعجاب الفنانين التشكيليين والنقاد و اعتبرها الخطاطون الكبار الذين شاهدوها نقلة جديدة ومختلفة عما ألفوه من الخطوط الكلاسيكية.

النقطة الحمراء في لوحاتي فهي مستوحاة من روح الخط العربي، ولو أنني أستخدمها بشكل مختلف، فالنقطة الحمراء بالنسبة لي في العمل هي إضافة أعمل على أن أحقق من خلالها إيقاعًا بصريًا يمكن أن تتحرك عبره العين ويسهم في التلقي الجمالي للعمل.

هارفارد بزنس ريفيو: هل اعتمدت في محتويات لوحاتك وتركيبها هذه على تحليلك الشخصي أم على دراسات علمية لعوامل الجذب في اللوحة؟

منير الشعراني: إنّه اجتهادي الشخصي في التصميم، و لا توجد أعمال سابقة مشابهة في سياق كهذا، وليس هناك أعمال سابقة تشبه الأسلوب الذي أنتهجه في عملي. أنا أجتهد في الإضافة إلى الخط العربي وفي تصميم اللوحة الخطيّة، و أسير في ذلك على النهج الأساس الذي جعل الخط العربي يتطوّر ويتجدد وتتولد منه أنواع كثيرة - قبل أن يصيبه الجمود في العصر العثماني وما تلاه – مما مكنه من منحنا كل هذا الكم من الجمال على مدى التاريخ والذي شمل كل ما استخدمه أسلافنا في العمارة والنسيج والكتابة على الحجارة والرخام والأقمشة والحلي في مختلف البلدان التي استظلت بمظلة الحضارة العربية، وفي كثير من المجالات التي كان الخط العربي فيها قاسماً مشتركاً.

هارفارد بزنس ريفيو: كيف تعمل على تجديد أسلوب منير الشعراني بحيث لا يبدو متشابهاً أو مألوفاً؟

الشعراني: أعمل باستمرار على التحرر من نفسي بهدف تطوير منهجي وأسلوبي، فمثلاً: تختلف الأعمال التي عرضتها في أول معرض لي بالقاهرة في العام 1987، عما أنتجه اليوم، لأنني أتخلص باستمرار من الزوائد وأضيف أشكالاً جديدة لم تكن مألوفة في أعمالي السابقة، و لم يعرفها خطاطون آخرون من قبل.

كنت في البداية أستخدم الألوان بكثرة، ثم شعرت أنّ كثرة الألوان ربما تكون ثرثرة بصرية لا لزوم لها، وبالتالي أقلعت عن استخدام عدة ألوان في اللوحة الواحدة، ووجدت أنّ اللون مع العبارة مع نوع الخط، ربما يكون له طعم آخر بين لوحة وأخرى حتى ولو كان هو اللون نفسه، كاللون الأسود أو الأحمر.

هارفارد بزنس ريفيو: إلى أي مدى يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة وبرامج التصميم في أعمالك؟

الشعراني: لا أستخدم برامج التصميم في عملي الخطي، وإنما أستخدم أحياناً برنامجاً لرسم تصميمات بالخط الكوفي المربع أو لنقل التصميم الأساسي عبر مسحه ضوئيًا و شفّه منه لعمل قالب له بحيث يكون تنفيذه أسهل، فأنا أرى أنّ الحاسوب لا يعدو أن يكون أداة تنفيذ لا أداة إبداع وتصميم، أما اللوحات والأنواع الأخرى من الخطوط فإنني أصممها على الورق بالكامل، وأنقلها للحاسوب لاستخراج طبعة تكون قالب للعمل ينقل إلى الورق ليتم تنفيذه بشكله النهائي بواسطة اليد.

هارفارد بزنس ريفيو: هل تعتقد أنّ دخول التكنولوجيا وتعلم الآلة، يمكن أن يهدد الأعمال الإبداعية المماثلة لأعمالك، خاصة عند سماع أخبار حول تصميم لوحة فنية بمواصفات عالية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟.

