أضحينا في وقت نتخيل فيه مستقبلاً تعزز فيه الآلات من قدراتنا البشرية وتساعدنا في اتخاذ خيارات حياة أفضل، بدءاً من الصحة وحتى الثروة، وما ألهم تفكيرنا هذا هو عيشنا حياة أطول ومواصلة التكنولوجيا منحى تطورها السريع. إذ بدلاً من عملية طرح الأسئلة والحصول على إجابات حول الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية وذلك باستخدام أجهزة الكمبيوتر القابعة على مناضد منازلنا، سنكون قادرين على التحدث بشكل طبيعي مع مساعدنا الافتراضي المدمج بالكامل في صميم بيئتنا المادية، حيث سيفهم هذا المساعد الصوتي أهداف حياتنا وتطلعاتنا والتزاماتنا وقيودنا من خلال حواراتنا ورسائلنا الرقمية. وسيساعدنا في وضع الميزانية وادخار الأموال لأحداث حياتنا المختلفة على نحو سلس وبشكل آلي، حتى نتمكن من قضاء المزيد من الوقت في التمتع بالحياة.
قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم المحادثات البشرية
وفي حين أنه من السهل علينا تخيل هذا المستقبل الآن، إلا أن التكنولوجيا نفسها لا تخلو من التحديات، على الأقل في وقتنا الحالي. وتمثل قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم التعقيدات والفروق الدقيقة في محادثات الإنسان إحدى هذه العقبات. إذ يوجد اليوم أكثر من 7,111 لغة حية معروفة في العالم، وجاء ذلك بحسب موقع "إثنولوغ" (Ethnologue). وبالإضافة إلى هذه التعقيدات، توجد طرق متنوعة لتبادل الكلمات واستخدامها عبر ثقافات مختلفة، بما في ذلك القواعد النحوية ومستوى التعليم وأسلوب المتحدثين. وتمثل تقنية جوجل دوبلكس إحدى المحاولات المبكرة لمعالجة مثل هذه التحديات في التواصلات البشرية، حيث تُستخدم هذه التقنية لدعم مساعد جوجل عبر إجراء مكالمات هاتفية باستخدام صوت بشري طبيعي بدلاً من صوت الروبوت. ولكن لا تزال هذه التقنيات مجرد همسات أولية في رحلة تقنيات الذكاء الاصطناعي الصوتية الطويلة.
لا بد من جعل المساعدين الافتراضيين أكثر فائدة عبر دمجهم في نسيج حياتنا اليومية، بما يتجاوز مجرد إبداء التحفظات وإجراء حوارات بسيطة. وبالإضافة إلى جعلهم يتوقعون احتياجاتنا قبل أن نطلبها، سيكون من الضروري جعلهم يفهمون سياق محادثاتنا والتفاعل معها وفقاً لذلك. تخيل هطول الثلوج في أحد الأيام وإلغاء الدوام المدرسي. عند إدراك المساعد الافتراضي وجوب بقائك في المنزل مع أطفالك، سيقترح عليك تغيير مواعيد اجتماعاتك إلى اليوم التالي، كما ستوصي وحدة الترفيه الخاصة بك الأفلام التي يمكنك مشاهدتها مع أطفالك والكتب الإلكترونية التي يمكنك قراءتها تلقائياً. وأفضل ما في الأمر هو قيام مكبر الصوت الذكي الخاص بك بتقديم توصيات بخيارات الوجبات التي يمكنكم تناولها وقت الغداء أثناء جرفك الثلج المتراكم. ومن جهة أخرى، تخيل مدى متعة رحلة عودتك إلى المنزل من رحلة عمل إذا تمكن هاتفك من طلب سيارة أجرة تنتظر خروجك من المطار لتقلك إلى المنزل، وذلك بناء على مسار سفرك وموقعك وعاداتك. إن الاحتمالات لا حصر لها. ويمكن للصوت التفاعلي بدء محادثة بطرق لا يمكن لشخصين مجتمعين على فنجان قهوة بدءها.
الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية
تأمل الخدمات المصرفية على سبيل المثال، حيث يمكننا اليوم إعادة تصور الحياة في عالم يمتد فيه مفهوم الخدمات المصرفية إلى ما وراء حدود التواصل التقليدية، أو متجاوزاً تلك الحدود ببساطة. وبينما رسمت الحدود المادية فروع المصارف فيما مضى، ستعيد مجموعة من الطرائق المتمثلة في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وحتى مكبرات الصوت الذكية والأجهزة المتصلة تعريف معنى المال للمستهلكين والمؤسسات على حد سواء، حيث يطلب المستهلكون الآن الحصول على تجارب رقمية متسقة وسلسة، سواء كانوا يشترون البضائع عبر الإنترنت، أو يقومون بتنزيل الموسيقى أو تحويل الأموال.
كما أصبح بإمكان المستهلكين اليوم أن يملوا ما يريدونه وفي الوقت الذي يريدون. وإذا كانت المؤسسات المالية ترغب في الاستفادة من تقنية الصوت بهدف تطوير تجربة الهاتف المحمول وتعزيز الأنشطة المالية اليومية، يجب عليها عندئذ أن تتبع دليلاً إرشادياً حول بيئة العمل الرقمية المتكاملة وأن تحرص على عدم محاكاة الفروع والصفقات التقليدية التي تجرى بواسطة الهاتف المحمول عبر الحوارات الكلامية النصية. في النهاية، لا ينحصر الهدف من المساعدين الافتراضيين في مجرد صوت روبوت مبسط.
ماذا يمكن أن يحدث إذا أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر وعياً وتعاطفاً مع السياق؟ تخيل أنه في يوم ما ستعرفنا هذه التقنيات المحيطة بنا جيداً لدرجة أن تتولى شؤوننا المالية وأن تساعدنا باستمرار في الوصول إلى أفضل النتائج المالية بمرور الوقت، وذلك استناداً إلى معرفتها بأسرنا وخيارات حياتنا وصحتنا ومتوسط طول أعمارنا. هل يمكننا الوثوق بالتكنولوجيا بما فيه الكفاية لدرجة أن نجعلها تتخذ قرارات بدلاً عنا تلقائياً؟ سيكون جزء كبير من تلك الثقة مدفوعاً بتصور المجتمع وقبول الآلات. على سبيل المثال، نظراً لأن الثقافة اليابانية أكثر ترحيباً بالروبوتات البشرية، تنشر الروبوتات في المستشفيات ودور رعاية المسنين لمنع كبار السن من الشعور بالوحدة، كما تستخدم الروبوتات التعليمية لمساعدة الأطفال في تحسين مهاراتهم في اللغة الإنجليزية. بل إن البعض قد تجاوز الحدود ليجد الحب والرفقة مع الروبوتات، كما هو الحال في الشخصية الثلاثية الأبعاد القائمة على الذكاء الاصطناعي هيكاري أزوما التي طورتها شركة لاين اليابانية العملاقة المتخصصة في الرسائل النصية.
يوفر لنا الذكاء الاصطناعي الفرصة لإعادة تصور تجربة المستخدم وتبادل القيمة على حد سواء. ويتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تكوين صورة كاملة عن حياة المستهلك اليومية، بناء على عاداته وسلوكياته السابقة، وبطريقة تتجاوز صوامع البيانات التقليدية المنعزلة، وذلك من خلال جمع عدد وافر من مصادر البيانات. إن القدرة على التعلم والمعالجة والتعزيز تخلق علاقة تكافلية بين البشر والآلات. وفي حين تعكس أفلام مثل "هير" و"هيومانز" عالماً قد يبدو بعيد المنال في هذا الواقع، إلا أنهما يتيحان لنا صقل فكرنا الإبداعي بهدف تصور ما يخبئه لنا المستقبل. ووفقاً لأمازون، قد لا يكون هذا المستقبل بعيد المنال في الواقع. حيث تعمل أمازون على بناء مستقبل يمكّن البشر من إجراء محادثات طبيعية ومتكررة مع مكبرات الصوت الذكية والأجهزة الأخرى المتصلة بمساعدة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.
ولدينا في الواقع القدرة على خلق عالم تساعد فيه أصواتنا الجماعية على تشكيل نسخ أفضل من الإنسانية، حيث يصبح الهدف أحد الأمور المحورية في ابتكاراتنا والدافع وراء أعمالنا اليومية. وقد لا تكون التقنيات التي نبتكرها هي ما يقيدنا، وإنما خيالنا الذي يمنعنا من التفكير في الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية وفيما وراء عالم الاحتمالات الحالي، واستعدادنا لوضع ثقتنا في الآلات.
اقرأ أيضاً: