حتى قبل أن تترسّخ جائحة "كوفيد–19"، كانت التكنولوجيا تفعل فعلها وتغيّر طبيعة العمل. فالابتكارات كانت تُسهِم في إعادة تعريف أساس المنافسة في معظم القطاعات، وبالتالي فقد كانت هناك إعادة تعريف أيضاً للمواهب التي تحتاج الشركات إليها للفوز على المدى البعيد. وأتت الجائحة وأدّت إلى تهميش جهود معظم الشركات فيما يخص مواجهة هذه التحديات وسد الفجوات المهمة في مجال القدرات. فقد اضطرت مؤسسات كثيرة إلى تسريح 15% أو أكثر من قواها العاملة. واستدعت جائحة "كوفيد–19" تأجيل البحث عن أصحاب مواهب جدد ممن يمتلكون قدرات جديدة نظراً لتركيز المؤسسات على كيفية البقاء على قيد الحياة اقتصادياً.
بيد أن الشركات التي تغتنم فرصة إعادة بناء نفسها في أعقاب الجائحة العالمية لتجديد قواها العاملة وتهيئتها للصمود في المستقبل سوف تتفوق على منافساتها. فحتى قبل أن ينتشر العمل من المنزل على نطاق واسع، كانت التكنولوجيا الرقمية تُسهِم أصلاً في إحداث تحول في طبيعة العمل المنجز ومكان إنجازه، وعدد الناس المطلوبين لأداء المهمة. وإذا أخذنا مثالاً واحداً على ذلك هو شركات المنتجات الاستهلاكية، نجد أن هذه الشركات اعتادت في السابق على توظيف مئات الأشخاص لمراقبة المبيعات والمخزونات من أجل ضمان وصول المنتجات الصحيحة إلى الأماكن الصحية في الوقت الصحيح. لكن برمجيات التحليل التنبؤي التي تعتمد على المعطيات المأخوذة آنياً من نقاط البيع، والمصانع، وشركات الخدمات اللوجستية أصبحت تبدّل هذا الوضع، وتقلل من عدد الموظفين المطلوبين لأداء العمل، وتغيّر المهارات التي يحتاجون إليها لينجحوا في أدوارهم الجديدة المعتمدة على التكنولوجيا، وتسمح لأعداد أكبر من الناس أن يعملوا عن بعد.
فكيف يجب على الشركات أن تُعيد بناء نفسها؟ نستند في الصفحات التالية إلى بحث أجرته شركة "بين آند كومباني" (Bain & Company) وشمل أكثر من 300 شركة كبيرة في أنحاء العالم، وكل جانب من جوانب الاقتصاد العالمي، من التصنيع إلى تجارة التجزئة والرعاية الصحية والتكنولوجيا. يعمل نصف هذه الشركات انطلاقاً من أميركا الشمالية أو أوروبا الغربية، أما البقية فتعمل انطلاقاً من أميركا الجنوبية، أو آسيا والمحيط الهادئ، أو الشرق الأوسط، أو إفريقيا. حددنا مجموعة منتقاة من الشركات التي تعمل أصلاً على بناء قوى عاملة معتمدة على التكنولوجيا. وبغضّ النظر عن القطاع أو المنطقة الجغرافية اللذين تعمل فيهما هذه الشركات، إلا أنها ملتزمة كما يبدو بست ممارسات في أثناء تجميع فرقها وإدارتها. نعرض في الصفحات التالية لهذه الممارسات التي يمكن للشركات الأخرى الاقتداء بها أثناء محاولتها إعادة تنظيم نفسها وإعادة تجميع عناصرها استعداداً لمرحلة التعافي الحتمية.
أكثر من 60% من الأدوار المستقبلية في أي شركة يمكن شغلها بالموظفين الحاليين، على افتراض وجود برامج مناسبة مطبّقة.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
حتى قبل انتشار ظاهرة العمل من المنزل على نطاق واسع، كانت التكنولوجيا الرقمية تُسهِم في إحداث تحوّل في طبيعة العمل المنجز ومكان إنجازه، وعدد الناس المطلوبين لأداء المهمة.
الفرصة
في أعقاب الجائحة، بمقدور الشركات إعادة بناء قواها العاملة بحيث تكون أكثر استعداداً لاقتصاد يتزايد فيه إنجاز المهام الروتينية والمتكررة بمساعدة الآلة.
الحل
استناداً إلى بحث أجرته شركة "بين آند كومباني" وشمل أكثر من 300 شركة كبيرة في أنحاء العالم، وكل جانب من جوانب الاقتصاد العالمي، يحدد المؤلفون ست ممارسات ينصحون الشركات بالاقتداء بها في أثناء محاولتها إعادة تنظيم نفسها وإعادة تجميع عناصرها استعداداً لمرحلة التعافي الحتمية.
1- فكّروا في المستقبل وأنتم تعيدون تعريف الأدوار الحاسمة لنجاح الشركة
ليست كل الوظائف ذات أهمية متساوية. ويشير بحث لشركة "بين" وآخرين إلى أن أقل من 5% من المناصب في أي مؤسسة هي المسؤولة عن 95% من قدرتها على تنفيذ استراتيجيتها وتحقيق النتائج. لكن السؤال المطروح هو أي 5%؟ ونحن نخرج من جائحة مثّلت تحدياً للافتراضات المتعلقة بكيفية أدائنا لعملنا بطريقة مثمرة، تحتاج الشركات إلى إعادة النظر لكي تحدد المهارات التي ستحظى بالأهمية الكبرى في المستقبل الذي سيزداد الاعتماد فيه على التكنولوجيا، كما تحتاج إلى تطوير هذه المهارات لدى قواها العاملة الحالية، والسعي إلى تعيين من يمتلكونها.
كانت الشركات الذكية قد بدأت بذلك أصلاً حتى قبل الجائحة، وإحداها هي "وودسايد إينيرجي" (Woodside Energy)، الشركة الأسترالية الرائدة في إنتاج الغاز الطبيعي. فعندما تولّى بيتر كولمان، الذي تقاعد مؤخراً، منصبه كرئيس تنفيذي للشركة في عام 2011، كانت من المؤسسات التقليدية المتخصصة بإنتاج الغاز الطبيعي المُسال وتمتلك مشاريع ضخمة بمليارات الدولارات، وعمليات بحرية وبرّية معقدة. أدرك كولمان وفريقه أن قدرة "وودسايد" على مواجهة التحديات المستقبلية تتوقف على تعزيز تكنولوجياتها التقليدية بتقنيات حديثة تعتمد على البيانات.
أرادت "وودسايد" اختبار أثر علوم البيانات الضخمة والتحول الرقمي على استراتيجية الشركة وتنافسيتها، فبدأت بعملياتها في مجال إنتاج الطاقة. وكما هو حال معظم منتجي النفط والغاز الآخرين، اعتمدت على مهندسين من ذوي الخبرة العالية للإشراف على كل مشروع إنتاجي. عندما برزت مشاكل، وضع المهندسون خططاً للتخفيف من وطأة هذه المشاكل وكانت مستندة إلى خبرتهم الشخصية ومعتمدة على البيانات التي كانوا قد جمعوها من مواقعهم. لقد أدّوا دوراً أساسياً جداً للشركة في "وودسايد".
أسهم ظهور تكنولوجيا الاستشعار الجديدة، إضافة إلى إمكانية استعمال القدرات الحوسبية ذات التكلفة المنخفضة وتحليل البيانات الضخمة إلى تمكين مشغّلي أصول الشركة من اتخاذ قرارات أفضل وأسرع باستعمال مجموعة أوسع من مصادر البيانات التي يمكن الوصول إليها وخبرات أكبر في مجال علوم البيانات. وبناء عليه، فقد بدأت "وودسايد" بتجريب تحليل البيانات الضخمة وتعلّم الآلة في عملياتها البرّية والبحرية باستعمال مزيج من الحلول المطورة داخل الشركة والمشتراة من السوق. وبدأت قواها العاملة باستعمال الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي – والمعتمدة أيضاً على خبرة "وودسايد" التي تزيد على 30 عاماً في مجال الإنتاج في جميع المواقع التابعة لها – من أجل تحديد طرق تسمح بتحسين السلامة والإنتاجية.
كان إدماج التكنولوجيا ضمن طرق العمل يعني توسيع تعريف "المهارات الأساسية" في "وودسايد". فقد أصبح علماء البيانات، إلى جانب مشغّلي الأصول والمهندسين من ذوي الخبرة، عناصر أساسية حاسمة لنجاح الشركة. وابتداءً من عام 2015، أنشأت "وودسايد" فريقاً متفرغاً من علماء البيانات. يركز الفريق الآن على ترسيخ علوم البيانات وغير ذلك من المهارات الرقمية في أرجاء المؤسسة باستعمال مجموعة من الأدوات والمنصات الجديدة. وتوظف الشركة علماء البيانات من أفضل الجامعات الأسترالية والدولية ممن يعملون مع أعضاء فريق "وودسايد" من أصحاب الخبرة في مجال التشغيل ويتعلمون منهم.
أسهمت إعادة "ووسايد" النظر في المهارات الأساسية للشركة في تنامي النظرة إلى الشركة بوصفها رائدة في الابتكار في قطاع النفط والغاز. وفي وقت تسعى فيه الشركات الأخرى إلى الخروج من الجائحة، يجب عليها أن تتعلم من تجربة "وودسايد" وأن تفكّر في القدرات التي ستكون حاسمة في عالم الغد إن لم يكن في عالم اليوم أصلاً.
2- أعيدوا تعريف معنى الأداء العظيم
يمكن للمقاربات التقليدية المستخدمة في تقييم الموظفين أن تكون ناجحة وأن تسير على ما يُرام عندما تكون الوظائف التي سيُطلب من الموظفين أداؤها في المستقبل مشابهة إلى حد كبير للوظائف التي يؤدّونها (أو يؤديها آخرون في المؤسسة) اليوم. لكن هذه المقاربات تصبح عقيمة إذا تغيّرت طبيعة العمل، ما يجعل الشركات تعاني في العثور على المرشحين القادرين على تولّي المهام الجديدة. وكما هو الحال بالنسبة لافتراضاتنا المتعلقة بتحديد القدرات التي تعتبر أساسية لأداء الشركة لرسالتها، فإن افتراضاتنا الخاصة بتحديد معنى النجاح يجب أن تتغيّر في أعقاب الجائحة.
لحسن الحظ، هناك أدوات وتقنيات جديدة تستفيد من تحليل بيانات الموظفين والعلوم السلوكية وتستطيع مساعدة الشركات على تعريف "معنى الأداء العظيم" في وظيفة معيّنة وتحديد الموظفين الذين يمتلكون المهارات المطلوبة أو يستطيعون تطويرها بعد الخضوع للتدريب. يسمح هذا الأمر للشركات بوضع استراتيجيات لتطوير المهارات وتوظيف أصحاب هذه المهارات لتلبية احتياجاتها.
كانت "كيميستري غروب" (Chemistry Group)، وهي مؤسسة متخصصة بتحليل بيانات الموظفين تعمل انطلاقاً من المملكة المتحدة قد طوّرت مقاربة رائدة من هذا القبيل لمساعدة الشركات على صياغة توصيفات وظيفية قوية للأدوار الجديدة، وهي توصيفات لا تشتمل على المسؤوليات الأساسية فحسب، وإنما أيضاً الصفات، والسلوكيات، والمهارات التي يتطلبها كل دور من الأدوار. فإذا ما تمكنت الشركات من وضع تعريف صارم للأداء العظيم، فإنها بذلك تنشئ معياراً للمقارنة بوسعها الاستفادة منه في عمليات التوظيف من داخل الشركة ومن خارجها.
استعملت شركة بارزة متخصصة بخدمات الهاتف المحمول أدوات "كيميستري" وطبّقت مقاربتها بنجاح منقطع النظير. فقد رأى قادة الشركة أن التجاوب مع التغيرات الحاصلة في سوق الهواتف الذكية يتطلب منهم إحداث تحوّل في نموذجها التشغيلي في مجال تجارة التجزئة من الدفع باتجاه زيادة مبيعات المعدات إلى التأكيد على حميمية التعامل مع الزبون وتخديمه كما هو مطلوب. ولتحقيق التحول المنشود، شجّعوا الموظفين على تبنّي ذهنيات وسلوكيات جديدة عبر التدريب والإرشاد والتوجيه.
كما أنشأت شركة الهاتف المحمول وظيفة جديدة في كل متجر من متاجر التجزئة التابعة لها تركز على تعزيز تجربة الزبون. واعتمد قادة الشركة على الاختبارات السلوكية وبيانات الاستبيانات لتحديد شكل الأداء العظيم في ذلك المنصب. ثم أخضعت الشركة موظفيها البالغ عددهم 22 ألف شخص لتقييم من أجل اكتشاف الفجوات الأساسية الموجودة في قدراتها. وقد كانت النتيجة التي توصّلت إليها هي قائمة بالموظفين القادرين على النجاح في هذه الوظيفة، وصمّمت مساقات تدريبية للمساعدة على تهيئتهم بسرعة.
كما طوّرت الشركة أيضاً أدوات توظيف تفاعلية لمراجعة طلبات التوظيف التي يتقدّم بها أكثر من 10 آلاف شخص شهرياً لشغل المنصب دون أي تدخّل من البشر، حيث يمكن للمرشحين لشغل الوظيفة استعمال برنامج عبر الإنترنت للتجاوب مع مجموعة من السيناريوهات التي قد يمرّون بها على الأغلب. سمح هذا التحسين لعملية التوظيف لمدراء المتاجر بإمضاء وقت أقل في الإشراف والمراقبة، ما مكّنهم من خدمة الزبائن في صالة البيع. وساعدت هذه المبادرات في توفير أكثر من 7 ملايين دولار من المصاريف التشغيلية وأدت إلى الحصول على آراء تقويمية إيجابية من الزبائن الذين خضعوا للاستبيان وتراوحت نسبة الراضين منهم بين 85% و93%.
بعد خروج الشركات من الجائحة، سوف تكتشف أن ما يفعله الموظفون والطريقة التي يُعرَّف بها النجاح يجب أن يتغيّرا حتماً. وسوف تكون مضطرة إلى تعيين أشخاص يرتاحون إلى هذا الوضع الطبيعي الجديد. والشركات الذكية هي تلك التي تستفيد من التكنولوجيا الآن لتساعدها في تحديد الطريقة الفضلى لإنجاز هذه المهمة.
3- لا تقلّصوا مصاريف تطوير الإدارة
رغم أن جائحة "كوفيد–19" أدت إلى حصول تخمة مؤقتة في أصحاب المهارات في بعض المجالات في سوق العمل، إلا أن هناك صعوبة ما تزال قائمة في ملء العديد من الشواغر الوظيفية في هندسة البرمجيات، والتصميم الرقمي، وعلوم البيانات. وبناء عليه، فإن الشركات الفضلى تتطلع إلى تطوير الإدارة، غالباً بدعم من التكنولوجيا، من أجل إعادة تزويد قواها العاملة الحالية بمهارات جديدة، وسد بعض الفجوات التي تعاني منها على الأقل في مهارات الموظفين الحاليين.
البشرى السارة هي أن إعادة تزويد القوى العاملة الحالية بمهارات جديدة بالطريقة المناسبة يعطي النتائج المرجوة. فبحسب تجربتنا، فإن أكثر من 60% من الأدوار المستقبلية في أي شركة يمكن ملؤها من الموظفين الحاليين، على افتراض وجود برامج مناسبة مطبّقة. كما أن نموذج إعادة تزويد القوى العاملة الحالية بمهارات جديدة أقل تكلفة من نموذج "الطرد والتعيين" لملء الشواغر الوظيفية في الأدوار الجديدة التي تُعتبرُ أساسية لنجاح الشركة. فإذا ما ذكرنا عنصراً واحداً فقط، نقول إن التكاليف المباشرة لإنهاء خدمات الموظفين والمرتبطة بتخفيض أعداد القوى العاملة يمكن أن تكون هائلة، ناهيكم بالأضرار المعنوية الكبيرة التي يمكن أن تطال بقية أعضاء الفريق. كما أن تعيين أشخاص جدد من أصحاب الموهبة يمكن أن يكون باهظ التكلفة، وتحديداً في القطاعات التي تشهد طلباً شديداً مثل علوم البيانات، والتسويق الرقمي، وهندسة البرمجيات.
ثمة مثال يمكن طرحه من شركة "غارديان" (Guardian)، وهي واحدة من كبريات شركات التأمين على الحياة في الولايات المتحدة الأميركية. فحالها حال العديد من الشركات هي تمر بتحول رقمي واسع النطاق يركز على تحديث التكنولوجيا، والبيانات، والعمليات، بهدف تحسين الأداء ودعم الثقافة التي تركز على الزبائن. وقد عرفت ديانا موليغان، الرئيسة التنفيذية لشركة "غارديان" حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وفريقها أن نجاح الشركة يتوقف على استخلاص أكبر قدر من القيمة من مخزونها القيّم من البيانات. لذلك لجأوا إلى تحطيم الجدران العازلة التي كانت في السابق تفصل بين البيانات في الشركة وأنشأوا مجمعاً واحداً متكاملاً للبيانات (يسمّى عادة بحيرة البيانات). واستدعى تحويل البيانات الخام إلى استنتاجات عن الزبائن الاستعانة بعدد أكبر من علماء البيانات مقارنة بما كان موجوداً لدى الشركة أو بمن يمكنها تعيينهم واقعياً. ولكي تسدّ الفجوة، لجأت إلى الاكتواريين العاملين لديها حيث نقلتهم إلى مناصب أعم لها علاقة بعلوم البيانات ودرّبتهم على عدد من المهارات الأساسية الجديدة مثل التحليل التنبؤي.
وعلى المنوال ذاته، أدركت "غارديان" أنها بحاجة إلى نقل قدر أكبر من قدراتها وعدد أكبر من موظفيها الموهوبين في مجال التسويق من الأقسام التقليدية إلى القنوات الرقمية. واستعملت الشركة أدوات تقييم لتحديد أي من الموظفين الحاليين في قسم التسويق يتمتع بأعظم القدرات الكامنة التي تسمح له بالنجاح في المناصب التي لها علاقة بالتسويق الرقمي ثم استثمرت في البرامج التدريبية التي تساعد في تزويد هؤلاء الموظفين بالمعارف والمهارات التي تمكّنهم من النجاح في هذه المناصب والأدوار.
في أوقات الأزمات، قد يكون من المغري بالنسبة للشركات أن تخفّض ميزانيات التدريب والتطوير. غير أن هذه الخطوة لا تنمّ عن ذكاء. فإذا كانت الجائحة ستفعل شيئاً فهي سوف تسرّع تقادم المهارات المهنية، وسيكون تدريب الموظفين القدامى على المهارات الجديدة أسهل من العثور على أشخاص جديد مدرّبين عليها أصلاً.
وهذا ينقلنا إلى الممارسة التالية.
4- زيدوا من حجم الاستعانة بالتكنولوجيا في قسم الموارد البشرية
ستحتاج الشركات التي تعتمد على قوى عاملة كبيرة العدد إلى تغيير الطريقة التي تتّبعها في إدارة الموظفين. وسيصح هذا الأمر أكثر على القوى العاملة المنتشرة على نطاق واسع وهو أمر بات شائعاً خلال الجائحة. ومن منظور الموارد البشرية، لن يكون النموذج القائم على التفاعل البشري المكثف فاعلاً وستكون تكلفته كبيرة.
تُعتبرُ شركة "بينغ آن" (Ping An) بمثابة نافذة تسمح لنا بإلقاء نظرة على مستقبل الموارد البشرية. فالشركة التي تأسست عام 1988 (ويعني اسمها بالصينية "السلام والسلامة") هي أكبر شركة تأمين في الصين وتبلغ إيرادات أقساطها ما يقرب من 100 مليار دولار في حين تزيد قيمتها السوقية على 180 مليار دولار. وهي تعتمد على ما يقرب من 1.5 مليون وكيل لبناء الثقة مع حملة بوالص الشركة وبيع مجموعة منتجاتها التأمينية والمالية، ما يعني أن الشركة مضطرة إلى توظيف الآلاف من الوكلاء الجدد كل عام. ولكي تُنجز "بينغ آن" هذه المهمة، فإنها تستعين بالبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في جهودها في مجالي التوظيف وتطوير الإدارة.
لكي تحدد "بينغ آن" الصفات التي يجب أن يتمتع بها أصحاب الأداء المتفوقون، تجمع البيانات الخاصة بوكلائها الحاليين (بما في ذلك بينات الأداء، وسجلات زيارة الزبائن، والمعلومات التدريبية) وتحللها، وتضمّها إلى آراء الخبراء الخارجيين بخصوص أهمية الطموح، وشبكة الزبائن، والقدرة على التكيف، والمهارة في المبيعات في تحديد مدى إنتاجية كل وكيل. تشكّل هذه المعلومات أساساً للمقابلات القائمة على الذكاء الاصطناعي التي تولّد الأسئلة وتقارن إجابات المرشحين بمجموعة من الإجابات المحددة سلفاً لكي تقرر مدى التطابق بين المرشحين والصفات الأهم المطلوبة.
تمكّنت "بينغ آن" باعتمادها على التكنولوجيا الجديدة والبيانات الضخمة من إدخال تحسين كبير على قدرتها على تحديد أصحاب المواهب العظيمة، وتعيينهم، والاحتفاظ بهم بتكلفة أدنى بكثير. فعلى سبيل المثال، زادت الشركة من نسبة احتفاظها بالوكلاء لمدة 13 شهراً إلى 95% في حين خفّضت تكاليفها بما يصل إلى 90 مليون دولار وظلت قادرة على مواكبة الطلب المذهل على الوكلاء الجدد.
بوسع كل شركة فعل المزيد في هذا المجال. فمع اكتساب الشركات للمزيد والمزيد من البيانات عن الموظفين والمتعاقدين، ولاسيما مهارات كل شخص، وأداؤه، وقدراته الكامنة، وقدرته على تعلّم مهارات جديدة وتولّي أدوار جديدة، سوف تطبّق عمليات تحليل البيانات في الطيف الواسع من أنشطة الموارد البشرية لديها. وسوف تمكّنُ التكنولوجيا الشركاتِ من تحسين أدائها في مجال تعيين أصحاب المواهب، وتوزيعهم، وتطويرهم، والاحتفاظ بهم، بتكلفة أقل. ولا نعرف أي شركة تستفيد بالكامل من جميع المعلومات التي تمتلكها عن قواها العاملة. ومعظم المؤسسات التي بذلت جهداً في هذا المجال بالكاد فعلت شيئاً يُذكر.
في أوقات الأزمات، قد يكون من المغري بالنسبة للشركات أن تخفّض ميزانيات التدريب والتطوير. غير أن هذه الخطوة لا تنمّ عن ذكاء.
5- شجّعوا الموظفين على التفاعل مع التكنولوجيا
يتزايد تفاعل الشركات والعاملين في كل مكان مع العمليات القائمة على الذكاء الاصطناعي، كما هو حال نظام التعيين الذي تتبناه "بينغ آن". وسوف يتسارع هذا الاتجاه في حقبة ما بعد الجائحة، وسنرى أعداداً أكبر من الناس تعمل وتتعامل مع بعضها البعض في العالم الافتراضي. ولسوء الحظ، فإن قلة من الشركات – أو الموظفين – يديرون عملية التفاعل مع التكنولوجيا بطريقة منسّقة، لذلك فإن الموظفين يشعرون بالشك حيالها، ويأتي أداء التكنولوجيا أدنى من توقعات الإدارة.
هذا أمر محزن، لأنه عندما يتعاون الموظفون والتكنولوجيا معاً، فإن الجميع يستفيد. من الأمثلة الجيدة على ذلك "يو إس أيه أيه" (USAA)، الشركة الرائدة في توفير المنتجات والخدمات المالية للأفراد الحاليين والسابقين في الجيش الأميركي وعائلاتهم. فضمن قسم التأمين في شركة "يو إس أيه أيه"، يتعامل مندوبو خدمة الأعضاء مع أكثر من 5 ملايين مطالبة كل عام، ويديرون جميع جوانب العملية، وتقديم أفضل خدمة زبائن ممكنة يعني جعل عملية معالجة المطالبات أريح وأسرع وأدق وأقل تكلفة بالنسبة لأعضاء الشركة. وبناء عليه، فقد اتخذ قادة "يو إس أيه أيه" خطوات لضمان دعم مندوبي الخدمة بخوارزميات تعتمد على تعلّم الآلة والذكاء الاصطناعي لتقدير الأضرار التي تطال المركبات والعقارات بدرجة أعلى من الدقة والكفاءة.
كانت عملية نشر الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي في "يو إس أيه أيه" جهداً تعاونياً وثيقاً بين الفريق التكنولوجي ومندوبي الخدمة في الشركة. فالفريق التكنولوجي يعتمد على المندوبين لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي من أجل ضمان أن يتعلّم النموذج كيف "يفكّر" كما لو أنه مندوب خدمة خبير في "يو إس أيه أيه". يستعمل المعنيون بتقدير الخسائر في الشركة النموذج لتقدير حجم الخسائر التي يتكبّدها الزبائن ويغطيها التأمين، لكنهم قادرون أيضاً على إدخال تعديلات على التقديرات في الميدان مع تقديم شرح يبيّن سبب هذا التعديل. ويستفيد الذكاء الاصطناعي من هذا الشرح بحيث يكون بالإمكان تحديث النموذج وتحسينه بشكل متواصل. أخيراً، تتولى الآلات مباشرة إنجاز المهام الأدنى قيمة مثل كشف الاحتيال والوقاية، ما يسمح لفريق المطالبات بالتركيز بعمق أكبر على التواصل مع أعضاء "يو إس أيه أيه" وتزويدهم بالنصح والإرشادات، وتحديدا الأعضاء الذين يتفاوضون على نظام المطالبات وهي عملية غالباً ما تكون صعبة. يُعتبرُ هذا النوع من العمل أكثر إرضاءً للموظفين ويساعد على تحسين الاستفادة من قدراتهم.
النتائج واضحة. فبفضل المقاربة المتكاملة التي تنتهجها "يو إس أيه أيه" في تطوير الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي ونشرها، ودعم الموظفين الذين يطبّقونها وتطويرهم، حافظت الشركة على موقعها الرائد في مجالي ولاء الزبائن والموظفين. ففي عام 2020، حصلت الشركة على أعلى العلامات بين صفوف شركات التأمين على الحياة من "جيه دي باور" (J.D. Power). وبناءً على نتائج دراسة تعود إلى عام 2018 أجرتها مؤسسة بحوث الزبائن "رادون" (Raddon) وشملت "يو إس أيه أيه"، وصفت نشرة إخبارية الشركة على أنها "أكثر علامة تجارية مالية محبوبة على سطح الأرض". وفي ذلك العام تحديداً، صنّفت "غريت بليس تو ورك" (Great Place to Work) شركة "يو إس أيه أيه" كواحد من أفضل الأماكن للعمل فيها بالاستناد إلى آراء الموظفين. وثمة شيء آخر لا يقل أهمية ألا وهو أن "يو إس أيه أيه" تمكنت من توسيع حصتها السوقية في مجال الخدمات التأمينية والمالية في أوساط العسكريين وعائلاتهم من 63% في 2010 إلى 75% في 2019.
6- اعرفوا ما الذي يريده نجوم الغد منكم
حتى دون الجائحة، كان مدراء الغد سيبحثون عن تقديم عرض قيمة في مكان العمل يختلف اختلافاً كبيراً عما كان يجذب العاملين ويغريهم قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة خلت. فبحلول عام 2030، سيشكل جيل الألفية 75% من القوى العاملة وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأميركي. وهذا الجيل يطمح للحصول على كل شيء من دوام مرن، وتنوع في مكان العمل، وتفاعل، واستقلال ذاتي، وعلاقة ذات مغزى مع صاحب العمل. ولكن بما أن الصدمة النفسية الناجمة عن "كوفيد–19" لا تزال ماثلة في أذهاننا، فإننا قد أعدنا جميعنا اكتشاف أهمية الوظائف ذات المغزى، والزملاء الداعمين، وأصحاب العمل المرنين.
إذا ما أردتم تكوين فكرة أوضح عما ستحتاج الشركات إلى فعله لاجتذاب أصحاب المواهب في المستقبل والاحتفاظ بهم، دعونا نلقي نظرة على "سيرفيس ناو" (ServiceNow)، وهي شركة برمجيات وخدمات خاصة بالمشاريع تبلغ قيمتها 3.5 مليار دولار وتعمل انطلاقاً من سانتا كلارا في كاليفورنيا. خلافاً للعديد من منافساتها في وادي السيليكون، لا تعتمد "سيرفيس ناو" على بهرجات مكان العمل مثل المكاتب الفخمة والكافتيريا التي تقدّم وجبات غداء مجانية وكميات لا محدودة من القهوة. عوضاً عن ذلك، تركز الشركة على العوامل الأكثر حسماً في الاحتفاظ بالموظفين وإلهامهم، ألا وهي ثقافة إشراك الجميع، ومكان العمل الذي يسهّل إنجاز المهام بسرعة، وتقديم أعلى المكافآت للموظفين الذين يحافظون على درجة عالية من التواضع ويظلون متعطشين للمعرفة.
في 2017، أطلق الرئيس التنفيذي للشركة وقتها جون دوناهو (وهو الرئيس التنفيذي السابق لشركة "بين")، وفريقه خطة لتحويل "سيرفيس ناو" من مؤسسة تركز على التكنولوجيا والهندسة إلى مؤسسة تركز على الموظفين والزبائن. وقد بدأوا أولاً بتغيير العلامة التجارية للشركة، على المستويين الخارجي والداخلي، بوصفها مؤسسة تكرّس نفسها لشعار "جعل عالم العمل أفضل للموظفين".
وتعاون بات وادورز، مدير إدارة المواهب في "سيرفيس ناو" حتى أواسط العام 2000، وآلان ماركس، مسؤول التسويق والتواصل في الشركة على عرض القيمة الجديد الذي توفّره الشركة على موظفيها وعلى الأشخاص الذين يُحتمل انضمامهم إلى صفوف قواها العاملة. وقد اكتشفا أن عاملي الغد لا يريدون تعويضا عظيما فحسب، بل هم يتوقون أيضاً إلى تكوين صلة عميقة بصاحب العمل الذي يعملون لديه وبغايته. وهم يريدون أن يكونوا جزءاً من مؤسسة تؤدي مهمة سامية، تتمثل في تسهيل عمل جميع الناس. وهم يريدون أن يشعروا بالانتماء والاندماج، أي أن يكونوا جزءاً من ثقافة تشجّع جميع الموظفين على تقديم أفضل ما لديهم في العمل كل يوم.
بناء على ذلك، بنت "سيرفيس ناو" ثقافة قائمة على التنوع، واتّخذت خطوات حاسمة لتعزيز حس الاندماج في مكان العمل. وهذا هو ما يميزها عن شركات التكنولوجيا الأخرى، التي ينظر العديد منها إلى التنوع بوصفه "مسألة توظيف" عوضاً عن اعتباره حجر الزاوية في استقطاب أصحاب المواهب.
اكتشفت "سيرفيس ناو" أيضاً أن موظفي المستقبل لا يختلفون اختلافاً كبيراً عن زبائنها، من حيث رغبتهم في أن تسدي لهم الشركة خدمة أكبر. لذلك عمدت إلى نشر العديد من منتجاتها لتسهيل عملية إعداد الموظفين الجدد والأنشطة الإدارية الروتينية وتسريعها. تركز العمليات الخاصة بالموظفين في الشركة على الجانب الإنساني، والنمو، والتطوير. ,تعليقاً على ذلك، قال لنا أحد الموظفين: "الأشخاص يُعاملون هنا كراشدين. ليست هناك عقبات كثيرة تقف حجر عثرة في طريق إنجاز الأشياء". أخيراً، تساعد ممارسات العمل المتساهلة في "سيرفيس ناو" التي تسمح بالعمل من المنزل وأخذ الإجازات الشخصية للموظفين أن يعملوا متى يشاؤون وحيث يريدون بحيث يدعمون ثقافة الإنتاجية وليس ثقافة عد ساعات الحضور الشخصي في المكتب. وقد ثبتت قيمة هذه الممارسات تحديداً في أثناء الجائحة.
لم تمر مقاربة "سيرفيس ناو" الفريدة من نوعها دون أن يلاحظها أحد. فعندما أجرت "غلاسدور" (Glassdoor) استبياناً شمل موظفي الشركة الحاليين والسابقين، أشار 69% من المشاركين في الاستبيان إلى أنهم يوصون أفراد عائلاتهم أو أصدقائهم بالعمل لدى "سيرفيس ناو" لو أتيحت لهم الفرصة، وهذا مستوى من رضا الموظفين يضع الشركة في أحسن 5% من أصحاب العمل على المستوى العالمي.
تسهم التكنولوجيا حالياً في إحداث تحوّل جوهري وجذري في طبيعة العمل. لكن المقاربة التي تتبعها معظم الشركات في تخطيط القوى العاملة وإدارة الموارد البشرية لم تتغير كثيراً طوال العقدين الماضيين. وبينما تعيد الشركات بناء قواها العاملة في أعقاب "كوفيد–19"، يجب عليها أن تنتقل إلى العصر الرقمي. ويجب أن تصبح عملية التخطيط الخاصة بأصحاب المواهب وإدارتهم عملية أكثر استراتيجية، وشمولية، وصرامة، واعتماداً على البيانات. وستجد الشركات التي تعيد البناء باتباع عمليات تقليدية غير رقمية نفسها متخلفة عن ركب المنافسين الأكثر تطلعاً إلى المستقبل الذين يفوقونها سرعة. ونظراً إلى الوقت المطلوب لبناء شبكات من أصحاب المواهب المؤهلين لشغل الوظائف، يجب على الشركات أن تسارع اليوم قبل الغد إلى تهيئة نفسها لتكون جاهزة للصمود مستقبلاً.