الشعراني: لا أرى أنّ التكنولوجيا يمكن أن تتجاوز الإنسان، لأن الإنسان هو من يبتكر هذه التكنولوجيا ويزوّدها بالمعطيات حتى تتمكن من تقديم شيء ما، وفي مجال الخط العربي لم أجد أي تهديد لهذا الفن أو لمن يمكنه الإبداع في هذا المجال، فالحاسوب لا يستطيع أن يعطي أكثر مما يبرمجه الإنسان عليه و عبر التراكم في برامجه و تطويرها، و يبقى هناك من يمكنه أن يضيف في هذه الأمور شيئاً مع الزمن. لقد قيل الكثير حول تأثير الحاسوب والحروف المبرمجة فيه على الخط العربي، ولم أجد له تأثيراً إلا على الخطاطين الذين امتهنوا النسخ أو العمليات التجارية غير الفنية في الخط. فهؤلاء ربما تضرروا بسبب الحاسوب بعدما أصبحت اللافتات واللوحات تكتب بواسطة حروف طباعية، ولكن لم ينتج حتى اليوم عمل خطّي فنّي واحد من خلال الحاسوب يمكن أن يعتبر متميزاً.  

هارفارد بزنس ريفيو: لم تعد لوحة منير الشعراني مجرد خط وإنما أصبحت محتوى له معنى وحكمة أيضاً، ما هي معاييرك لاختيار المحتوى من عبر وحكم وأقوال تخطها بيدك؟

الشعراني: نشأت في بلدة تقدس العلم والثقافة، وبدأت مسيرتي الدراسية منذ وقت مبكر في الكتّاب عند "شيخة" ثم في الحضانة، فتعلمت مبكراً الولع بالكتاب، وكنت أستغرق في قراءة الكتب حتى قبل دخولي المدرسة، و كنت منذ ذلك الوقت مهتماً بالقراءة في مواضيع مختلفة عمومًا و بالشعر العربي واللغة العربية خصوصًا، وتشكل لدي عبر الزمن توجه فكري محدد، أحاول الربط بينه وبين ما أفعل بشكل غير مباشر، و هو يقوم على احترام الإنسان وشؤونه وشجونه وعقله وإرادته وحريته، ومن هنا يأتي اختياري للعبارات التي دوّنت الكثير منها على دفاتري من خلال قراءاتي، ولدي مجموعات كثيرة من المختارات أنتقي منها باستمرار ما أراه ملائمًا للعمل عليه في لوحاتي الجديدة.  

هارفارد بزنس ريفيو: هل يمكن أن تعتمد على القراء أو المتابعين لك في انتقاء عبارات لوحاتك؟

الشعراني: هناك خيط يربط أعمالي، قوامه مختارات من قراءاتي، لكن هناك القليل من الأعمال التي تم اقتراح عباراتها من قبل أصدقاء وقمت بتشكيلها لأنّها تتوافق مع مختاراتي، لكنني لا أقوم بتشكيل عبارات لا تنسجم مع فكري والخيط الرابط لأعمالي.

هارفارد بزنس ريفيو: ما هي معايير اختيارك هذه العبارات؟

منير الشعراني: حملت أولى لوحاتي عبارة لابن عربي تقول: "كل فن لا يفيد علماً لا يعوّل عليه"، فلا يمكن للفن أن ينفصل عن المجتمع أو الحياة، ومن هنا تستطع أن ترى أنّ المعنى يهمني كثيراً، ويمكنك الربط بين العبارات التي اخترتها والتي تصب في ما هو إنساني وجمالي.

وصممت الكثير من اللوحات التي تشكل معاني العبارات التي تحتويها هاجساً  لي، منها ما تناول قضايا الحق والخير والجمال، و منها ما يتعلّق بالحرية، و السؤال الذي هو محرّك المعرفة، و العقل الذي يقودنا إليها ويساعدنا على الوصول إلى خياراتنا ، وغيرها من المسائل التي أرى أننا فقدنا الفاعلية منذ توقفنا عن الانتباه إليها أو التفكير فيها.

هارفارد بزنس ريفيو: ما هي العبارة التي حملتها إحدى اللوحات، وحصلت على أعلى نسبة مبيعات؟ 

الشعراني: أسعى إلى أن تكون لوحتي فريدة في ألوانها وقياسها، فلا أكرر لوحة بالألوان نفسها أو المقاس نفسه، ومن اللوحات التي يستمر الطلب عليها بعد عدّة حلول لونيّة لها لوحة ارتبطت عاطفياً بوجدان كثير من الناس و أعجبتهم كثيراً هي "في الشام مرآة روحي" وهي مشكّلة بخط قمت بإعادة إحيائه بعد أن كان قد اندثر وقمت بتطويره، وهو "الخط الكوفي النيسابوري" وصممت من خلاله عدداً من اللوحات التشكيلية، لكنّي توقفت عن إعادة إنتاج هذه اللوحة بألوان مختلفة على الرغم من ذلك، وقمت بعمل مستنسخات محدودة العدد منها بالشاشة الحريرية موقّعة ومرقّمة.

هارفارد بزنس ريفيو: هل هناك قادة سواء بالفكر أو الأدب أو السياسة يحتفظون بلوحات من عملك؟ 

الشعراني: مقتنيات المتاحف هي الأهم بالنسبة لي، وقد تم اقتناء مجموعتين من أعمالي لمتحف اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر  في جنيف، ولي أعمال مقتناة في متحف الفن الحديث في القاهرة، وفي متحف الاسكندرية للخط العربي، وأخرى في متحف الشارقة للخط العربي، وثمّة مجموعة كبيرة في متحف الفن الإسلامي في ماليزيا، وغيرها في متاحف أخرى كالمجموعة المتحفية لوزارة الثقافة التونسية، وقد تمّ مؤخرًا اقتناء مجموعة من أعمالي لمتحف الفن الإسلامي (برغامون) في برلين، وهناك لوحات لدى مجموعة من المهتمين في اقتناء الأعمال الفنية بأماكن مختلفة، منهم الراحل الدكتور علي المفتي من مصر الذي اقتنى أكثر من أربعين عملًا خلال سنوات هي عند  ورثته الآن، وأيضاً الأديب والمثقف الإماراتي وجمّاعة الخط العربي محمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة محمد بن راشد في دبي الذي تضمّ مجموعته أكثر من 50 عملًا من أعمالي، ولدى الدكتور أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات الذي تضمّ مجموعته أيضاً أكثر من أربعين عملاً من أعمالي ورجل الأعمال والسياسي الإماراتي محمّد مهدي التاجر، والدكتور فايز تقي الدين والمحامي الراحل مأمون طبّاع ورجل الأعمال محمد عمار شعراني ورجل الأعمال محمد حمور ورجل الأعمال عبد الغني العطار وآل العظم من سورية، ورجل الأعمال والمثقف الكويتي محمد الشارخ، كذلك الشيخ راشد آل خليفة وآل الجشي و الفنانة لبنى الأمين والسيدة مريم فخرو في البحرين، والسيدة منى شاهين من مصر والدكتور الطاهر لبيب والناشر النوري عبيد والناشر والمصوّر محمد صالح بالطيب من تونس، والسيدة ماجدولين غزاوي الغول صاحبة دار الأندى للفنون والسيدة زها مانجو من الأردن، ورجل الأعمال حسام أبو مجاهد من لبنان، والكاتبة الناقدة الدكتورة فريال غزول من العراق، وعائلة الطبري و الشاعر وليد خازندار من فلسطين، والسيد طارق الجيدة من قطر، وغيرهم الكثير من المقتنين العرب والأجانب في بلدان مختلفة، منهم من لايرغب بذكر اسمه، بالإضافة إلى الأعمال المقتناة و المعروضة في أماكن عامة كوزارة الخارجية ووزارة شؤون مجلس الوزراء لدولة الإمارات العربية، وفي المجمّع الثقافي في أبو ظبي، ومركز دبي المالي العالمي، وكلّ اللوحات الخطيّة في فندق شذى المدينة بالسعودية.  

هارفارد بزنس ريفيو: أقمت حوالي 40 معرضاً في ما يزيد عن 20 بلداً حول العالم، ما هو الجمال الذي يجده الجمهور الذي لا يتكلم اللغة العربية في لوحات منير الشعراني؟

الشعراني: يرتبط هذا بالثقافة البصرية و بحبّ الفنّ و الإقبال عليه من قبل المهتمين به و المتابعين لمعارضه، فالإنسان يتذوق الجمال حتى لو لم يدرك محتواه، والخط العربي فن تجريدي من حيث الشكل، ومن اعتاد على تذوق الفن التجريدي يستطيع تذوق الخط العربي بشكل جيد حتى لو لم يفهم محتوى اللوحة، خصوصاً إذا كانت مبنية بشكل تشكيلي يراعي البناء الفني، ويسعى للوصول إلى قلب الناظر عبر عينيه أولاً ثمّ يأتي إدراكه للمضمون، ولأنني في عملي أسعى لتقديم أعمال تجمع بين جماليات الخط العربي و الجماليات العامّة للتشكيل نجحت في الوصول إلى المتلقي أيًّا كانت جنسيته وانتزاع إعجابه، بل وكسب احترامه و تقديره لفن الخطّ العربي،  لذلك ربما كان هناك تساوٍ بين أعمالي التي اقتناها أجانب واللوحات المقتناة من قبل عرب، هناك تلقٍ جيّد لأعمالي لأنني أسعى دوماً إلى أن تكون أسس العمل التشكيلي حاضرة فيها، إضافة إلى أنّ هناك متابعين للفنون في الغرب يعرفون أنّ الخط العربي فن جميل له خصوصية تميّزه عن أنواع الخطوط الأخرى، ويميلون إلى الفن العربي بصيغه الأصيلة وخصوصاً ما يلتقي مع بصريات هذا العصر، وأعتقد أنني حققت هذه المعادلة في لوحتي الخطية التجريدية بصريًا. 

هارفارد بزنس ريفيو: تتلمذت على يد بدوي الديراني، وهناك العديد ممن يرغب في التعلم والاستفادة منك، ما هي نصيحتك لهم؟

منير: هناك تلاميذ أعرفهم وآخرين لا أعرفهم، وأنصح كل من تأثر بأسلوبي وأعجب به أن لا يعتمد على تقليد ومحاكاة أعمالي بل أن يتعلم منهجي في البحث و يعمل على إيجاد شخصيّة خاصة به، فتجربتي وما قمت به من تطوير وتجديد و إضافة  ليس خاتمة المطاف، وكل شخص يمتلك المعرفة و الشغف بهذا الفنّ يمكنه أن يبحث و يضيف ولو قليلًا ليراكم في مسيرة هذا الفن الجميل، وأتمنى أن يكون هناك من التلاميذ من يتجاوزني في أعمال لم أعطِ مثلها في ما فعلت، فأنا لا أخشى المنافسة وأرحب بها، لأنها قد تحرك التلميذ والأستاذ لتقديم الأفضل.

هارفارد بزنس ريفيو: هل من منافسين في مجال الخط العربي؟

منير: ليت الحال كان كذلك، لكن المنافسين نادرون في الاتجاه الذي أعمل به، هناك كثير من الخطاطين الذي يتجهون إلى الخط التقليدي دون تطوير أو  تعامل مع الخطوط الأخرى وينتجون أعمالاً خطية غير متميزة في مجال التشكيل، و أنا لا يرضيني هذا الاتجاه ولا أرى فيه شيئاً من الاهتمام العميق أو الصلة الوثيقة بهذا الفن، وهناك أيضاً من يسعى إلى أن يكون له باع في مجال التجديد أو يخال ذلك أو يدّعيه، لكنّه للأسف ينقل ويقلد، وهذا ليس من شيم الفنّان، فالفنّان هو المبدع الذي يضيف بصمته الخاصة إلى ما تمت إضافته وليس أن ينقله كما هو، من ناحية أخرى لا أراني في وضع تنافسي مع الاتجاه الحروفي الخطي، لأنه يعتمد على خلطة غير منسجمة في ادعائه الحداثة والتجديد، فمعظم من يسيرون في هذا الاتجاه يعتمدون على نثر حروف من الخطوط التقليدية التي تعلموها بطريقة عشوائية على سطح اللوحة بألوان مستعارة من الفنون الأخرى ولا يلقون بالًا للتكوين والبناء التشكيلي، فينتجون لوحة هجينة لا تصمد أمام النقد الفنيّ الحقّ.

اقرأ أيضاً: طريقة قراءة الكتب

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي