مع استمرار العواقب طويلة الأجل لجائحة "كوفيد-19" بالتطور والتأثير على المواطنين وراسمي السياسات والشركات في العالم أجمع، نتصل على الدوام بقادة الشركات العائلية الذين يشرفون على مؤسسات معقدة مستمرة على مدى عدة أجيال. بعضهم يصارع مشكلات وجودية تتعلق باستمرارية المؤسسة، في حين يواجه آخرون صعوبات في تلبية الطلب على خدمات مؤسساتهم، وكثير منهم يواجه الحالتين معاً ضمن مجموعة أنشطة واسعة. فماذا عن تكيف الشركات العائلية مع الأزمات المستمرة؟
إدارة الأزمة في الشركات العائلية
تشترك الشركات العائلية القادرة على إدارة الأزمة بفعالية حتى الآن بنقطة تشابه مذهلة، تتمثل في مدى إيلاء قادتها الأولوية لحوكمة الشركة على اعتبارها "خدمة وجودية". مر كثير من هذه المؤسسات بعدة أزمات من قبل، سواء كانت حالات ركود أو تغيير الأنظمة أو كوارث طبيعية أو حروب، ويعي قادتها أن الحفاظ على وحدة العائلة المالكة للشركة والتزامها عن طريق حوكمة الأزمة هو أمر حيوي لاستمرارية المؤسسة يساوي بأهميته القيادة الفعالة والإدارة الاستباقية في الأزمات.
ونعني بمصطلح "حوكمة الأزمة" تكييف إدارة الشركة في ظل ظروف الغموض الشديد، بهدف ضمان أن يبقى كل من العائلة المالكة وأعضاء مجلس الإدارة والمسؤولين التنفيذيين متوافقين حول الرؤية بعيدة الأمد والقيم الجوهرية والتوقعات المالية وعمليات إدارة المخاطر. والتعاون والتواصل بفعالية هما أولوية بديهية في ظل ظروف العمل العادية. أما في الأزمات فيصبحان أمران أساسيان إذ يصبح القادة مجبرين على القيام بمفاضلات صعبة باستخدام موارد شحيحة وجداول أعمال منافسة ووقت محدود.
تكيف الشركات العائلية مع الأزمات
يتسق هذا الانتقال إلى حوكمة الأزمة بدرجة كبيرة مع ما شهدناه في مشروع بحث امتد على مدى عدة أعوام أجريناه على قدرة التحمل لدى الشركات العائلية في الأسواق الجديدة والمبتدئة، حيث تكون المخاطر شديدة والغموض هو القاعدة لا الاستثناء. في هذه البيئات، غالباً ما تنبع القدرة على التحمل عن مجموعة من الاستراتيجيات المشتركة لتكييف العمليات، كاستراتيجية الفائض عن الحاجة والنهج التجميعي على سبيل المثال، بالإضافة إلى التزام شديد بإرث العائلة وقيمها الجوهرية، وتصميم فعال وذكي لنظام الحوكمة. ومن دون هذا الوضوح والنظام، كيف سيتمكن المسؤولون في المناصب الإدارية العليا ومجالس الإدارة ومجالس العائلة من إدارة المفاضلات المعقدة الناجمة عن هذه الظروف؟
كيف سيتمكنون من الوفاء بالتزاماتهم السابقة للمصارف والموردين والعملاء حفاظاً على سمعة العائلة عندما تصبح السيولة النقدية مورداً حيوياً؟ كيف سيحددون ما إذا كان عليهم تخفيض عدد الموظفين وإيقاف عمل الشركات العريقة المتعثرة؟ كيف سيحددون الوقت المناسب لتخفيض الأجور والمزايا أو إيقاف توزيع الأرباح التي يعتمد عليها أفراد العائلة؟ كيف يستخدمون رأس المال المالي والمادي والاجتماعي من أجل تخفيف المعاناة في مجتمعاتهم المحلية؟ كيف يقومون بالتضحيات قصيرة الأمد الضرورية في الأزمة من دون المخاطرة باستمرارية الشركة على المدى البعيد؟
خلافاً للشركات التي يكون مساهموها عبارة عن مجموعة مستثمرين مجهولي الهوية، فإن العائلات المالكة التي تشارك في قيادة شركاتها تهتم بكل تأكيد بالنواحي الاقتصادية من استثماراتها، ولكنها تركز أيضاً بشدة على المساهمين الداخليين والخارجيين الذين كانوا سبباً في نجاح الشركة. وتعتبر "الملكية" في هذا النوع من الشركات تجربة نفسية عميقة، إذ إنها هوية تربط هذا النجاح بقدر عملاء الشركة وموظفيها والمجتمعات التي تعيش ضمنها وتخدمها. وينتج إحساس الملكية لدى المالكين من الاستثمار في الحوكمة على مدى أعوام، وذلك يشمل تصميم الأنظمة والسياسات والعمليات الفعالة، إلى جانب التطوير المنهجي للمالكين والقادة المستقبليين. ويتم توجيه هذا الإحساس وتعزيزه عن طريق التزام واضح باستدامة إرث العائلة عبر الأجيال.
"منفذ الخروج من الأزمة" (Crisis Portal)
وكما وثقنا في مشروعنا الذي أطلقنا عليه اسم "منفذ الخروج من الأزمة" (Crisis Portal), يقول عدد كبير من العائلات التي تواصلنا معها منذ بداية انتشار جائحة كوفيد-19، إن هذه الأزمة دفعت أعضاء الحوكمة في شركاتها للتقارب فيما بينهم أكثر، وهم عادة من أعضاء مجالس الإدارة والمجالس التشغيلية والهيئات التنفيذية والمجالس العائلية. يبدو أن الشركات العائلية التي تبلي بلاء حسناً في هذه الظروف هي التي يقوم القادة من أفراد العائلة فيها من مختلف المجالس القيادية، وهم رؤساء المجالس والرؤساء التنفيذيين عادة، بزيادة وتيرة تواصلهم فيما بينهم وتوسيع نطاق تعاونهم مع اتباع فلسفة "الإدارة من دون التدخل في سير العمليات"، والتي تعني أن يدركوا مسؤوليتهم في الانتباه إلى ما يجري في الشركة والتنبيه إلى المشكلات والمخاطر التي يلاحظونها، إلى جانب السماح للإدارة بتسيير الشركة من دون تدخل فعلي منهم. وفي حين أنه من المفيد أن تولي فرق الإدارة المختلفة كامل اهتمامها للشركة، إلا أنه من الضروري أيضاً أن تتم متابعة مدى فعالية تنسيق جهودها للاستجابة للأزمة. في بعض الأحيان، يولّد المستوى العالي من التفاعل ارتباكاً بشأن المسؤول عن القرارات الجوهرية التي تؤثر على العائلة والمساهمين والشركة على حد سواء. ومن المفهوم أن يشعر المالكون بالقلق عندما لا يرون صورة واضحة بما يكفي لعمليات مجلس الإدارة واستجابة الإدارة، أو عندما يتلقون رسائل مختلطة من أجزاء مختلفة من الشركة.
لذا يحتاج المساهمون إلى رواية ذات سياق مشترك من أجل المساعدة على تأطير القرارات الاستراتيجية التي يتم اتخاذها في الشركة بأسرها، وخصوصاً عند الحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة أو إجراء تغييرات تحويلية ستؤثر على المساهمين كأفراد وكمجموعة على حد سواء. ولهذا السبب، غالباً ما تلجأ العائلات إلى القادة الخبراء في الشركة طلباً للتوجيه حول طريقة التكيف مع هذه الظروف الصعبة. لذا، يجب أن يقوم كبار المسؤولين التنفيذيين بتحديد سياق تكيف الشركة، في حين يقوم مجلس الإدارة بوضع سياق التوقعات حول توزيع الأرباح والسيولة والتقييمات، ويقوم مجلس العائلة والمؤسسة الأسرية عادة بوضع السياق المناسب لقدرة التحمل الفردية والجماعية وفرص العمل الخيري الجماعي ونشره.
كما تستفيد العائلات الممتدة على عدة أجيال من الذاكرة المؤسسية الطويلة عن تجاوز الأزمات الماضية، لترسل إشارات أمل قوية للعائلة بأنها قادرة على تجاوز هذه الأزمة أيضاً. في هذه الحالات، حتى إذا خرجت المؤسسة من الأزمة مختلفة جوهرياً عما كانت عليه من ناحية النظام والاستراتيجية، تبقى قيمها الجوهرية على حالها ويرجع إليها الفضل في دعم قدرة المؤسسة على التحمل، إذ تمدها بالاستقرار والتوجيه في خضم التقلبات. وستؤدي طريقة استجابة مجالس الإدارة والمسؤولين التنفيذيين ومجالس العائلة والمؤسسات الأسرية للتحديات الحاضرة إلى غرس ذكرى عميقة في أذهان جميع من يعتمد عليهم، ليس لتنفيذ الأمور على النحو الصحيح فقط، وإنما للقيام بما يجب القيام به أيضاً، وهذا شعار واحدة من العائلات التي نتعامل معها.
وكذلك، في اتصال أجريناه عبر الفيديو مع قادة إحدى الشركات العائلية المهيمنة في الجيل الرابع، والتي يعمل فيها أكثر من 60 عائلة مساهمة تنحدر جميعها من مؤسسي الشركة، لخص رئيس الشركة هذه المعضلة بأسلوب جميل بقوله:
"أولوياتنا الآن واضحة وقائمة على مبادئ محددة، وهي: صحة موظفينا تأتي في المقام الأول؛ ويجب أن نأمل للأفضل ونخطط للأسوأ؛ ويجب أن نضمن أن يكون مخزوننا من السيولة النقدية كافياً؛ ويجب أن ندعم الأضعف داخلياً وخارجياً؛ ويجب أن نتمتع بالمرونة في صناعة القرار؛ ولا يمكننا اعتبار أي شيء مسلماً به؛ ويجب ألا ننسى أن الأزمات تجلب الفرص أيضاً".
كانت قدرته على قول ذلك بثقة والدعم الواضح الذي تقدمه له عائلته بأكملها بصورة خاصة، دليلاً على الثقة العميقة التي بنتها العائلة عن طريق مشاركتهم الدائمة بنشاطات الحوكمة على مدى أعوام كثيرة، وتواصلهم الذي يتسم بحسن التوقيت والشفافية مع العائلة وجميع المساهمين الأساسيين على مدى الأشهر الماضية.
الثقة عملة أساسية في عالم الحوكمة، وخصوصاً في أوقات الأزمات المضطربة. يجب أن تكون العائلة المالكة على ثقة تامة بأن ممثليها في مجلس الإدارة ومجلس العائلة تتم متابعتهم بدقة وأنهم يتمتعون بالمهارات اللازمة للإدارة بكفاءة. كما يجب أن يكونوا على ثقة بأن القادة يضعون مصالح جميع المساهمين نصب أعينهم عند اتخاذ القرارات الصعبة حول تخصيص رأس المال الشحيح وإجراء التغييرات المؤسسية. كما يجب أن يكونوا على ثقة تامة أن المسؤولين التنفيذيين والموظفين يقومون بإدارة استجابتهم للأزمة بكفاءة، وأنهم يبذلون ما بوسعهم لتحقيق التنسيق الفعال بينهم في بيئة العمل ضمن المؤسسة.
يؤدي الالتزام بتحمل المسؤولية عبر مختلف الأجيال ضمن نظام الحوكمة عادة إلى توجيه القادة إلى كيفية وضع الأولويات لسيل الخيارات المحزنة التي تفرضها عليهم الأزمات المماثلة لأزمة "كوفيد-19" وطريقة استجابتهم لها. وتعتبر درجة تقليص القادة أو توسيعهم لما يستثمرونه من وقت وانتباه وموارد في الحوكمة اختباراً لمصداقيتهم. وكثيراً ما نصادف عائلات تشعر أن بنية الحوكمة لديهم معقدة ومكلفة ومشتتة للانتباه، وبالنسبة لهم، فإن "التحرك الحقيقي" يكون على مستوى الأعمال التشغيلية حيث "تجنى الأموال". وخصوصاً في الأزمات ويوجه معظم الانتباه بصورة مفهومة إلى التدفق النقدي والتقييم. لكن في هذه الأوقات تحديداً، تولد الأنظمة والإجراءات التي تطبقها العائلات من أجل حوكمة شركاتها أكبر العائدات.
وإذا تفاعل القادة من العائلات معها وعززوها واستفادوا منها على نحو فعال، سيتمكنون من إدارة تكيف الشركات العائلية مع الأزمات ووضع شركتهم في أفضل مركز ممكن كي تتمكن من تحمل المرحلة التالية الطويلة من هذه الأزمة، وكي تحقق في نهاية المطاف أقصى استفادة من الأيام الأفضل في المستقبل.
اقرأ أيضاً: