بدأت استخدامات الذكاء الاصطناعي تضطلع بدور مهم في حياتنا خلال السنوات الأخيرة بالفعل، وذلك لأنها ساهمت في تحويل وإعادة تشكيل نمط روتين حياتنا اليومي من الناحية الاجتماعية والاقتصادية عبر مجموعة واسعة من التطبيقات، بدءاً من استخدام المساعدين الافتراضيين إلى عمليات الجراحة الروبوتية في قطاع الرعاية الصحية. ولا شك في أن أثر تقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي والشركات والمستهلكين والحكومات سيكون كبيراً، لأنها ستحل العديد من مشكلاتهم وتحدياتهم. ومع ذلك، قد يخلق الذكاء الاصطناعي بعض القيود والتحديات في وجه أولئك الذين يكون تكيّفهم بطيء مع تلك التقنيات. وكما قال المدير العام "للمنظمة العالمية للملكية الفكرية" (WIPO)، فرانسس غوري: "الذكاء الاصطناعي هو مجال رقمي جديد سيكون تأثيره على العالم بالغاً، ذلك لأنه سيغيّر طريقة عيشنا وعملنا".
التأثير الاقتصادي العالمي المحتمل للذكاء الاصطناعي
جرى نشر العديد من الدراسات الأكاديمية والصناعية إضافة إلى إجراء مناقشات متعمقة حول التأثير الاقتصادي العالمي المحتمل للذكاء الاصطناعي. وأظهرت غالبية تلك الدراسات أن الذكاء الاصطناعي يوفر إمكانات كبيرة تساهم في النمو الاقتصادي العالمي . ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها شركة "بي دبليو سي" (PwC) حول تأثير الاقتصاد الكلي للذكاء الاصطناعي، سيكون الناتج المحلي الإجمالي العالمي أعلى بنسبة 14% في عام 2030 نتيجة استخدام الذكاء الاصطناعي، أي ما يعادل 15.7 تريليون دولار. وهذا التقدير مماثل إلى حد ما لتوقعات "مركز ماكنزي العالمي للأبحاث" الذي يتوقع أن تصل المساهمة الإضافية المحتملة للذكاء الاصطناعي على مستوى العالم إلى 13 تريليون دولار بحلول عام 2030.
ووفقاً للأستاذ الجامعي باتريك وينستون في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي)، والذي يُعرّف الذكاء الاصطناعي على أنه "خوارزميات تحكمها حدود، تُعرض أمامنا على شكل بيانات تدعم النماذج التي تستهدف سلاسل أوامر تربط التفكير والإدراك والإجراء معاً". وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قد جذب الاهتمام في السنوات الأخيرة نتيجة زيادة عدد تطبيقاته العملية في حياتنا اليومية، بدأ تاريخ الذكاء الاصطناعي بالفعل في عام 1950، أي عندما نشر آلان تورنغ بحثه الذي يحمل عنوان "آليات الحوسبة والذكاء" في محاولة منه للإجابة عن السؤال: "هل يمكن للآلات أن تفكّر؟". وفي وقت لاحق من صيف عام 1956، كان الأستاذ الجامعي في "جامعة دارتموث"، جون مكارثي، أول عالم يستخدم مصطلح الذكاء الاصطناعي في محاولة منه لإظهار قدرة البرمجيات على أن تكون ذكية مثل البشر. وزادت أهمية الذكاء الاصطناعي إلى درجة كبيرة خلال العقد الماضي وحقّق مكانة بارزة جديدة مع زيادة توفر البيانات والتطورات في القوة الحاسوبية. وبدأت العديد من البلدان في تكييف تطبيقات الذكاء الاصطناعي والانتقال من مفهومه النظري إلى تطبيقه بشكل عملي في العديد من القطاعات والشركات. لكن قد تُسفر تلك الخطوة عن اتساع الفجوة في الإنتاجية والنمو الاقتصادي بين البلدان بناءً على وتيرة تكييف الذكاء الاصطناعي، وهو ما قد يؤثر بدوره على الشركات والأفراد.
قطاع الخدمات المالية وتقنيات الذكاء الاصطناعي
وبالمثل، يشهد قطاع الخدمات المالية التقليدية تغيّراً سريعاً نتيجة زيادة مستويات المنافسة وتوقعات المستهلكين، إلى جانب تصاعد عمليات التحول الرقمي، وهو ما مكّن العديد من شركات الخدمات المالية من الاستفادة من فرص اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، لاسيما توظيف تلك التقنيات لمواجهة التحديات الحالية. وقد أقر العديد من المدراء التنفيذيين في قطاع الخدمات المالية بالفعل بأن اعتماد الذكاء الاصطناعي ضروري للنجاح في هذا العصر الجديد القائم على الخدمات الرقمية وللّحاق بركب الشركات الرائدة. في الوقت نفسه، يفرض نشر الذكاء الاصطناعي في قطاع الخدمات المالية تحديات كبيرة في وجه الجهات التنظيمية وواضعي السياسات.
يُعدّ قطاع الخدمات المالية في الواقع أحد أكبر القطاعات التي تنفق أموالها على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن يشهد ذلك القطاع نمواً كبيراً في استخدام تلك التطبيقات في المستقبل. كما أن الآثار الاستراتيجية لتقنيات الذكاء الاصطناعي المنتشرة على نطاق واسع في قطاع الخدمات المالية جمة وباتت تحظى بمزيد من الاهتمام. وأصبح من الممكن مزج البيانات مع الخوارزميات لاكتشاف أنماط جديدة حول استراتيجيات الانضباط المالي لدى البشر بفضل تقنيات تعلم الآلة والتعلم العميق دون الحاجة إلى كتابة الشفرات البرمجية بشكل كامل.
مجالات الذكاء الاصطناعي في قطاع الخدمات المالية
تسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تعزيز عملية التصدي لعقبات الشمول المالي في سياقات مختلفة. وتعتمد مهمة الحد من الحواجز التي تحول دون تحقيق الشمول المالي على مدى سرعة نشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاع الخدمات المالية وطبيعة تلك التطبيقات التي قد يتيح بعضها زيادة تبني الأسر للخدمات المالية والوصول إليها، مثل العمليات المالية المؤتمتة. ومن المهم الإشارة إلى أن شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل شركة "أمازون"، قد لعبت دوراً مهماً في تقليل الحواجز أمام تحقيق الشمول المالي. ويمكن في الواقع استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاع الخدمات المالية في 4 مجالات رئيسة، ألا وهي منع عمليات الاحتيال، وإدارة الثروات والأصول، وتحسين القرارات الائتمانية، وروبوتات الدردشة.
منع عمليات الاحتيال
يشتكي العديد من عملاء البنوك من عمليات الاحتيال المالي. وتُعدّ مهمة منع عمليات الاحتيال أحد أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي شيوعاً، فهي تستخدم تقنيات تعلم الآلة للكشف عن عمليات الاحتيال في المعاملات المالية التي لا يستطيع البشر اكتشافها باستخدام الأدوات التقليدية. كما يقلل اكتشاف عمليات الاحتيال باستخدام تقنيات تعلم الآلة من مخاطر الصفقات الوهمية ويحسن دقة قرارات الموافقة. تحلّل خوارزميات تعلم الآلة سلوك العملاء وتتعرف على عادات الإنفاق لديهم. وعندما يحصل أي خلل أو انحراف عن الأنماط العادية، ترسل الخوارزميات رسالة تحذير وتمنع إتمام المعاملة. وقد أظهرت دراسة أجرتها "جمعية المدققين المعتمدين لمكافحة عمليات الاحتيال المالي" (Association of Certified Fraud Examiners) أن نسبة 13% من الشركات استخدمت الذكاء الاصطناعي للكشف عن عمليات الاحتيال وردعها في عام 2019. علاوة على ذلك، وضعت نسبة 25% من الشركات خططاً لاعتماد تلك التقنيات في عام 2020.
إدارة الثروات والأصول
جرى أحياناً استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة في إدارة الثروات والأصول بهدف تحسين تجربة العملاء وتحسين جودة الأداء ضمن مجموعة من عمليات الاستثمار. ويمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي في الواقع أن تسهّل وصول المستثمرين إلى أسواق رأس المال وحصولهم على المشورة بشأن الاستثمار الرقمي. وكل ما يجب على المستثمرين فعله هو الإفصاح عن بعض خصائصهم الشخصية، مثل الدخل والعمر والصحة ودرجة تحمل المخاطر ومستوى المعيشة، لتضع أدوات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة بدورها تقديرات دقيقة حول المخاطر ونسبة العوائد، وتوفّر للمستثمرين بدائل متعددة حول أفضل استراتيجيات توزيع الأصول وتُتيح لهم الاختيار من بينها. كما أنها تتمتّع بقدرتها على وضع استراتيجيات مخصصة حول توزيع الأصول لكل مستثمر وتتعلم من التجربة بتكلفة منخفضة. ويُعتبر المستشار الروبوت أحد الأمثلة المنخفضة التكلفة حول كيفية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة الأصول لاستبدال الاستشاريين البشر، ذلك لأنه يستخدم خوارزميات تعلم الآلة لتقدير نسبة العوائد المتوقعة للمستثمرين ودرجة تحمل المخاطر بهدف تحديد المحفظة الاستثمارية الأكثر ملاءمة لهم.
تحسين القرارات الائتمانية
يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي كبديل أكثر ذكاءً لتحسين القرارات الائتمانية بشأن الأهلية الائتمانية للمقترضين المحتملين. عادةً ما تتطلب الطرق التقليدية حول تحديد قرارات الاكتتاب ومخاطر الإقراض الحصول على معلومات رسمية، مثل المعاملات المصرفية وتاريخ الائتمان وبيانات الدخل وقيم الأصول. لكن قد تُسفر تلك الأساليب عن إبطاء عملية اتخاذ القرارات الائتمانية وتستبعد بعض المستفيدين المحتملين من الائتمان نتيجة نقص البيانات. في المقابل، يساعد تمكين الذكاء الاصطناعي في استخدام أدوات أكثر دقة، بما في ذلك الهواتف المحمولة والأقمار الصناعية وبيانات وسائل التواصل الاجتماعي بهدف بناء ملفات تعريف للزبائن ووضع نقاط الأهلية الائتمانية بطريقة تجعل القرارات الائتمانية أكثر مرونة وكفاءة. وتُدرج العديد من حلول منصات الاكتتاب في الواقع تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة بهدف إجراء تقييم على المقترضين الذين لا يمتلكون معلومات ائتمانية تقليدية تؤهلهم للحصول على قروض، مثل منصتي "زيست فاينانس" (ZestFinance) وأندر رايت" (Underwrite). وبالتالي، نجد أن الذكاء الاصطناعي قد أدى بالفعل إلى تحسينات كبيرة في الدقة وخفض معدلات التخلف عن السداد.
روبوتات المحادثة
يُعد إدخال روبوتات الدردشة المساعدة أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي الرئيسة التي ساهمت في تسريع عمليات الأتمتة في القطاع المالي. عادةً ما تستخدم البنوك روبوتات الدردشة المساعدة لتلبية توقعات مهمة خدمة العملاء والحفاظ على ميزة تنافسية في عصر التقنيات المزعزعة بتكلفة منخفضة. تقدّم روبوتات الدردشة دعماً تلقائياً عالي الجودة وفورياً لجميع الزبائن في أي وقت من اليوم من خلال أداة الذكاء الاصطناعي التي تنطوي وظيفتها على أتمتة مهام معينة. تعتمد أداة الذكاء الاصطناعي الرئيسة التي تدعم روبوتات المحادثة على معالج اللغة الطبيعية. ويمكن للبنوك أيضاً جمع معلومات حول مستوى الرضا عن خدمات روبوتات الدردشة بناءً على نبرة صوت الزبائن. كما يوفر استخدام روبوتات الدردشة محادثات شبيهة بمحادثات البشر. وقد يصعب على الزبائن في كثير من الحالات معرفة ما إذا كانوا يتحدثون إلى تطبيق ذكاء اصطناعي أم موظف، وهو ما يبني مزيداً من الثقة بين العملاء والبنوك ويعزز تجارب العملاء. ويوجد العديد من الأمثلة حول استخدام روبوتات الدردشة في قطاع الصيرفة التي تثبت مدى أهمية مثل تلك التطبيقات ومدى انتشارها. ويُعتبر روبوت الدردشة "إيريكا" في "بنك أوف أميركا" (Bank of America) أحد الأمثلة على روبوتات الدردشة المساعدة الناجحة. "إيريكا" هي مساعدة مالية افتراضية لديها أكثر من 10 ملايين مستخدم، وتعتمد على استخدام التحليلات المحوسبة التنبؤية واللغة الطبيعية لدعم زبائن البنوك بالعديد من الخدمات، مثل الوصول إلى معلومات الرصيد وترتيب عمليات التحويلات المالية. تشتمل ميزات "إيريكا" الأكثر تطوراً على تقديم المشورة والتوجيه لزبائن البنوك بشأن الحفاظ على وضعهم المالي وتحذيرهم عند حدوث أي تغيير في عادات الإنفاق لديهم.
من المهم جداً للإدارة العليا ومجالس الإدارة الحصول على صورة كاملة عن الآثار المترتبة على اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في شركاتهم وفهم المخاطر الصريحة والضمنية التي ينطوي عليها تنفيذ تلك التطبيقات. وكما ذكرنا سابقاً، كلما زاد استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي، زادت سرعة القطاع في أتمتة عملياته، وهو ما يؤدي بدوره إلى خفض التكاليف، والحصول على مزيد من الخدمات المخصصة، وتحقيق الشمول المالي. ومع ذلك، يجب أن تكون المؤسسات المالية على دراية بجميع القضايا القانونية والأخلاقية المتعلقة بنشر الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي.
لا تزال القوانين التي تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي في مراحلها الأولى. ولا تزال تلك المشكلة تمثّل تحدياً في وجه العديد من الجهات التنظيمية، فتقنيات الذكاء الاصطناعي جديدة نسبياً لكنها تتطور بسرعة، وهو ما يجعل من الصعب على الجهات التنظيمية مواكبة تلك التطورات. وليس من السهل على الجهات التنظيمية اتخاذ قرار بشأن تنظيم تلك التقنيات بشكل يحقق التوازن بين مهمة حماية العملاء وتحسين القطاع المالي في ظل مستوى عالٍ من الأخلاق والمعايير. ومن الصعب حتى تطوير إطار عمل قانوني وتنظيمي مماثل للذكاء الاصطناعي في القطاعات المالية في مختلف الولايات القضائية.