العامل ذو التأثير الأكبر في الثقافات العظيمة للشركات

4 دقائق

يرد في المعاجم تعريف كلمة الجوهر على أنه "الطبيعة المتأصلة في الإنسان أو الجماد". وفي شركتنا الاستشارية، وجدنا أن مفهوم "الجوهر" يفيد في تمثيل تاريخ تأسيس المؤسسة ومبادئها التي تعمل على تحقيق التوافق في المؤسسة وترسيخها داخلياً، وتعمل كعنصر تمييز قوي لها في السوق بنفس الوقت.

وإذا كانت الثقافة هي "طريقتنا في العمل"، فالجوهر هو "سبب اتباعنا هذه الطريقة في العمل". يمثل الجوهر أساساً ثابتاً تبنى عليه الثقافة التي يمكن أن تتطور بطرق إيجابية، ولكن يمكن أيضاً أن تنحرف عن مسارها على نحو خطير أيضاً. وهذا تحديداً أمر حاسم في المؤسسات التي تعتبر الثقافة فيها محوراً للنجاح.

وعندما تعي المؤسسة جوهرها وتشاركه وتفتخر به، تصبح أكثر قدرة بكثير على التحكم بالثقافة وكل ما يتأثر بها، بدءاً من التوظيف والتدريب وصولاً إلى ترويج العلامة التجارية والسمعة وغيرها. وباعتبار الجوهر نواة القيم التي تشكل الثقافة التنظيمية وتحييها مجازاً، فهو يعمل على تنشيط حلقة الثقافة المعززة ذاتياً، حيث يجذب الافتخار بتاريخها وتقاليدها ونجاحاتها الروابط مع عملائها وشركائها وموظفيها ويقويها.

يركز عملنا على المؤسسات القائمة على السمعة، وهي شركات لا تملك عادة منتجات قابلة للمقارنة بسهولة، أو منتجات يصعب تقييمها قبل إيصالها إلى المستخدم. وتشمل الأمثلة عنها المراكز الطبية الكبيرة، وشركات المحاماة والمحاسبة، وشركات الهندسة والبناء، والكليات والجامعات. وبالنسبة للمؤسسات من هذا النوع، يمكن أن تكون السمعة مسؤولة عن ربع القيمة السوقية أو أكثر. ولذلك عندما تنحرف عن مسارها أو تتعرض لتهديد ما، يمكن أن تكون العواقب وخيمة.

هناك قصتان عن شركتي تصنيع طائرات تركزان على هذه النقطة بطريقتين مختلفتين تماماً، الأولى هي قصة شركة "لوكهيد للهندسة المتقدمة" (Lockheed Advanced Engineering)، والمعروفة باسم "سكانك ووركس" (Skunk Works) والتي كان كلارنس (كيلي) جونسون أول قائد لها. إذ طورت جوهرها بناء على شخصية جونسون ومعتقداته القوية ومبادئه الأربعة عشر الشهيرة، وانعكست في توظيف الأفضل من بين المهندسين والتقنيين وتجنب البيروقراطية والمعاملات الورقية غير الضرورية، والإصرار على تابعية الموظفين للقيادة العليا من أجل الحد من السياسات ومشاكل دوائر النفوذ، ومطالبة جميع الموظفين بالالتزام الكامل بتحديات شبه مستحيلة.

وعلى الرغم من العبء الذي ألقته الثقافة التي أنشأها جونسون على حياة الموظفين الشخصية، إلا أنها أدت إلى إنتاج أول طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو الأميركي في أقل من ستة أشهر، وبناء طائرة "SR-71" التي سجلت في عام 1976 رقماً قياسياً للسرعة الثابتة بالنسبة للطائرات بمحرك استيعاب هوائي يقودها طيار، وتطوير أول طائرة شبح (لوكهيد F-117)، التي أطلقت أول مرة عام 1988. وفوز طائرة (F-35) على طائرة فانتوم ووركس من صنع شركة "بوينغ" في تبادل إطلاق النار. إن توجه شركة "سكانك ووركس" المتمثل في إمكانية تنفيذ أي شيء من أجل تلبية أهداف معقدة ذات متطلبات كثيرة في الوقت المحدد وضمن مقاييس الميزانية ظاهرياً، يشكل مثالاً عن ثقافة الشركة التي تستمر بنجاحها لفترة تتعدى مدة تولي جونسون لوظيفته.

وهناك شركة الطائرات الأخرى التي تتمتع بذات القدر من الهيبة والإبداع، ألا وهي "بوينغ"، وهي تملك قائمة مهيبة خاصة بها من الإنجازات "الأولى من نوعها"، بما فيها أول طائرة تجارية (707)، وأكثر الطائرات مبيعاً (737)، وأول طائرة ذات بدن واسع (747)، وأول طائرة نفاثة تم تطويرها بواسطة الكمبيوتر (777)، وأول طائرة تجارية مبنية من المواد المركبة بنسبة كبيرة (787). وهذا بالإضافة إلى مجموع 13 ألف براءة اختراع مسجلة باسم الشركة. ولكن توضح لنا حادثتي تحطم تعرضت لها طائرتي "بوينغ 737" ماكس ما يمكن أن يحدث عندما تنفصل الثقافة عن الجوهر. وفي الحقيقة، لم تكن حوادث التحطم بحد ذاتها هي ما أثار هلع المعلقين والناس، فكل شركة تتعرض لحوادث من هذا النوع بما فيها المنافسة "إيرباص"، بل هي الشكاوى بشأن تدني جودة ممارسات شركة "بوينغ" بصورة غير معتادة والتزامها الأعمى بصافي الربح، وقد كشف خبراء في المجال ومبلغون عن المخالفات وصحفيون في مجال الطيران عن هذه الشكاوى للجمهور.

وتشير هذه التقارير إلى أن إحدى المشكلات الأساسية تتمثل في خروج الشركة عن ثقافتها التي استمرت أكثر من قرن من الزمن والمبنية على العمليات التي تبناها المؤسس ويليام بوينغ القائمة على الأدلة والجودة والسلامة، من أجل تحقيق التركيز الملائم على عوامل السوق. وفي الحقيقة، يبدو أن قائمة شركة "بوينغ" لأهدافها المقرر إنجازها بحلول عام 2025 تعترف بذلك صراحة:

  • قيادة السوق.
  • الأداء والأرباح في الربع الأعلى.
  • النمو الذي تغذيه الإنتاجية.
  • الامتياز في التصميم والتصنيع والخدمات.
  • تسريع الابتكار.
  • التوسع والتعمق على مستوى العالم.
  • أفضل فريق وكفاءات وقادة.
  • الشركة الأفضل بصفتها مواطن.

نلاحظ أن هدف "الامتياز في التصميم والتصنيع والخدمات" يقع في الترتيب الرابع ضمن القائمة، تالياً لثلاثة معايير ذات أولوية أكبر تتعلق بالمبيعات والربح.

وما تؤكد عليه مشاكل "بوينغ" هو أن الثقافة ذاتها تتطور، إيجاباً في بعض الأحيان (كما هي الحال في الاستجابة لممارسات مقبولة أكثر اجتماعياً كالتنوع الجنسي والعرقي والإثني وغيره، مثلاً)، وسلباً في أحيان أخرى (كما يحدث عندما يؤدي توجيه تركيز أكبر على الإنتاج، أو المبيعات، أو قيمة السهم إلى تعطيل أولويات أساسية أخرى).

وتتمثل قيمة الجوهر، إذا تمت مشاركته والافتخار به، في عمله كمثبت للثقافة التنظيمية عن طريق الحفاظ على الرابط بين جذور المؤسسة والرواية المشتركة التي توحد المكونات الداخلية والخارجية. وبالنسبة لشركة "لوكهيد سكانك ووركس"، كان الجوهر المشترك هو ما يؤدي إلى مساهمات موظفيها الاستثنائية واستمرار تدفق العملاء إليها. وبالنسبة لشركة "بوينغ"، فإن تجاهل الجوهر سمح بتسرب الثقافة في مواجهة الضغوطات الخارجية الشديدة، ما أدى إلى ضرر لاحق وقد يكون طويل الأجل في قيمة السهم والمبيعات والرقابة التنظيمية وثقة الجمهور والسمعة.

كما يمكن أن تولد التطورات الأخيرة جوهراً مستمداً من تاريخ الشركة المتمثل بمؤسسها ورؤيتها وممارساتها الأولى وابتكاراتها وأسلوبها الخاص في العمل. خذ مثلاً شركة "آبل"، إذ أصبحت نهضتها بعد عودة ستيف جوبز إليها كرئيس تنفيذي جزءاً أساسياً من تاريخها. كما يمكن تطوير الجوهر من صورة مصنعة (وبالتالي يتم التعبير عنه في العلامة التجارية) ولكنها لا تمت بصلة لأساس الشركة أو تاريخها الحقيقي، وهذا النوع شائع بين شركات التجزئة.

ويأخذ وضع الجوهر في الواجهة شكل الرواية أو الخلفية، التي تجسد الافتخار بالمبادئ الأساسية وما نتج عنها من إنجازات وأحداث هامة. والخلفية هي في المقام الأول رواية داخلية، لأنها تمثل مصدراً للمعنى وكياناً ينتمي إليهما الموظفون بفخر. وبالنسبة للمؤسسات القائمة على السمعة، فإن الهوية والانتماء عنصران حاسمان. فعلى خلاف أنواع أخرى كثيرة من المؤسسات، غالباً ما يكون موظفوها وكلاء للمنتجات على الرغم من وجود منجزات فعلية، كالإجراء الطبي أو الخطة المالية أو محاضرة جامعية على سبيل المثال.

وهذا هو العنصر الثاني المؤلف لخلفية الجوهر، أي الترويج له لدى الزبائن والعملاء والجمهور، وهو يساعد على ترسيخ الرابط الثلاثي بين المؤسسة ومكوناتها الداخلية والخارجية. وهو رابط يغذي السمعة ويديمها. لا تملك شركات السلع الاستهلاكية مثل "نايكي" و"آبل" و"باتاغونيا" جوهراً فريداً فحسب، وإنما تعلمت طريقة رفع قيمتها إلى الحد الأقصى في رواية القصص داخلياً وخارجياً.

النقطة التي يجب أن تفهمها القيادة التنفيذية بسيطة، وهي كما يلي: على الرغم من أن معظم الشركات القائمة على السمعة قد لا تتطلب الإعلان المستمر والعلاقات العامة في السوق العامة كما هو الحال في شركات السلع الاستهلاكية أو شركات التجزئة، إلا أن سمعتها مبنية على مفاهيم ثقافة إيجابية. وضمان بقاء الثقافة راسخة ومتسقة يحتم أموراً ذات أهمية حاسمة، وهي توضيح الجوهر والافتخار به ومشاركته.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي