السر الحقيقي وراء استبقاء المواهب

13 دقيقة
أصحاب المواهب
shutterstock.com/Olivier Le Moal

اضطر المدراء على مدى العقود العديدة الماضية إلى التكيف مع حقيقة مرّة: يمكن للأفراد أصحاب المواهب الفريدة أن يؤثروا تأثيراً عميقاً في قيمة العمل الذي تنتجه مؤسساتهم وطبيعته حتى. ويمكن لاستوديو الأفلام أن يُنتج فيلماً من بطولة جوليا روبرتس أو شخص آخر، لكن تقييمات الفيلم لن تكون متماثلة. ويمكن لفريق "غرين باي باكرز" (Green Bay Packers) أن يلعب كرة القدم دون لاعب الوسط آرون رودجرز، لكنه سيضطر إلى اتباع خطة هجوم مختلفة. وإذا فقدت شركة صناعات دوائية عالِمها متميّز الأداء، فقد تضطر إلى تغيير برنامجها البحثي. وإذا فقد صندوق التحوط خبير الاستثمار المميز، فلا بدّ حينئذ من تغيير نهج الاستثمار.

ومع سيطرة اقتصاد المعرفة على عالم الأعمال، ازدادت سطوة الأشخاص ذوي الخبرات والمهارات النادرة، سواء كانوا مدراء تنفيذيين في الشركات أو علماء بحوث أو مدراء أموال أو فنانين أو رياضيين أو مشاهير. في الوقت نفسه، حدّثت التكنولوجيا والابتكارات أسواق رأس المال، وهو ما جعل الحصول على التمويل أسهل بكثير وعزز من نقل القوة من رأس المال إلى المواهب. وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في دخل أصحاب المواهب في العديد من المجالات على مدى العقود الأربعة الماضية، لا شيء يضاهي قدرة مدراء المستويات الإدارية العليا على استخلاص القيمة. على سبيل المثال، حقق ستيف بالمر الغالبية العظمى من ثروته البالغة 96 مليار دولار عندما شغل منصب أول مدير أعمال لصالح بيل غيتس. ويعود مصدر القيمة الصافية لثروة إيريك شميت البالغة 24 مليار دولار إلى توليه زمام إدارة شركة جوجل لمدة 10 سنوات، في حين تُعزى ثروة ميغ ويتمان البالغة 5 مليارات دولار من العمل كرئيسة تنفيذية لصالح شركة إيباي لمدة 10 سنوات.

في الواقع، أسفرت تلك الأرقام المذهلة إلى ظهور اعتقاد أن ما يحفز الموظفين متميزي الأداء هي التعويضات وأن المكافآت المالية الكبيرة هي السر وراء توظيفهم واستبقائهم. لكن لا يوجد إلا جزء ضئيل من الحقيقة في ذلك الاعتقاد. وقابلت بالفعل العديد من الرؤساء التنفيذيين الذين عززوا القيمة المدركة لشركاتهم بهدف زيادة مقدار تعويضاتهم القائمة على الأسهم؛ والعديد من مدراء صناديق التحوط الناشطين الذين يقوّضون أداء شركاتهم بهدف تحقيق مكاسب قصيرة الأجل؛ والعديد من المصرفيين الاستثماريين الذين يقنعون عملاءهم بإجراء عمليات استحواذ تفتقر إلى الحكمة سعياً وراء تقاضي أجوراً أعلى؛ والكثير من الاستشاريين الذين يبيعون عملاءهم أعمالاً لا يحتاجون إليها.

ومع ذلك، لا يدور جوهر حديثي حول أولئك الأفراد، ولا يمتلك أي منهم القدرة أو الدافع لجعل مؤسساتهم أو فرقهم متميزة لفترة مستدامة. ويمكنني القول بثقة أنني لم أقابل خلال 40 عاماً من العمل مع أصحاب المواهب من المستويات الإدارية العليا أي شخص كان دافعه الوحيد أو الأهم هو التعويضات. وهو ما يقودني إلى طرح الفكرة التي يجب على المدراء معرفتها: وهي أن الشعور بالتميز أهم من التعويضات بالنسبة لأصحاب المواهب. وكما سأوضح في هذا المقال، يكمن سر النجاح في إدارة الموظفين متميزي الأداء في جعلهم يشعرون أنهم أفراد ذوو قيمة، وليسوا مجرد أعضاء في مجموعة، بغض النظر عن مدى تميّز تلك المجموعة.

وسأبدأ بقصة جايلز.

فكرة المقالة باختصار

التحدي

قد يكون لأصحاب المواهب الفريدة تأثير كبير على جودة العمل الذي تنتجه المؤسسة. وبالتالي، من الضروري أن تحافظ على سعادة موظفيك متميزي الأداء.

ما الأخطاء التي تقع فيها الشركات؟

يفترض العديد من المدراء أن تقديم التعويضات هو الحل، لكن نادراً ما كان للمال قدرة على استبقاء موظف موهوب ومتميّز؛ بل يحتاج الموظفون متميزو الأداء إلى الشعور بالتميز، أي أنه لا يمكنك معاملتهم كما لو أنهم مجرد موظفين عاديين يتقاضون أجوراً جيدة في مؤسستك.

ماذا تفعل عوضاً عن ذلك؟

يجب على المدير أن يُعرب عن تقديره للموظفين متميزي الأداء بثلاث طرق: من خلال الاستماع إلى أفكارهم، وعدم إعاقة نموهم وتطورهم على الإطلاق، واغتنام كل فرصة لمدحهم.

إجازة أبوة جايلز

شاركت قبل 30 عاماً في إدارة شركة مونيتور غروب (Monitor Group) المتخصصة في تقديم الخدمات الاستشارية في مجال الاستراتيجية؛ كان جايلز أحد كبار أعضاء الشركة الذين يزيد عددهم عن اثني عشر عضواً والذين يشغلون مناصب مدراء حسابات عالميين، وموظفاً متميز الأداء بينهم. وتواصل معي ليطلب إجازة أبوة بعد ولادة طفله الأول، وهو طلب عادي هذه الأيام، لكنه كان غريباً آنذاك. وأجبته بسرعة: "بالطبع يا جايلز، أنت مدير حساب عالمي، ووصلت إلى مرحلة في مسارك المهني تمكنك من فعل ما تشاء. يمكنك أخذ أيام إجازة بقدر ما تريد".

قال: "حسناً" وخرج وتبدو عليه علامات التجهم. تفاجأت كثيراً؛ لقد طلب إجازة ووافقت على طلبه دون أي نقاش أو شرط. فما هي مشكلته بالضبط؟ وأدركت السبب لاحقاً. لم يكن جايلز يرغب في أن يُعامل بصفته عضواً في مجموعة، حتى لو كانت مجموعته التي تضم مدراء الحسابات العالميين الأكثر تميّزاً في شركة مونيتور، بل كان يرغب في أن تجري معاملته بصفته فرداً. أراد أن يسمع الكلمات التالية: "نحن نهتم بك وباحتياجاتك. وإذا كانت إجازة الأبوة مهمة لك، فسنقدم لك دعمنا بنسبة 100%".

ستكون النتيجة نفسها بالطبع، وهي إجازة أبوة غير محددة المدة، لكن التأثير العاطفي سيختلف تماماً، بمعنى أن جايلز كان سيشعر أنه شخص مميز ويحظى بمكانة خاصة.

ورأيت الديناميكية ذاتها تتكرر مراراً وتكراراً منذ تلك الحادثة. على سبيل المثال، اشتُهر نجم كرة السلة مايكل جوردان بوضع قواعده الخاصة لأنه كان بحاجة إلى الشعور بالتميز، وهو ما أثار استياء بعض زملائه في الفريق. ويقضي الناس أمثاله حياتهم في السعي ليكونوا أشخاصاً متميزين، فيقدمون أداءً أعلى من الآخرين، ويكون استعداهم أكثر، ويعملون بجد أكبر، ويلتزمون بمعايير عالية، ويقبلون الضغط الإضافي الذي يرافق اختياراتهم. وذلك هو السبب وراء انزعاج جايلز. من المزعج للغاية أن تعمل بجد لتتميز عن الآخرين ومن ثم يجري التعامل معك بصفتك مجرد مدير حساب عالمي كغيرك من الموظفين، على الرغم من أنه منصب يحلم العديد من حملة الماجستير في إدارة الأعمال بشغله.

لا يؤدي الأفراد أمثال جايلز أعمالهم لأجلك فقط، بل يحققون نتائج يستحيل تحقيقها دون وجودهم. ولا يمكنك تصنيفهم ضمن فئة معينة على افتراض أن ذلك سيسعدهم، بل يجب عليك ابتكار فئات فريدة لهم، حتى لو كان ذلك يعني تكييف بقية المؤسسة. وإذا فشلت في القيام بذلك، فستواجه وموظفك متميز الأداء بعض العواقب، كما تُبين حالة لاعب كرة القدم متميّز الأداء آرون رودجرز بوضوح.

قصة آرون رودجرز الحزينة

أثبت آرون رودجرز نفسه كواحد من أعظم لاعبي الوسط على الإطلاق في دوري كرة القدم الأميركي بعد مسيرة دامت 17 عاماً مع فريق "غرين باي باكرز" الشهير. وقد سجل لحين وقت كتابة هذا التقرير خامس أهم تمريرة من تمريرات تسجيل الأهداف في التاريخ. كان تصنيفه كهداف خلال مسيرته المهنية، وهو المقياس الأكثر شمولاً لفاعلية لاعبي الوسط، هو الأعلى في تاريخ الدوري بين لاعبي الوسط الذين يقضون 5 سنوات أو أكثر في اللعب. فقد ساعد فريق "باكرز" في تحقيق أول فوز لهم في مباراة البطولة السنوية للرابطة الوطنية لكرة القدم الأميركية "السوبر بول" عام 2011 منذ 14 عاماً، كما حصل على لقب اللاعب الأكبر قيمة في البطولة. وحاز لقب اللاعب الأكبر قيمة في دوري كرة القدم الأميركية ثلاث مرات، بما في ذلك موسم عام 2020، متعادلاً مع لاعب آخر احتل المرتبة الثانية بصفته اللاعب الأكبر قيمة في تاريخ الدوري.

كما حصل "رودجرز" بفضل فريق "باكرز" على لقب اللاعب الأعلى أجراً في اتحاد كرة القدم الأميركية مرتين، وكانت المرة الأولى عندما تم تمديد عقده لمدة 5 سنوات مقابل 110 ملايين دولار (من عام 2015 حتى عام 2019) والثانية عند تمديد عقده لمدة 4 سنوات مقابل 134 مليون دولار (من عام 2020 حتى عام 2023). ولم تكن مسألة التعويضات مشكلة في الواقع، بل رد رودجرز على تلك المزايا بأن جعل من نفسه لاعباً متميّز الأداء وصاحب حق امتياز تجاري باسمه.

لكن خلال اجتماع اختيار اللاعبين الذي عقده اتحاد كرة القدم الأميركية في شهر أبريل/نيسان عام 2020، قدّم المدير العام لفريق "باكرز"، برايان غوتيكونست، صفقة لاختيار لاعب الوسط جوردان لوف، وهو خليفة محتمل لرودجرز، بدلاً من اختيار مهاجم يوفر قوة هجومية أكبر لرودجرز. ووفقاً لجميع المعنيين في المفاوضات، لم يتحدث غوتيكونست أبداً عن خططه مع رودجرز مسبقاً. ولم يتعاقد فريق "باكرز" مع أي لاعب مهاجم في ذلك العام، وبقيت وسائل الإعلام الرياضية تسأل رودجرز عن مدى ضعف قوة الفريق. وفي مقابلة أجريت في اليوم الثالث من شهر سبتمبر/أيلول عام 2020، أعرب رودجرز عن إعجابه بمهارة 4 مهاجمين، بمن فيهم جيك كوميرو. وفي الرابع من شهر سبتمبر/أيلول، استغنى غوتيكونست عن اللاعب كوميرو لينضم على الفور إلى فريق "بوفالو بيلز" (Buffalo Bills). وعندما سُئل رودجرز بعد شهرين عن احتمال حصول فريق "باكرز" على لاعب مهاجم قبل انتهاء موسم الانتقالات، أجاب قائلاً: "لقد فهمت دوري تماماً. ولن [أبدي إعجابي بمهارة] أي شخص آخر بعد الآن. فآخر مرة [أبديت فيها إعجابي] بمهارة أحد اللاعبين، انتهى به الأمر بالانتقال إلى فريق "بوفالو"".

ثم حاز رودجرز لقب اللاعب الأكبر قيمة وقاد فريق "باكرز" إلى مباراة بطولة رابطة المؤتمر الوطني لكرة القدم الأميركية. لكن خلال المباراة، اختار مدربه عدم إنهاء المباراة بالتعادل آخر دقيقتين وتسع ثوان، وهو القرار الذي أتاح لفريق توم برادي "تامبا باي بوكانيرز" (Tampa Bay Buccaneers) الانضمام إلى مباراة "سوبر بول" التي حققوا فيها فوزاً ساحقاً.

وفي أواخر شهر أبريل/نيسان عام 2021، بدأت الإشاعات تسري بأن رودجرز قرر عدم العودة إلى فريق "باكرز". لم يؤكد رودجرز تلك الإشاعات، لكن عندما ضُغط عليه خلال مقابلة في شهر مايو/أيار، أشار مراراً وتكراراً إلى مشكلات واجهها اللاعبون في التعامل مع إدارة فريق "باكرز". وقرر عدم المشاركة في جميع الأنشطة التطوعية قبل الموسم وألزم نفسه بحضور معسكر صغير. وقبل يوم واحد من بدء المعسكر التدريبي، توصل أخيراً إلى اتفاق مع الفريق للعودة، شرط أن يخصموا عاماً واحداً من التزامه التعاقدي، وهو ما سيمكنه من المغادرة بصفته لاعباً حراً بعد موسم 2022.

وفي مؤتمر صحفي عقب عودته للفريق، صرّح رودجرز أخيراً عن سبب استيائه قائلاً: "تنظر المؤسسة إلي وإلى عملي على أنني مجرد لاعب. لكن في رأيي، وبناءً على ما حققته من إنجازات في هذا الدوري، وفي ضوء اهتمامي بزملائي في الفريق وبحسب أسلوب تواصلي معهم في غرفة الملابس، والنهج الذي أتبعه في إداراتهم، واستناداً إلى سلوكي في المجتمع، يجب أن [أحظى] بمزيد من الصلاحيات. تُطبّق القواعد نفسها على معظم اللاعبين، لكن لا بدّ أن يكون هناك بعض الاستثناءات من حين لآخر، ولا بدّ أن يشارك اللاعبون الذين عملوا في مؤسسة ما لمدة 17 عاماً وحازوا لقب اللاعب الأكبر قيمة في محادثات على مستوى أعلى [مشدداً على تلك العبارة]. أنا لم أطلب الحصول على أي شيء لم يحصل عليه لاعبو الوسط الرائعون الآخرون عبر العقود القليلة الماضية، بل كنت آمل أن أشارك في المفاوضات؛ أعني أنه إذا كنت ترغب في الاستغناء عن لاعب ما رغم تفوقه وجدارته، لا سيّما أنه كان ثاني أفضل مهاجم في معسكر التدريب العام الماضي، فأخبرني بذلك على الأقل، واستطلع رأيي، فقد أكون قادراً على تغيير رأيك فيه. وقد تجعلني المشاركة في تلك المفاوضات أشعر أنني شخص مهم وشخص يحظى بالاحترام على الأقل".

وعلى الرغم من أن رودجرز لم يذكر برادي بالاسم، من الصعب أن نصدق أنه لم يكن يستحضر موسم عام 2020 مع برادي في ذهنه. فبعد مسيرة أسطورية دامت 20 عاماً مع "نيو إنغلاند باتريوتس"، انضم برادي إلى فريق "بوكانيرز"، الذي لم يشارك في المنافسة على اللقب منذ ما يقرب من عقدين، على عكس فريق "باكرز". ومع ذلك، قاد برادي الفريق إلى مباراة البطولة (السوبر بول). وحصل برادي خلال مسيرته على حق امتياز تجاري مكّنه من إحضار لاعب خط الهجوم المفضل لديه، روب غرونكوسكي، بعد أن أقنعه بالتخلي عن فكرة التقاعد، إضافة إلى أنطونيو براون، وهو لاعب مهاجم مكتشف لكنه موهوب للغاية، طور برادي علاقته معه خلال فترة وجوده القصيرة كمهاجم في فريق "باتريوتس".

ومن البديهي أن نعتقد أن ما أحدث الفارق في قرب فريق "باكرز" من الخسارة هو أن رودجرز لم يمنح فرصة اختيار لاعبي الهجوم الذين أرادهم، على عكس برادي. و‎مثال آخر على ذلك: لم يُعرض على المهاجم الثاني المفضل لديه، راندال كوب، أي عقد جديد بعد موسم عام 2018، على الرغم من أن تلك السنة كانت الثامنة له مع فريق "باكرز". وليس من المستغرب إذاً إعلان الفريق توقيع عقد جديد مع كوب لموسم عام 2021 عندما قرر رودجرز العودة لممارسة اللعب. وهناك توقعات منتشرة اليوم بأن رودجرز قد ينهي علاقته مع فريق الدوري الوطني الأميركي الوحيد الذي لعب لصالحه في نهاية موسم عام 2022 (لا سيما بعد أن واجه عدة انتقادات لتجاهله بروتوكولات الدوري الوطني الأميركي بخصوص ارتداء الكمامة وهو من غير الملقحين).

لم يكن الجميع سعداء بديناميات القوة الجديدة في عالم الرياضة. وفي مقابلة أجريت مع رون وولف، المدير العام السابق لفريق "باكرز" في شهر مايو/أيار عام 2021، وصف رون لاعبي الوسط متميزي الأداء بـ "الأسياد" قائلاً: "تم تعيينهم خلال عملي كلاعبي وسط فقط. ذلك ما ندفع لهم لقاءه، وذلك ما يتقاضون المال من أجله. لكن جلّ ما يريده هؤلاء الرجال هو اختيار المدرب واختيار اللاعبين".

لكي نكون منصفين، لم يزعم أحد أن رودجرز طلب اختيار المدرب أو زملاءه في الفريق، لكنه طلب ألا تجري معاملته كأي لاعب آخر. ومن المؤكد أن تصبح عواقب عدم تقدير مساهماته الفريدة واضحة بشكل جلي لفريق "باكرز" خلال عام 2022.

لا بدّ أن تدرك أن أصحاب المواهب لا يقبلون أن تتجاهل أراءهم، ولديهم دائماً خيارات بديلة، خيارات قد تكون ضارة جداً بشركتك.

التحديات التي تواجهها الإدارة

يمثّل منح أصحاب المواهب معاملة استثنائية خطراً كبيراً. على سبيل المثال، إذا عبّر جميع المدراء الذين يعتبرون أنفسهم موظفين متميزي الأداء عن رأيهم في كل قرار، فستعم الفوضى. وإذا اعتقد أي مدير يعتبر نفسه موظفاً متميز الأداء أن من حقه انتهاك القواعد الأساسية للمؤسسة، فقد يترتب على ذلك سلوكيات سيئة، كما توضح تسريبات حملة "#أنا_أيضاً" (#MeToo). لذلك، إذا كنت تدير فريقاً من الموظفين الموهوبين للغاية، فيجب عليك انتهاج طرق تجعلهم يشعرون بالتميّز دون تكليفهم بالمسؤولية (أو السماح لهم بتجاهل الأعراف التنظيمية والمجتمعية المهمة). والأمر أسهل مما تظن، إذ لا يرغب الموظفون الاستثنائيون غالباً في تولي زمام المسؤولية في الواقع. لنعد إلى حالة جايلز. لم يرغب جايلز في أن يكون مسؤولاً عن وضع السياسات المتعلقة بإجازات العمل، بل كان بحاجة إلى الشعور بأنني، بصفتي أحد أعضاء مجلس الإدارة، أقدّره لشخصه، وليس لأنه مجرد مدير حسابات عالمي.

وإذا كنت ترغب في جعل موظفيك متميزي الأداء يشعرون بالتقدير الفريد، فابدأ بتجنب هذه "المحظورات" الثلاثة.

لا ترفض أفكارهم أبداً. يستثمر أصحاب المواهب مخازن هائلة من الطاقة والعواطف في تطوير مهاراتهم بهدف تحقيق أعلى مستوى من النجاح. وقد يرغبون في الوقت نفسه في الحصول على معلومات حول كيفية تطبيق تلك المهارات وتعزيزها بشكل أكبر. تمثّلت مشكلة رودجرز الأساسية في عدم منحه حق المشاركة في القرارات المهمة التي من شأنها أن تقود فريقه إلى فوز جديد في مباراة بطولة "السوبر بول".

تأمل مثال إريك يوان الذي تم رفض طلبه في الحصول على تأشيرة عمل في الولايات المتحدة 8 مرات قبل قبولها في النهاية. كما اضطر أيضاً إلى تجاوز مشكلة نقص مهاراته في اللغة الإنجليزية للحصول على وظيفة في شركة مؤتمرات الفيديو ويبيكس (Webex). وبمجرد أن بدأ العمل في الشركة، قدم أداءً رائعاً لدرجة أنه ساعد شركة ويبيكس في أن تصبح منصة مؤتمرات الفيديو الرائدة وحاز منصب نائب رئيس قسم الهندسة في شركة سيسكو سيستمز (Cisco Systems) العملاقة للتكنولوجيا التي استحوذت على شركة ويبيكس. اعتبر يوان ظهور تطبيقات عقد مؤتمرات الفيديو على الهواتف الذكية بمثابة تهديد وفرصة لشركة ويبيكس، واقترح عام 2010 تحديث المنصة لجعلها متوافقة مع أنظمة الهواتف. لكن بحسب يوان، لم يلق اقتراحه أي اهتمام من قبل الشركة. وترك العمل بعد أقل من عام ليُطلق تطبيق "زووم" الذي حل محل ويبيكس باعتباره التطبيق المهيمن لعقد مؤتمرات الفيديو.

هل يجب أن تستمع إلى كل ما يقوله أصحاب المواهب؟ بالطبع لا، لكن عليك أن تدرك من جهة أخرى أن أصحاب المواهب لا يقبلون أن تتجاهل أراءهم. ولديهم دائماً خيارات بديلة، خيارات قد تكون ضارة جداً بشركتك.

لا تقف عائقاً في وجه تطورهم أبداً. إذا استشعر الموظف متميّز الأداء وجود عائق ما في درب نموه وأنه مجبر على انتظار فرصة للتقدم، فقد ينقل مهاراته إلى مؤسسة يعتقد أنها ستمهد له درب النمو. من جهة أخرى، يتطلب تحديد طبيعة الفرص التي يجب تقديمها لأفضل المواهب ووقت تقديمها لهم قراراً حكيماً. وقد يحمّلك الموظفون متميزو الأداء المسؤولية أيضاً في حال فشلهم لمغالاتك في تقديرهم. وتتمثل طريقة كسب ولائهم في تمكينهم من النمو والتعلم، بأسلوبهم الخاص، دون جعل النجاح مستحيلاً.

وقد يتطلب ذلك أحياناً تجاهل مهام إدارة الموارد البشرية التي تميل إلى معاملة الموظفين بشكل متجانس وتقييد الفرص ضمن أطر زمنية صارمة. أذكر أنني تلقيت معارضة شديدة من رئيس قسم التعيينات في شركة مونيتور عندما أردت تعيين استشاري أقل خبرة في أحد المناصب العليا ليتولى العمل على قضية مهمة، حيث أخبرني أنه لم يكن مستعداً وأن ذلك لم يكن عادلاً للآخرين الذين عملوا في الشركة لفترة أطول. لكني عرضت أن أبحث عن فرص في المستقبل لأولئك الذين تجاوزتهم ووعدت بتحمل المسؤولية الكاملة عن أي مشكلات تنتج عن ترقية الاستشاري. لحسن الحظ، نجحت الخطة تماماً وساعدته في النمو لدرجة أنه ألغى كل الأسئلة التي دارت حول مدى جاهزيته في عقولهم.

لا تفوت فرصة الثناء عليهم. من واقع خبرتي، نادراً ما يطلب الموظف متميّز الأداء الثناء، ليس بشكل مباشر على الأقل. ونظراً لتمتع موظفيك أصحاب المواهب بالحماس وامتلاكهم دوافع ذاتية للتميز، فمن المغري أن تفترض أنهم لا يحتاجون إلى كثير من الثناء أو أن يكونوا غير مبالين بالحصول عليه. بل العكس هو الصحيح في الحقيقة، إذ يقضي الأشخاص الاستثنائيون كل أوقاتهم في أداء مهام صعبة للغاية، وهم مضطرون إلى تقبل الفشل واختباره بالفعل بشكل منتظم. ولهذا السبب، هم بحاجة إلى التقدير. وقد يشعرون بالاستياء أو الحزن أو يتركون العمل في المؤسسة في حال عدم حصولهم على الثناء.

ويكمن التحدي في تحديد وقت حاجتهم إلى الشكر والتقدير وتقديمه لهم بشكل شخصي. وقد يُنظر إلى عبارة التقدير السنوية العامة "كان أداؤك مذهلاً هذا العام" نظرة سلبية، وليس إيجابية، حتى لو كانت مصحوبة بمكافأة مالية كبيرة. وبالتالي، يجب عليك أن تجعل تقديرك مرتبطاً بإنجازات محددة يحققها موظفوك متميزو الأداء.

عندما كنت عميداً في "كلية روتمان للإدارة"، كان الأساتذة أصحاب المواهب مهمين للغاية بالنسبة لنا. كان لدينا العديد من الأساتذة الممتازين، لكن كان لدى البعض منهم تأثير كبير على سمعتنا العالمية. وحرصت دائماً على تقدير هؤلاء الأشخاص على أمور إيجابية قرأتها عنهم في المقالات الصحفية واستناداً إلى تقييمات الطلاب الإيجابية عنهم وتقدم مستوى طلاب الدكتوراه لديهم. ولذلك انزعجت عندما أعاد أحد الزملاء الأستاذة إرسال رسالة بريد إلكتروني تلقاها من عميد كلية إدارة الأعمال التي يعمل فيها تنطوي على موافقة على السفر في درجة رجال الأعمال. لا يمكن للأساتذة في الكلية السفر في درجة رجال الأعمال إلا إذا حصلوا على موافقة محددة لمرة واحدة من قبل العميد. وكان صديقي أحد أكثر الأساتذة تميّزاً في الكلية قد خضع مؤخراً لعملية جراحية كبيرة في القلب وأرسل رسالة إلى العميد يشير فيها إلى أن طبيبه منعه من السفر في الدرجة الاقتصادية في الرحلات العابرة للقارات. وأوضح أنه بحاجة إلى السفر لحضور مؤتمر أكاديمي في أوروبا للحصول على جائزة الإنجاز مدى الحياة في تخصصه الأكاديمي.

لم يتطلب الأمر عالِماً بالصواريخ لمعرفة فحوى الرسالة: "مرحباً سيدي العميد، ربما لم تدرك أنني خضعت لعملية جراحية كبيرة في القلب، وعلى الرغم من ذلك، عدت لمزاولة العمل مجدداً وتمثيل الكلية. وتلقيت للتو أرقى جائزة في مجال تخصصي". وماذا كان رد العميد؟ "تمت الموافقة". ليس: "يا إلهي، لم يكن لدي أي فكرة عن تلك الجراحة؛ سعيد جداً بتعافيك. وسعيد جداً من أجلك وفخور من أجل الكلية لحصولك على هذا التكريم الأخير في مسارك المهني الرائع. سأمنحك موافقتي بالطبع. وسأُطلع وسائل الإعلام بالجائزة من أجل أن يُصدروا بياناً صحفياً يوم تقديمها لك. أتمنى لك وقتاً رائعاً، وشكراً لك مرة أخرى على كل ما تفعله من أجل سمعة الكلية".

هل ارتكب هذا العميد خطأَ فادحاً في إدارة المواهب؟ أشك في ذلك. لكن ما مدى احتمالية أن يقدم هذا الزميل للعميد مساعدة في تحقيق إنجاز آخر بحماس؟ الاحتمال ضعيف. وكم من الوقت ستستغرق كتابة بريد إلكتروني يجعل صديقي يشعر بالشكر والتقدير؟ لا يزيد عن 5 دقائق.

قد تبدو متطلبات إدارة المواهب في الاقتصاد الحديث مهمة مضنية، إذ يمكن لموظفيك متميزي الأداء الحصول على مبالغ ضخمة من المؤسسة، لكنهم سيقوضون قدرتها على النجاح في حال قرروا ترك العمل فيها. ومع ذلك، يوجد جانب إيجابي للغاية للمعادلة، إذ يتيح أصحاب المواهب تحقيق نتائج لا تكون ممكنة دونهم، نتائج خاصة ونتائج تنعكس في ذيل منحنى التوزيع (وفق مصطلحات علم الإحصاء). وإذا كنت تعتمد على هؤلاء الأشخاص في تحقيق أداء مؤسسي متميز، فيجب أن تعاملهم كأفراد أصحاب قيمة فريدة. لذلك، لا تتجاهل أفكارهم أبداً، ولا تسمح أبداً بإعاقة تقدمهم، ولا تفوت فرصة إغراقهم بالثناء عند نجاحهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي