تنتشر السلوكيات غير الأخلاقية القائمة على النوع في أماكن العمل، والنساء هم أكثر من يتعرض لهذه السلوكيات. ويمكن أن يشمل هذا النوع من السلوكيات التحرش، ولكن يتسع معنى التحرش ليشمل أيضاً أي سلوك ينتقص من أي شخص أو يسيء إليه أو يهينه على أساس نوعه البشري وهو السكوت عن التحرش. وتكشف دراسة أجريت على النساء اللائي يعملن في مجالي الشئون العسكرية والقانونية أنّ تسع نساء من بين كل 10 سبق أن تعرضن لتحرش قائم على النوع في عملهن.
الصمت عن التحرش
ويختار معظم الضحايا التزام الصمت حيال ما يتعرضون له من تحرش. وتشير الدراسات إلى أنّ الضحايا يلتزمون الصمت خوفاً مما قد يجره ذلك من تبعات في العمل أو لشعورهم بعدم جدوى الإفصاح عما مروا به. أما ما لم تتعرض له الدراسات بالشكل الكافي فهو كيف يحدث هذا الصمت.
في عام 2016، عزمنا على معرفة تفاصيل سكوت الضحايا من النساء وكيفية تكميم أفواههن، من يؤثر عليهن وما الذي يحدث تحديداً عندما يحاولن الإفصاح عن الأمر. أجرينا مقابلات مع 31 امرأة في بداية أو منتصف حياتهن الوظيفية يعملون في كليات أعمال بجامعات بحثية في المملكة المتحدة. سألنا النساء هل تعرضن هن أو إحدى معارفهن لتصرفات مسيئة أو عدائية أو مهينة جعلتهن يشعرن بالمضايقة أو الإقصاء أو كليهما بسبب أنهم نساء. لقد شجعناهن على التحدث عن المواقف بشكل واضح قدر الإمكان ووصف شعورهن أو شعور معارفهن في كل مرة.
اقرأ أيضاً:
- نقاش: لماذا لم تتحسن بيئات العمل إلى الآن بعد حملة #أنا_أيضاً؟
- هل انخفضت نسبة التحرش في العمل منذ حركة #أنا_أيضاً؟
تحدثت النساء عن عدد كبير من الحالات، منها التعليقات المتحيزة ضد المرأة والتحرش أثناء الحمل وبعد الولادة والتنمر والتودد بدوافع غير أخلاقية. وسألناهن إن كنّ فضلن الصمت عما حدث أم أبلغن عنه.
وعلى عكس ما توقعنا، أخبرتنا جميع النساء أنهن أخبرن المدراء المباشرين ومسؤولي الموارد البشرية وزملائهن في العمل بالأمر لمحاولة فهم ما حدث والتماساً للإنصاف فيما تعرضن له من إيذاء. وأخبرننا كيف تم إقناعهن في نهاية الأمر بتخطي الموقف والتوقف عن إثارة هذه المسألة.
الحواجز التي تواجه ضحايا التحرش عند محاولة الافصاح عنه
لاحظنا وجود ثلاثة أنواع من الحواجز التي تواجهها الضحايا عندما يحاولن الإفصاح عما تعرضن له من تحرش قائم على النوع. أولاً، تم إخبارهن أنّ عليهن إثبات أنّ ما تعرضن له كان حادثة غير عادية وتستدعي الاهتمام حقاً، وثانياً، كان يُنتظر منهن "الوثوق بالنظام" لحل مشاكلهن، وثالثاً، واجهت هؤلاء النساء عواقب شديدة، مثل تأثر سمعتهن، عندما حاولن تحدي النظام.
إثبات أنّ الحادثة غير عادية وتستدعي الاهتمام حقاً
غالباً ما تم إخبار الضحايا أنّ ما تعرضن له لا يمثل تحرشاً، حيث إنها حوادث عادية ولا أهمية لها، وأنهن إن أردن تقديم شكوى رسمية، فعليهن إثبات عكس ذلك. وضحت لنا ألاينا، أستاذة مساعدة ممن تحدثنا معهن، كيفية استجابة مديرها المباشر لشكواها بخصوص تودد زميلها الأعلى منصباً إليها بشكل غير مرغوب فيه، فتقول:
كان لطيفاً للغاية في البداية، ولكن بعد ذلك، أصبح يرغب دائماً في العمل مساء. لم يكن لدي مشكلة في ذلك، ولكنه استمر في مدحي والإطراء على مظهري، ما جعلني أشعر بعدم الارتياح تماماً. كان الناس ينظرون إلينا وكأننا مرتبطان. لم يكن يضايقه الأمر، بل كان جلوسه بجانب امرأة شابة يرضي غروره. كان رئيس القسم الذي أعمل به الشخص الوحيد الذي أثق به، لذلك أخبرته بالأمر. استمع إلي باهتمام ثم ضحك واستخف بالأمر معللاً أنّ هذه الأمور تحدث دائماً، وليس علي أن أتعامل مع الموضوع بهذه الجدية. في النهاية، لم يجبرني ذلك الشخص على شيء، كنت أوافق على الذهاب برفقته إلى كل الأماكن التي دعاني لها، حتى انتهى بي الأمر وأنا أشعر بالخجل...إنه رئيس القسم، إنه يعلم عمّ يتحدث، أظن ذلك. أنا لا أعلم ما علي فعله.
عندما افترض مدير ألاينا أنّ التجربة التي مرت بها ليست ذات أهمية، جعلها تبدو كشخص يسيء تفسير ما يحدث معه من مواقف. كما أنه لمّح إلى أنها قد تكون "شجعت" ذلك الشخص لأنها وافقته على مقابلته في أماكن مختلفة، ما جعلها تشعر أنها مسؤولة جزئياً عما حدث معها، ما يجعل شكواها بلا معنى.
وبالتالي، شعرت ألاينا بالحرج الشديد، وعلى الرغم من أنها لم تقبل تماماً بحكم مديرها، إلا أنّ منصبه الأعلى منها في المؤسسة أشعرها بشرعية رأيه إلى حد ما، فرأت أنه لا مجال أمامها لتحدي النظام. واختارت على مضض أن تظل صامتة.
الوثوق في نظام الشركة لحل المسألة
عندما اشتكت النساء إلى الموارد البشرية، فغالباً ما طُلب منهن التحلي بالصبر حتى تُحل المشكلة بهدوء. وحكت لنا نيف، التي تعمل بصفة باحث أول، ما حدث معها عندما اشتكت مضايقة أحد زملائها الأعلى منصباً لها، فتقول:
لم أكن أشارك في الكثير من تفاصيل العمل، وكانت هناك بعض المجالات التي أتميز فيها عن جميع أعضاء فريقي، ولكن لم يُطلب مني المشاركة. كان المكان يبدو كناد للفتيان، وشعرت أنني أُعامل بطريقة مختلفة عن الآخرين في المجموعة، كما كنت أتعرض للاضطهاد عندما أحاول الشكوى من بعض الأمور. لم أستطع تحمل الأمر أكثر من ذلك، لذا، لجأت إلى قسم الموارد البشرية. طلبوا مني الهدوء وأخبروني بأنهم سينظرون في الأمر، وبعدها جاءني ردهم على الفور تقريباً وأخبروني بأنّ الجميع يتحدثون بشكل إيجابي عن ذلك الشخص ويمتدحونه. ولكن بعد ذلك شعروا بالتعاطف حيال ما أشعر به، لذلك، تحدثوا مع ذلك المدير وكانوا يريدون حقاً مساعدتي في الاندماج مع فريقي بشكل أفضل. وهذا كل ما حدث.
كانوا يرون أنّ مشكلتي حُلت بذلك، وأشاروا إلى أنه عليّ عدم التحدث عن مثل هذه الأمور لأي شخص لأنها تعتبر مسائل سرية. لقد بعثوا بداخلي شعور أنني شخص درامي شديد الحساسية وهم يساعدونني على تجاوز ما أمر به من مشكلات. أصبح المدير الآن لطيفاً معي، إنه تقليل من شأني، لن يغير ذلك حقيقة ما فعله. أعتقد أنه كان عليهم أن يتحدثوا معه، فأنا أستحق بعض الإنصاف فيما تعرضت له. ولكن بعد هذه التجربة مع الموارد البشرية، أشعر بالحيرة، إذ أشعر أنّ لدي وجهة نظر لم يتم الاعتراف بها، ولكن يبدو أنهم يعتقدون أنه تم التعامل معها وحلها. أنا أشعر حقاً بخيبة الأمل ولا أتحدث كثيراً مع أي شخص في المؤسسة إلا إذا كان ذلك ضرورياً حقاً.
حاول موظفو الموارد البشرية "حل" مشكلة نيف بأن طلبوا من المذنب التعامل معها بلطف. وبقدر ما كان يهمهم، حصلت نيف على الدعم المطلوب وحُلت مشكلتها. إلا إنّ نيف شعرت بأنّ ذلك استصغار لها وأحسّت أنها في موقف محرج وكأنها شخص "درامي حساس". كانت ترى أنهم لم يتعاملوا معها بإنصاف، كما تركتها رغبة الموارد البشرية في إغلاق شكواها في حيرة من أمرها.
المعاناة من عواقب تحدي النظام
أخبرتنا النساء اللاتي قابلناهن أنهن سمعن الكثير من النصائح من زملائهن ذوي النوايا الحسنة بعدم إبداء استيائهن لما قد يترتب على ذلك من عواقب على مسيرتهن المهنية وما قد يتعرضن له من عزلة اجتماعية. حكت لنا آبي عن التحذيرات الكثيرة التي سمعتها من زملائها بخصوص رغبتها في شكوى زميلها الأعلى منصباً الذي تعرض لها بالمضايقة:
لقد جعل حياتي جحيماً أثناء إجازة الأمومة. كان يلاحقني بتلميحاته أنني اخترت وقتاً استراتيجياً لإنجاب أطفال خلال فترة تقديم المنح المالية في المؤسسة. وكان رأي أعضاء الفريق أنه "حتى إذا تركت المؤسسة، فإنّ كسب عداوة الشخص الخاطئ قد تدمر حياتك المهنية، خاصة إذا كان ذلك الشخص يعمل في مجالك نفسه. لذلك، كل ما عليك فعله هو التحلي بالهدوء، فأنت بالطبع لا ترغبين في أن يُعرف عنك أنك شخص طفيلي يريد المال دون تعب". بالطبع لا أرغب في ذلك، لذلك، أنا أشعر بالخوف من فتح فمي بكلمة، على الرغم من أنني حقاً أتمنى لو يمكنني التحدث.
لم تحظ آبي بالاحترام حيال إجازة أمومتها، ولكن أصر زملاؤها المقربون ألا تصعد المسألة أكثر من ذلك، إذ ستجعلها إثارة هذه المسألة تبدو كشخص "مثير للمتاعب" ويؤثر ذلك بشكل سلبي على حياتها المهنية، ما زرع بداخلها الخوف وجعلها تفضل الصمت.
إنهاء التواطؤ في مسألة التحرش
بناء على ما توصلنا إليه من نتائج، نرى أنّ التحرش القائم على أساس النوع ليس مترتباً على تصرفات فردية فحسب، بل يحدث باشتراك عدة عوامل خارجية مختلفة. وتعكس كل من هذه الحالات إمكانية تواطؤ المدراء ومسؤولي الموارد البشرية والزملاء في تكميم أفواه من يتعرضون للتحرش وتشجيعهم على الوثوق في النظام وحثهم على الاحتفاظ بهذه التجارب لأنفسهم.
ولا يوفر هذا التواطؤ للمذنب ملاذاً آمناً للاستمرار ويتيح له الإفلات من العقاب فحسب، بل يجعل الضحايا يشعرون بالحيرة وبأنهم بلا مساند أو داعم، ما يجعلهم مجبرين في النهاية على قبول الأمر. وعندما يشعر الضحايا بالإحباط، يفقدون ارتباطهم بالعمل وبالنسيج الاجتماعي داخل أماكن العمل، ومن المعروف عن هذا السلوك تأثيره على الإنتاجية والالتزام المؤسسي وأرباح الشركة.
وهنا نقدم بعض التوصيات للمؤسسات والموظفين. أولاً، من الضروري التعامل مع شكاوى التحرش القائم على النوع باعتبارها مشروعة قانوناً. يتعين على المدراء المبادرة بتوعية الموظفين بمشروعية تقديم الشكاوى، وعلى الشركة وضع سياسات لحماية الموظف المشتكي.
ثانياً، من الضروري إتاحة قنوات للإبلاغ عن حالات التحرش، ليس ذلك فحسب، بل أيضاً وضع سياسة توضح المعنى التفصيلي للتحرش القائم على النوع وإجراءات التعامل مع الحالات المبلغ عنها ووضع آليات لدعم الموظفين أثناء عملية التظلم وبعدها.
وثالثاً، من الأمور شديدة الأهمية التأكد من شعور الضحايا بوصول صوتهم وتصديق مخاوفهم والتعامل شكواهم بجدية. يجب التأكيد عليهم بأنه ستتم محاسبة المخالفين ومنع تكرار مثل هذه الأمور. فإذا شعر الموظف بأنّ المؤسسة تتستر على المخالف ولا تتحرى العدالة، فيمكن أن يؤثر ذلك بشكل سلبي على التزامه وحماسه للعمل.
وفي النهاية، ينبغي على الموظف التفكير في كيفية استجابته لمخاوف زملائه، وإدراك ما لأفعاله عليهم من انعكاسات. عندما تشجع زملائك على تجنب الحديث عما يتعرضون له، فإنك تساعد على خلق ثقافة تبيح التحرش، وتشجع السكوت عن التحرش.
اقرأ أيضاً: