العرقلة: هل وضع الشوكولاتة على مسافة بعيدة منك يجعلها أقل جاذبية؟

4 دقيقة
العرقلة
shutterstock.com/Lemberg Vector studio
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

"شكراً على إجراء المكالمة. نحن حالياً أكثر انشغالاً من المعتاد، لذلك قد يحتاج موظفونا إلى مزيد من الوقت للرد. في غضون ذلك، ألقِ نظرة على موقعنا الإلكتروني. في حال أردت تغيير اللغة اضغط على الرقم 1، وللتواصل مع أحد الموظفين اضغط على الرقم 2 …"، من منا لم يمر بحالة مماثلة عندما تواصل هاتفياً مع جهة حكومية أو خاصة لطلب معلومات معينة؟ مثل هذه التعقيدات تُسمى في علم الاقتصاد السلوكي "العرقلة" (Sludge)، ويُقصد بها الحواجز التي تكون مُضمّنة عن قصد في مراحل تقديم الخدمة للمُستخدم النهائي، وتجعلها أقل جاذبية وأغلى تكلفة وأكثر تعقيداً، بل تدفع المستخدم ببساطة إلى الاستسلام والتخلي عن طلبه.

"يمكنك تسجيل الدخول وقتما تشاء، لكنك لن تخرج أبداً" 

العرقلة باختصار هي نقيض الترغيب (Nudge) الذي يهدف إلى التبسيط وحث الأفراد على اتخاذ قرارات صحيحة تصبّ في مصلحتهم الشخصية والصالح العام بأقل تكلفة ممكنة. من أشهر أمثلة الترغيب وضع الأكل الصحي في أعلى قوائم الوجبات المدرسية وإبرازه بلون مختلف لحث الطلاب على تناول أكل صحي أكثر؛ غير أنه يوجد نوع آخر من "العرقلة" لا يتعلق بالوصول إلى الخدمة بسهولة، بل بالخروج منها بسلام! الحائز جائزة نوبل للاقتصاد ريتشارد ثالر هو من ابتكر مصطلح "العرقلة" عام 2012 بعد قصة حصلت له مع منصة بريطانية مختصة في تقييم الكتب، فبعد صدور كتابه "الخروج عن القاعدة" (Misbehaving)، نشرت هذه المنصة أول تقييم لكتابه واضطُر إلى دفع 1 باوند لقاء الاشتراك مدة شهر واحد في هذه المنصة حتى يطّلع على تقييمها، لكن ما لم يُذكر هو أنه إذا لم تُلغ الاشتراك قبل نهاية الشهر الأول، فسيتحول آلياً إلى اشتراك مدى الحياة بسعر 27 باونداً شهرياً، ويُجدد آلياً بما أن لدى المنصة بيانات بطاقة الدفع، والأسوأ من ذلك أن إلغاء الاشتراك يتطلب إرسال طلب للمنصة يأخذ أسبوعين للرد، ولا يمكن الإلغاء عبر الإنترنت بل يجب إجراء مكالمة هاتفية لمكتبها في لندن على حسابك الخاص، وفي أوقات العمل الخاصة بها!

يحكي ريتشارد أنه بعد هذه الحادثة صاح "عرقلة" (Sludge) وكتب هاشتاغ في منصة إكس (تويتر سابقاً) عن الموضوع، ليصف الأمر لاحقاً بأسلوبه الفكاهي المعتاد: "أصفُ هذه الحالات باسم 'اشتراك هوتل كاليفورنيا' (Hotel California Subscription) في إشارة إلى أغنية فرقة ذي إيغلز التي تقول 'يمكنك تسجيل الدخول وقتما شئت، لكنك لن تخرج أبداً'"، وهي حالة شائعة تحديداً في الخدمات التي تتطلب اشتراكاً مدفوعاً.

نظرة أعمق إلى العرقلة

تناولت خبيرة علم النفس والمؤلفة وندي وود صاحبة كتاب "عادات جيدة. عادات سيئة" (Good Habit. Bad habits) العرقلة من زاوية العادات التي تُسيّر الإنسان، وحصرتها في أي شيء يقف حاجزاً أمام أفعال الإنسان الموجهة بالعادات المتجذرة، وقسمتها إلى 3 أنواع بناءً على:

  1. المسافة: أي خدمة يمكن أن تفقد جاذبيتها بمجرد أنها بعيدة عن المتناول وتتطلب قطع مسافة طويلة، لذلك إن أردت الثبات على ممارسة الرياضة مثلاً، فاحرص على الاشتراك في قاعة رياضة قريبة من بيتك، لأن المسافة البعيدة ستُصبح "عرقلة" ولو بعد حين.
  2. الوقت: ولا سيما أننا في عصر السرعة واقتصاد الانتباه، فأي خدمة تأخذ الكثير من الوقت للوصول إليها أو الحصول عليها ستفقد جاذبيتها دون شك. مواقع التسوق الإلكتروني تعي هذا جيداً وتُصمم رحلة العميل بحيث تتطلب أقصر وقت ممكن لحثه على اتخاذ قرار الشراء، وخاصية "اشترِ بضغطة زر واحدة" خير مثال على هذا. توجد أيضاً العديد من الاختبارات السلوكية التي تناولت موضوع تقليل عدد الخطوات والمراحل في سبيل الحث على زيادة الادخار أو استهلاك أطعمة أكثر صحية. 
  3. الجهد: عقل الإنسان يميل بفطرته إلى توفير الطاقة والجهد، لذلك يختار أسهل خيار مُتاح بناءً على عامل الجهد المبذول. عندما تريد حكومة في أحد البلدان تخفيض عدد اللاجئين إليها، قد تلجأ لتصميم استمارة معلومات طويلة معقدة تتطلب قدراً كبيراً من الجهد والتركيز، ثم ترفض طلب اللجوء بمجرد خطأ بسيط في ملء الاستمارة. الأمر نفسه في حال أرادت تخفيض حجم المشاركة في انتخابات معينة، قد تجعل الحكومة مراكز الاقتراع في أماكن بعيدة عن السكان، ولا توفر النقل العمومي يوم الانتخابات، وتُرتب لاصطفاف طوابير طويلة أمام صناديق التصويت.

العلوم السلوكية بصفة عامة لها دور مهم في هذا المجال، عبر التركيز على الانحيازات السلوكية مثل الانحياز إلى الحاضر (أو الانحياز الآني)، وميدأ الندرة، والتي إذا ما اجتمعت، شكّلت عاملاً مؤثراً في زيادة وتيرة العرقلة وحدّتها، أو عبر التركيز على التبسيط كأحد أهم وسائل الترغيب في التصدي للعرقلة.

الجانب المشرق للعرقلة

يوجد جانب إيجابي للعرقلة إن استُخدمت في الصالح العام، وخير مثال عليها "التدخين" الذي فُرض عليه الكثير من تطبيقات العرقلة، مثل رفع الضرائب والرسوم على السجائر، ومنع التدخين في الأماكن العامة، وحصر إمكانية شراء السجائر على البالغين، ما أدى إلى نتائج رائعة في خفض عدد المدخنين.

يوجد مثال آخر على هذه الحلول "المعرقلة" من ثمانينيات القرن الماضي، حينما قرر مسؤولون في مبنى حكومي حث الموظفين على استخدام السلالم أكثر والحدّ من الاعتماد على المصعد الكهربائي، لتحسين صحتهم وترشيد استهلاك الكهرباء، فكان الحل "السهل" هو المنشورات والمُلصقات البصرية التي تُعدد فوائد صعود السلالم، مثل عدد السعرات الحرارية المحروقة، وأثر النشاط والحركة في صحة القلب، وكمية الطاقة الموفرة وأثر ذلك في الحد من التلوث البيئي، لكنها لم تُجدِ نفعاً وكان الأثر ضئيلاً جداً، فلجؤوا إلى خيار مبتكر هو تأخير وقت فتح أبواب المصعد بنحو 60 ثانية فقط، فأدى ذلك إلى ارتفاع نسبة استخدام السلالم بنحو 80% خلال مدة شهر واحد، وبالفعل حتى بعد إعادة سرعة المصعد كما كانت قبل التجربة، استمر الموظفون في استخدام السلالم لأن فترة شهر كانت كافية لبناء عادة صحية جديدة. لعل أحدث تطبيقات العرقلة لأسباب "تصُب في الصالح العام" هو في مجال أخذ لقاح كوفيد-19 حيث ذهبت الحكومات تُشجع على التلقيح بأسلوب سُلطوي عبر جعل سفر غير الملقحين أكثر صعوبة ومللاً وربما أكثر تكلفة.  

ببساطة وعلى المستوى الشخصي، نظِّم بيئتك بحيث تجعل العادات الجيدة سهلة التنفيذ والسيئة منها صعبة التجسيد. إن كنت مدمناً على السكريات، فضع علبة الشوكولاتة بعيداً عن الأريكة التي تشاهد منها برنامجك المفضل. لن يجعلك هذا تتوقف عن تناولها لكنه سيعوقك قليلاً على المدى القصير وسيظهر أثر إيجابي أكبر على المدى البعيد.

على المستوى القطاع العام، فللعرقلة تجليات مختلفة عما هي عليه في القطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، طلب القائد أو المسؤول الحكومي مرؤوسيه التنسيق فيما بينهم لاتخاذ قرار ما دون مرجعية واضحة قد يعطيهم حق النقض أو "الفيتو" لرفض طلبه، كما إنّ عدم تحديد مدة زمنية نهائية لاتخاذ قرار ما يُعطي هامشاً يمكن إساءة استعماله وقد يؤدي إلى عدم اتخاذ القرار في نهاية المطاف، ثم إن تحديد المدة الزمنية دون توضيح التبعات القانونية في حال تجاوزها قد يعقّد المساءلة ويجعلها مجرد "وجهة نظر". لذلك ومن زاوية الحلول المقترحة، لا بد من التركيز على عملية "تدقيق العرقلة" (Sludge Audit) ومراجعة جميع القيود البيروقراطية، ثم العمل مع الجهات الوصيّة، أي المشرعين والجهات القانونية على مستوى المؤسسات الحكومية العليا التي تتمع بالقدرة على التأثير وسن القوانين، والتي قد يؤدي عملها عن غير قصد، إلى نوع من أنواع "العرقلة" عند صياغة القوانين والوثائق الرسمية التي تصدر عنها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .