عندما تتخرّج من الجامعة بعد حصولك على شهادة في دراسات علوم التواصل والبلاغة، فإن عالم الأعمال سيبدو بالنسبة لك عالماً محيّراً ومربكاً للغاية. وبما أنني لم أكن واثقاً من المكان الذي يناسبني، فقد بدأت استكشف الخيارات المتاحة. العديد من الأصدقاء اقترحوا عليّ العمل في مجال المبيعات. لكن الشكوك كانت تعتريني إزاء عيوب وظيفة مندوب المبيعات. فأنا كنت أخشى من أن الانخراط في العمل ضمن حقل المبيعات لن يضمن لي الهيبة والمصداقية اللتين كنت بأمس الحاجة إليهما بعد انطلاقة حياتي المهنية. كما أنني وجدت صعوبة في الاستمتاع ببيع أي منتج معيّن، بسبب امتلاكي هاجس الخوف من العمل في مجال المبيعات.
بعدئذ أجريت مقابلة مع أحد الشركاء في مؤسسة الاستشارات (Big Six) التي كانت قائمة في ذلك الوقت. وقد حدّثني عن فرصة للعمل على "رفع مستوى أهم ما تملكه الشركة – أي موظفيها".
"يبدو الأمر رائعاً جداً"، كان جوابي له معتقداً بأن تلك الوظيفة تناسب اهتماماتي تماماً. "فما هي الوظيفة التي تقصدها؟"
أجابني هذا الشريك: "إدارة الموارد البشرية".
وقتها، ولم أكن قد تجاوزت الثانية والعشرين من عمري، قلت لنفسي: "يا لها من وظيفة ممتعة! فحتى اسم الوظيفة يضم كلمة "إدارة". وقد بدا ذلك أفضل بكثير جداً من "مندوب المبيعات في شركة آكمي". وهكذا انطلقت إلى سان فرانسيسكو لأصبح أحد المسؤولين عن إدارة الموارد البشرية في (Big Six).
ولكن بعد عامين قضيتهما في هذا المنصب، حصلت معي واقعة غيّرت مسار حياتي. ففي أحد الأيام كنت في غداء عمل مع أحد كبار الشركاء ومسؤول للتدقيق. وقتها أعجب هذا الشريك بنا نحن الاثنين وقال بأننا كلينا من أصحاب المواهب. وقد أردف قائلاً: "الفرق الرئيس هو أنك (مشيراً إلى مسؤول التدقيق) تولّد الإيرادات، بينما أنت (مشيراً إليّ أنا) تعتبر من النفقات الثابتة." شخصان من بين الأشخاص الثلاثة الجالسين إلى المائدة انفجرا ضاحكين فوراً، أمّا أنا فقد بدأت رحلتي في البحث عن وظيفة بمجرّد عودتنا إلى المكتب. فقد توصّلت إلى قناعة مذهلة ذاك اليوم: المبيعات هي في صميم عمل كل مؤسسة تجارية، وأن يكون المرء محرّكاً يولّد الإيرادات فهذا أمر جيّد، بل وحتى أمر يدعوه إلى الفخر.
مجال المبيعات
ولكن للحقيقة كنت خائفاً من مجال المبيعات، ومن النظرة إليها، ومن عروض الأسعار. ولشدّما كرهت فكرة أن أتحوّل إلى شخص لحوح ولجوج.
بيد أنني لم أكن الشخص الوحيد الذي يحمل هذه التصوّرات الخاطئة. فبعد 20 عاماً، وبعد فترتين طويلتين شغلت خلالهما منصب نائب الرئيس التنفيذي للمبيعات أثناء رحلتي تلك، غالباً ما أرى أنه وعلى الرغم من الحاجة الواضحة لدى العديد من الشركات إلى بيع منتجاتها، إلا أنها تواجه بعض المقاومة لـ"المبيعات".
وتكمن المفارقة بأن عدم الاستعداد هذا لتبنّي ثقافة المبيعات والتمسّك بها غالباً ما يأتي من داخل فريق المبيعات ذاته. فأنا أسمع بعض مسؤولي المبيعات يقولون: "أنا لا أبيع فعلياً، وإنما أساعد الزبائن على اتخاذ قرار الشراء." بينما يصرّح آخر: "وظيفتي هي أميل إلى كوني مستشاراً لزبائني." أمّا العبارة الأثيرة على قلبي فهي: "أنا لا أعمل في المبيعات، وإنما في تطوير الأعمال". فحتى المختّصين الذين نذروا حياتهم المهنية للعمل في المبيعات يخشون المبيعات. أو على الأقل هم يخشون الصفة التي تلتصق بهم. فلماذا؟
لقد توصّلت إلى خلاصة بأن جزءاً من هذا الخوف على الأقل نابع من استمرار تداول تعريف عفا عليه الزمن للبيع، ومن فهمٍ خاطئ تماماً لما يقوم به فعلياً المختصون الناجحون في المبيعات.
العديد من الناس يساوون ما بين المبيعات وجعل الناس يشترون أشياء لا يريدونها، أو لا يحتاجونها، أو لا يمتلكون ثمنها. وهذا التصوّر كان على الأرجح قد ظهر في مطلع القرن العشرين أيام البائعين الجوالين، ولاسيما من كانوا يستعملون الدراجات الهوائية التي تجرّ العربات. لكن المؤسف في الأمر هو أن هذه الصورة لازالت عالقة في أذهان بعض المختصين بالمبيعات. وهنا يقفز إلى البال فوراً بائع السيارات المستعملة الذي يعتبر مضرب الأمثال لهذا النوع من الحالات.
لكن الذي يجب أن نعلمه هو أن التعداد العام للسكّان في أمريكا يضمّ اليوم أكثر من 28 بنداً محدداً ومختلفاً لوصف مزاولي مهنة المبيعات المختصين، والعديد منها يحتاج إلى خبرة هائلة. فعلى سبيل المثال، أحد زبائني من العاملين في قطاع التجهيزات الطبية لديه مسؤولي مبيعات يتلقون استشارات من الأطباء حول الاستعمال المناسب لمنتجاته في أثناء إجرائهم لعملية جراحية لأحد المرضى وهم في غرفة العمليات. أن يكون لدينا طبيب يطرح أسئلة على مسؤول المبيعات فنحن بالتأكيد لسنا بصدد رجل المبيعات الذي عاش في عصر والدي ووالدك.
عندما تطلب منّي مؤسسة ما المساعدة في إدخال تعديلات على طريقة عمل قسم المبيعات فيها، فإنني سرعان ما أتلمّس شكل الثقافة السائدة فيها وأبدأ بالتعامل مع المعتقدات التي تكبّل الموظفين وتمنعهم من الوصول إلى مستوى الأداء الذي يريدونه.
اقرأ أيضاً: ما هي أبرز صفات مندوبي المبيعات العظماء؟
ثلاث خطوات رئيسية للتغلّب على ثقافة المبيعات السلبية
• أولاً: إذا كنت تعمل وفق الافتراض القائل بأن الناس سيستفيدون من استعمال منتجاتك وخدماتك، فإن المبيعات عندئذ وبرمّتها تتعلّق بمساعدة الآخرين. فالبيع الذي يتم وفق الأصول يعني مساعدة الناس على تحديد احتياجاتهم وتلبيتها بغية تحقيق أهدافهم: كتحسين كفاءة الأداء في الشركة، أو تسهيل عمل ما، أو عيش حياة رائعة في مرحلة ما بعد التقاعد، أو ضمان قدر أكبر من الأمان، أو العيش لفترة زمنية أطول، إلى ما هنالك.
وبهذه الطريقة، ليست المبيعات مجرّد جزء إضافي ملحق بالمؤسسة المسؤولة عن التوزيع، وإنما هو القناة التي تُظْهِرُ من خلالها لزبائنك كيف بوسعهم الاستفادة من منتجاتك أو خدماتك.
• ثانياً: الطريقة التي تبيع بها هي جزء حيوي من القيمة التي تخلقها للزبون. فأثناء إجرائي للأبحاث وملاحظة فرق المبيعات لدي شخصياً، جلست في أكثر من 1000 اجتماع بين البائعين والمشترين، وأحد الأمور التي لاحظتها هي أن مندوب المبيعات الناجح لا "يتبجّح" ولا "يلح".
فهو لا يحاول التباهي بمدى عظمة العرض الذي يقدّمه، ولا يحاول أن يكون لجوجاً أو يدفع الزبائن دفعاً إلى الشراء. قد يبدو هذا الكلام ضرباً من الهرطقة بالنسبة للعديد من المختصين بالمبيعات، ولاسيما من "قلعوا أضراسهم" في المبيعات قبل تسعينيات القرن الماضي. بيد أنه كلام صحيح.
اقرأ أيضاً: موظف المبيعات العظيم يفعل كما العلامات التجارية العظيمة
لكنّ ما يفعلونه عوضاً عن ذلك هو الدخول في حوار مشترك حول ما يحاول الزبون إنجازه، ومن ثم يطابقون ما بين الحلول المعروضة من خلال منتجاتهم أو خدماتهم واحتياجات الزبون. أمّا البارعون تماماً بينهم فإنهم يطرحون أسئلة ذكية، بحيث يساعدون الزبائن على رؤية مشاكل لم يكن هؤلاء الزبائن يعلمون بوجودها لديهم أصلاً أو رؤية فرص سهلة المنال.
واحد من أفضل الأمثلة على هذه المقاربة كان مندوبة مبيعات تعمل لدى واحدة من كبريات الصحف اليومية. وظيفة هذه المندوبة كانت تتمثّل في بيع مساحات إعلانية في سوق شديدة التنافسية كانت تضم بدائل كثيرة ومتنامية بالنسبة للمعلنين بعيداً عن الصحف. وقد أتيحت لي الفرصة كي أراقب عدداً من اتصالات المبيعات التي أجرتها كجزء من وظيفة استشارية قمت بها أنا لصالح الصحيفة، إذ لاحظت فوراً مدى قلّة كلامها في مقابل حجم تشجيعها للزبون كي يتكلّم.
لقد قالت لي بأن هدفها كان يكمن في مساعدة الزبون على أن يرى السبب الذي سيجعل إعلانه في صحيفتها يساعده في تنمية حجم شركته، وقد طرحت عدداً من الأسئلة التي تدل على نفاذ البصيرة. وعندما كانت تتحدّث عن خيارات الإعلان، كانت تركّز تحديداً على الأفكار التي عبّر الزبون عنها. لم يدم الاجتماع سوى 45 دقيقة لأنها لم تقض الكثير من الوقت في الحديث عن المزايا أو المنافع التي لم تكن ذات شأن.
وفي النهاية، كانت تعبّر ببساطة عن اهتمامها بالعمل مع هذا الزبون المحتمل، مقدّمة إليه اقتراحين أو ثلاثة اقتراحات حول كيفية مضيهما قدماً. وقد فضّل الزبون المحتمل تلقّي مقترح ووافق على مراجعته خلال الأسبوع التالي. فالطريقة التي باعت بها منتجها كانت مفتاحاً رئيسياً لنجاحها كواحدة من أكبر خمسة مندوبي مبيعات في الشركة.
• ثالثاً: كل موظف يبيع بطريقة من الطرق – حتى لو كان لا يعتقد بأنه يفعل ذلك – فَلِمَ لا يحسّن أداءه في هذا المجال؟ في كتابه الذي يحمل عنوان "البيع من طباع البشر"، يشير دان بينك (Dan Pink) إلى أننا نقضي أكثر من 40% من وقتنا أثناء حياتنا المهنية في البيع. فنحن لا نبيع منتجات الشركة أو خدماتها فحسب، وإنما نبيع الأفكار، أو المقاربات، أو طريقة معيّنة في حلّ مشكلة ما.
لقد سبق لي أن كتبت من قبل حول مميزات وعيوب مهندس المبيعات، وحول الكيفية التي يخلق بها مسؤولو المبيعات القيمة مع الزبائن. فقدرتك على خلق القيمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرتك على البيع، بغض النظر عن الموقع الذي تشغله.
عندما أعمل مع أشخاص متخصّصين بخدمة الزبائن أو تكنولوجيا المعلومات، والذين يأنفون من فكرة العمل في المبيعات، أشدّد على أن المبيعات وتقديم الخدمات، إذا ما تمّا على أحسن ما يُرام، متشابهان للغاية، وإن كان أحدهما قائماً على المبادرة في الفعل في حين أن الآخر يستند إلى ردّ الفعل. صحيح أن هذا الفارق ليس تفصيلاً سخيفاً، ولكن اعتبر بأن محصّلة تجربة خدمة جيّدة وتجربة مبيعات جيّدة هي حل لمشكلة ما موجودة لدى الزبون، أو هي تحديد لفرصة ما من أجل التحسين.
لا تهرب من المبيعات كما كنت أقول أنا. حدّث طريقة تفكيرك حول عيوب وظيفة مندوب المبيعات بحيث تلائم القرن الحادي والعشرين، وتضبط خوفك من العمل في المبيعات. فالمبيعات هي المحرّك الذي يشغّل كل الشركات. ومسؤولو المبيعات هم من يقودون القطار.
اقرأ أيضاً: