كيرت نيكيش: اللون البرتقالي هو اللون السائد والمهيمن في مقر شركة "هبسبوت" لبرمجيات التسويق. فتجد أرائك برتقالية وماكينات مرطبات ومثلجات برتقالية، حتى أكشاك الهاتف برتقالية اللون. لقد أعيد تصميم مصنع الأثاث السابق هذا بمطابخ وغرف اجتماعات وزوايا منعزلة يستطيع الموظفون فيها التفكير والإبداع.
دارمش شاه: إليكم الرواق أو غرفة الاجتماعات بالشركة أو المكان المخصص لأي غرض نريده.
كيرت نيكيش: يستعرض دارمش شاه أحد الشركاء المؤسسين للشركة إحدى قاعات الاجتماعات.
دارمش شاه: إليكم متطلبات الشركات الناشئة من ثلاجة المشروبات ومنضدة تنس الطاولة وطاولة لعبة كرة القدم.
كيرت نيكيش: لعل تنس الطاولة وكرة القدم من أساسيات شركات التقنية المبتكرة اليوم، لكنّ النجاح في الابتكار يتطلب أكثر من مجرد ذلك، وفق ما جاء على لسان ضيفنا اليوم. فوراء كل هذا المرح وهذه الإيجابيات الظاهرة على السطح، سيتعين عليك تعلّم بعض الحقائق المريرة واتخاذ قرارات منضبطة ومواجهة الواقع القاسي. وفي هذا الصدد، تسيء الشركات فهم معنى الابتكار، بحسب رأي ضيفنا.
أجرت هارفارد بزنس ريفيو مقابلة في أحد برامجها الصوتية (بودكاست) مع غاري بيساتو، الأستاذ في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، ومؤلف مقالة "الحقيقة القاسية عن ثقافة الابتكار" المنشورة في مجلة هارفارد بزنس ريفيو، ومؤلف كتاب "البناء الإبداعي: نواة الابتكار المستدام" (Creative Construction: The DNA of Sustained Innovation)، وننقل لكم مقتطفاً من هذه المقابلة:
غاري بيسانو: يسعدني أن أكون معكم.
كيرت نيكيش: أنت تفني وقتك في عملك باحثاً ومستشاراً في شركات ريادة الأعمال الصغيرة وكذلك الشركات الكبرى التي تسعى للابتكار على نطاق كبير. في رأيك، ما الأمر الذي يسيء الناس فهمه؟ وما المفاهيم الخاطئة لدى الشركات والمدراء التي تود تصحيحها فيما يخص الابتكار على نطاق أكبر؟
غاري بيسانو: حسناً، هناك القليل من المفاهيم الخاطئة. فعلى مر سنوات طويلة أثناء عملي المتعلق بالإبداع وخلال التدريس في البرامج المتخصصة أو إلقاء المحاضرات في الندوات، دائماً ما أتحدث عن ثقافة العمل وأقدم الحالات الاعتيادية مثل شركة "آيديو" أتحدث عن الشركات الناشئة مع استعراض طاولات لعبة كرة القدم، وتبدو هذه البيئات باعثة على البهجة جداً، لكنها في الواقع ليست بيئات مرحة بالضرورة، بل هي بيئات عمل شديدة القسوة.
وإذا سألت الموظفين عن ماهية الثقافة الابتكارية كما يرونها، فهم يسردون مجموعة من الصفات على شاكلة تقبّل الفشل والاستعداد لتجريب الجديد وحرية الرأي والتآزر.
ثم اسألهم: "كم منكم يرغب في العمل في بيئة كهذه؟" فيرفع جميع الحاضرين تقريباً أيديهم. فهي تبدو بيئات ممتازة. وبعدها اسألهم: "كم منكم يعمل في بيئات كهذه؟" فيرفع عدد قليل جداً أيديهم.
وكان ذلك محيراً لأن ما وصفوه لي كان سلسلة أو مجموعة من الصفات المؤسسية التي لم تبد مفيدة للشركة وحسب، بل بدت أيضاً شيئاً يريدون القيام به.
لذا، حدثت نفسي بأن أتمهل، فلا بدّ أنّ هناك خطب ما، إذ أنه عادة يكون تغيير الثقافة أمر صعب إذا طلبت إلى الموظفين إنجاز شيء غير مرغوب فيه.
كيرت نيكيش: صحيح. لكن، فقط إذا كنت تحملهم على إنجاز شيء فيه مشقة.
غاري بيسانو: أجل، بالضبط. تبدو هذه أموراً يود الناس جميعاً القيام بها. لماذا لا تتغير الثقافة؟ ما صدمني حقاً هو أنّ الثقافات الإبداعية في الحقيقة تتطلب عدة سلوكيات مستساغة نوعاً ما يرغب الموظفون في تبنيها – كالاستعداد للتجريب وما إلى ذلك، لكن هناك جانباً آخر لا يقل أهمية، لكنه أيضاً أصعب وأكثر قسوة وأقل جاذبية. وإن لم تتقبل الجانبين معاً، فلن تكون لديك الثقافة الإبداعية حقاً. وأظن أنه بالتركيز على الجهود المبذولة على الجانب المستحسن للأمور – كالرغبة في التجريب والتعبير عن الآراء بحرية والتآزر – فإنّ ما يحدث في المؤسسات هو ...
كيرت نيكيش: الاحتفاء بالفشل...
غاري بيسانو: نعم، الاحتفاء بالفشل، ويمكننا الاستفاضة في الحديث عن تلك العبارة المبتذلة – وهي عبارة أخرى تجعلني أستشيط غضباً. عندما يصطدم الناس بالواقع المختلف، يسيطر عليهم الشك ويحدثون أنفسهم قائلين: "لا لا، لم تقصد الإدارة العليا كل ذلك". حقيقة، أظن أنها تعكس سوء فهم جسيم لمتطلبات اكتساب الثقافة الإبداعية. لن ينطوي الأمر على كل هذه الجوانب المبهجة، بل على مجموعة من الجوانب الأكثر قسوة أيضاً.
كيرت نيكيش: إذاً، لنبدأ بالعبارة المبتذلة "الاحتفاء بالفشل؟" ما الذي يعيبها؟
غاري بيسانو: حسناً، الغرض ليس الاحتفاء، عليك الاحتفاء بما تتعلمه من الفشل، لا بالفشل بحد ذاته. فهناك فشل بناء وهناك فشل عقيم، وعليك التمييز بين أنواع الفشل استناداً إلى حجم الدروس المستفادة. إذن، إذا جربت أمراً جديداً ينطوي على مجازفة ولم يفلح، فهذا يعني أنك "فشلت" لكنك ستكون قد تعلمت شيئاً عن الطريق الذي ستمضي فيه قدماً. قد يكون ذلك أمراً مغرياً وجديراً بالاحتفاء به – وأعني الدروس المستفادة من الموقف. لكن إذا وضعت تصميماً رديئاً أو أنجزت عملاً معيباً وباء بالفشل، فهذا ليس بالأمر الذي يستحق الاحتفاء. ينبغي أن يكون التركيز على التعلم لا الفشل.
كيرت نيكيش: كتبت هذه العبارة وكان لها صدى كبيراً حقاً: "الحقيقة هي أنّ تقبل الفشل يتطلب وجود موظفين على أعلى درجة من الكفاءة". هذه هي النقطة التي كنت تتحدث فيها عن أننا لو فشلنا بسبب سوء التصميم أو عقم صناعة القرار أو أياً كان السبب، فهذا ليس بالشيء الذي يستحق الاحتفاء.
غاري بيسانو: بالضبط!
كيرت نيكيش: وما تتحدث عنه هنا تحديداً هو عدم الكفاءة.
غاري بيسانو: أجل. أعني أنّ هذه الشركات تتمتع بقدرة كبيرة على تقبل الفشل، لكن لا تتقبل انعدام الكفاءة إلا قليلاً. إذا نظرت إلى شركات مثل جوجل، فستكتشف أنها تضع معايير عالية للأداء بشكل استثنائي. ومن الصعب جداً الحصول على وظيفة في جوجل.
كيرت نيكيش: أجل، كانت لديك إحصائية عن عدد المقابلات الشخصية التي تجريها شركة جوجل لشغل بضعة آلاف من الوظائف فحسب، لكني نسيت العدد تحديداً.
غاري بيسانو: نعم، حوالي مليوني مقابلة شخصية، كما تعرف، ملايين المقابلات لشغل بضعة الآلاف من الوظائف. ولذلك، من المستحيل الحصول على وظيفة لدى جوجل.
كيرت نيكيش: بالضبط. وأظن أنّ المشكلة أن الناس لا يرون ذلك الجزء من شركة جوجل. غير أن هذا التصميم يضع عدداً مهولاً حقاً من المعايير العالية جداً والمنضبطة جداً لاستقطاب الموظفين إلى الشركة، ثم منحهم الكثير من الحريات. وأنت تعطيهم الـ 20%.
غاري بيسانو: هذا صحيح لأنك تصبح واثقاً مما لديك، وهذا ما يجعلها شركة تآزرية. وتزيد احتمالية تقبلك لهذا النوع من التجريب وإقرارك بالقيمة المحتملة للتعلم من الفشل إذا كنت تعلم أن العاملين لديك على درجة عالية من الكفاءة وأن سبب إخفاقهم ليس لأنهم لم يفكروا في الأمر ملياً أو لقيامهم بالتخطيط لتجارب رديئة. بل إنهم يتجاوزون حدود الأفكار التقليدية، ولهذا فأنت بحاجة إلى العاملين فائقي الكفاءة.
وكذلك، في العديد من الشركات الأكبر حجماً، سرعان ما اتضح سعة صدرها بشدة للأداء المتوسط، فكان غير المؤهلين للمهمة يتعاقبون على مختلف الأقسام، لكن وجودهم واقع مفروض، وهذا أمر مدمر.
كيرت نيكيش: وبالنسبة للشركات التي لا تتمتع بهذه البوابات المرحلية مثل شركة جوجل، ماذا يمكن أن تفعل كي تضمن الكفاءة؟
غاري بيسانو: أول ما عليها القيام به هو تحديد المعايير المناسبة لتوظيف العاملين. لدينا اليوم العديد من الأدوات والتقنيات المتطورة لمساعدتنا على الابتكار. لدينا تحليلات البيانات الضخمة، لكن الابتكار على الأرجح هو أكثر الأنشطة الإنسانية كثافة على الإطلاق، على الرغم كل التقنية التي تمد إلينا يد العون.
لذا، إذا كنت جاداً بشأن تبنيك للإبداع، فإن أندر مواردك وأهمها ستكون الموارد البشرية. لذلك، إذا أعلنت أن شركتك تريد أن تكون شركة مبتكرة غير أنك لا تملك الفريق المتميز أو لا تعتقد أنّ بوسعك تشكيله، فأنت إذاً تحلم. أنت بحاجة فعلاً إلى العظماء.
وبالتالي، ينبغي أن تكون هذه في قمة أولوياتك. كيف تجذبهم؟ وكيف تدفع رواتبهم؟ وكيف تحافظ عليهم؟ وما البيئة التي ستوفرها لهم؟
كيرت نيكيش: ولن يحدث هذا الأمر بين ليلة وضحاها.
غاري بيسانو: بكل تأكيد. والمشكلة لو أن شركتك اشتهرت بأنها متوسطة الجودة، حينئذ لن تستقطب الموظفين المتميزين. لماذا يود جميع طلابي، وأعني أفضل طلابي على الإطلاق، الالتحاق بشركة جوجل؟ كلهم يريدون الانتساب إلى شركة آبل وشركة أمازون. ولا يريدون العمل في شركة سيرز.
أتعلم؟ تستطيع الشركات الأصغر حجماً إنجاز ذلك الأمر. وبوسعها إغواء الناس إليها بإثارة فضولهم تجاه ما يجري بداخلها. ويمكنها ذلك مادياً، يمكنها إغراء المرشحين للعمل لديها بخيارات الاكتتاب في الأسهم. إذا كانت شركتك من بين الشركات المتعثرة، ولجأت إلى هذا الخيار، فأعتقد أنّ الأمر يبدأ من مجالس الإدارة، فلتحرص على استقطاب المرشحين الأقوياء حقاً في المناصب العليا إذا كنت بصدد إحداث ثورة في الشركة وتحويل دفتها.
كيرت نيكيش: أجل، الأمر أشبه باستقطاب كبير المدربين القادر على التوظيف.
غاري بيسانو: بالضبط! لكن مع تحديد معايير الأداء بوضوح شديد، ثم إيضاح عواقب سوء الأداء، ومرة أخرى أشدد على أنّ هذا أمر شاق. لذا، إذا كنت تعمل في بيئة لا مساءلة فيها للموظفين عن أدائهم وقراراتهم العقيمة أو تصاميمهم الفاشلة أو تفكيرهم الفاسد، ثم تبدأ في فرض المعايير الآن، فلن يكون الأمر ممتعاً.
لن يكون الأمر ممتعاً لأن الترقيات ستُمنع فجأة عن الموظفين وسيحرمون من علاواتهم ويُسرحون من أعمالهم. هذا هو الجانب القاسي. ولهذا وضعنا عنوان المقالة "الحقيقة القاسية للشركات المبتكرة". إنّ الأمر شاق، وثمة جانب أكثر مشقة له. وهو ليس بالأمر الممتع. ولا يقتصر، كما تعرف، على طاولات لعب كرة القدم واللهو.
كيرت نيكيش: أجل، هذا هو ما يعيب هذا التصور؛ أعني أننا ننعم بوقت ممتع.
ومن خلال هذا النوع من البيئات الإيجابية، ستحدث أشياء إيجابية هكذا ببساطة. وسوف تُحدّث نفسك بأنّ هناك قرارات صعبة تكمن وراء تلك الحرية.
غاري بيسانو: بكل تأكيد، أعني أنّ غالبية الشركات الناشئة تبوء بالفشل. لذا فإنّ أغلب الموظفين لديهم يفقدون وظائفهم. أعني أن الأمر مؤلم.
كيرت نيكيش: اضرب لي مثالاً لشركة تتحمل تبعات الأداء المتدني بجدية.
غاري بيسانو: شركة "أمازون" تعتبر مثالاً ممتازاً، حيث تعرضت الشركة أحياناً لانتقادات لكونها بيئة قاسية فيما يخص فصل الموظفين، ولامتلاكها نظاماً دقيقاً لتقييم الأداء. أتدري؟ أظن أنّ هذا جزء من ضريبة تبني الشركة لثقافة إبداعية. يجب أن توظف هذه الشركات موظفين بارعين. وتُحمّل هؤلاء الموظفين مسؤولية أفعالهم. وبالتالي، فالمساءلة الصارمة جزء منها. والأفراد هم المسؤولون، لا مجموعات أو فرق العمل، بل الأفراد.
وكما تعرف، عليك أن تمسك العصا من المنتصف بالضبط، فلا تجعل بيئتك قاسية ولا متقلبة. لكن، لك في شركة "أمازون" مثال. كما اشتهر ستيف جوبز بفصل الموظفين غير المؤهلين للقيام بمهام عملهم.
كيرت نيكيش: دون أن يعطيهم فرصة ثانية.
غاري بيسانو: نعم. والنصيحة الوحيدة التي أسديها للناس أثناء التدريب هي أنّ المؤسسات فائقة الابتكار قد لا تناسب الجميع. فقد يشعر بعضكم بالضيق فيها، ولا عيب في ذلك. لذا، ينبغي أن لا نصدر حكماً تقديرياً على هذا الأمر، أي أنّ بعض الناس لا يريدون العمل في مؤسسات ذات مستوى عال من المساءلة على مستوى الأفراد. وبعض الناس لا يريدون العمل في مؤسسات تكون فيها العواقب وخيمة بحق على الأداء.
ولا بأس في ذلك. فلا أريد أن أصدر أحكاماً على أنماط بيئات العمل التي ينبغي على الأفراد العمل فيها. فأنا أؤمن بوجود أنواع كثيرة ومختلفة من بيئات العمل التي تتماشى مع الناس على اختلافهم. والهدف هو العثور على بيئة العمل التي تناسبك. لذا، على القادة توضيح الحقيقة المرة التي ستواجه الموظفين.
كيرت نيكيش: هناك حقيقة مرة أخرى، وهي ملاحظتك على وجوب تمتع الشركات بالاستعداد للتجريب مع انضباطها الشديد تجاهه. فلتحدثني عن هذا الأمر.
غاري بيسانو: أجل، مرة أخرى نحن نعرف أن الابتكار – خاصة الابتكار التحولي – يتطلب التجريب. فلا يمكنك التخطيط لكل شيء مسبقاً.
كيرت نيكيش: لا يمكنك الجزم بما سيحدث.
غاري بيسانو: بالطبع لا. لذا، تريد أن تجرب، ومنذ عقود ونحن نسمع عن التجريب، لكن ما تتحراه الشركات المبتكرة المتميزة بحق هو الانضباط الشديد فيما يخص الإنصات إلى البيانات التي تستخلصها من التجربة ثم التصرف وفق تلك البيانات.
وهذا عادة ما يعني إجهاض المشروع أو تعليقه أو القيام بما يعرف في ميدان العلوم باسم "التجربة الحاسمة" – أي أنك تجهز التجربة، وتزعم أنها تعطينا الفرصة المثلى لإثبات أن هذا الأمر لن يفلح. وبالمناسبة، هذه مشكلة تعانيها الشركات الناشئة والكبرى على حد سواء. فالجميع يريد إجراء التجربة التي تثبت أن الأمر جدير بالاستمرار، لكنها ليست بالخطوة المثمرة، حيث يتطلب المنهج الأكثر فعالية انضباط عملية الإعداد للتجربة التي تقتل الفكرة بحثاً من الأساس بحيث تشي في مرحلة مبكرة بأن: "هذه التجربة لن تفلح كما ظننا، لكن ها قد أصبح لدينا فكرة أخرى".
إلا أنّ هذا الأمر يتطلب قدراً عالياً من الانضباط على عكس ما يحدث عندما تحصل على نتائج تجريبية وتحدث نفسك قائلاً: "لربما كان هناك طريقة أخرى، لنمضي قدماً ونجري تجربة أخرى. يُحرّف الموظفون نتائج التجربة. ويتحتم عليك معاملة البيانات معاملة مقدسة واتخاذ قرارات صعبة لإجهاض مشاريع. ولن يرضى الموظفون عن ذلك إذا كان المشروع مشروعهم.
كيرت نيكيش: أجل. أرى أنّ هذا الأمر غاية في الصعوبة لأن هناك أمثلة عدة على فرق العلماء في شركات التقنية البيولوجية تعكف على تصنيع دواء ما، وارتأت الشركة أن عليها إجهاضه، غير أن مصيره آل إلى إخراجه إلى النور وترخيصه وطرحه بالأسواق. وإذا به يتحول إلى علاج ثوري في نهاية المطاف.
غاري بيسانو: هذا صحيح. وهناك العديد من القصص المعروفة؛ أعني تلك الأفكار التي أجهضت عشرات المرات وتحولت لاحقاً إلى عقاقير بقيمة 3 مليارات دولار أو 10 مليارات دولار فأصبحت أشهر قصص صناعة الأدوية، وفي كل مرة يحاول أحدهم فيها إجهاض مشروع ما، فإنه يحدّث نفسه قائلاً: "حسناً، قد تكون هذه هي التجربة المنشودة، وقد تكون واحدة أخرى من تلك التجارب" وقد تكون كذلك فعلاً.
كيرت نيكيش: وهناك أيضاً كذلك أمثلة على أمور أخرى بالغوا في تجريبها.
غاري بيسانو: أجل، ولهذا لا يمكنك الجزم أبداً. فعليك دائماً بالموازنة بين الأخطاء من النوعين 1 و2 في مثل هذه الأمور. هل أنا بصدد إجهاض فكرة رابحة أم الاحتفاظ بفكرة عقيمة؟ ولهذا السبب، فالأساس هنا هو التجريب المنضبط لأن التجارب المتميزة فعلياً تمدك بأفضل البيانات. فهي لا تقرر نيابة عنك وبالتالي ستظل ملزماً باتخاذ قرارك.
كيرت نيكيش: تعجبني فكرة "التجربة الحاسمة" تلك، ألا توافقني الرأي؟ أعني أن لزميلتك إيمي إدموندسون كتاب حول المؤسسات الجريئة، أليس كذلك؟ إنها تسعى إلى تحقيق السلامة النفسية في المؤسسات كي يتمكن الموظفون من القيام بأفضل الأعمال. أين الحقيقة المرة في هذه البيئة، حيث تريد أن يتمكن الموظفون فيها من الانتقاد بل وأن يشعروا أيضاً بالعَظَمة حيال ما يقومون به من عمل؟
غاري بيسانو: صحيح. فالسر إذاً يكمن في التوازن الدقيق، وأنا أكن لأعمال آيمي كل الاحترام – وقد ناقشتها، وعملت معها. وبالتالي، فأنا من أشد المؤمنين بكتاباتها حول السلامة النفسية. لكن السلامة النفسية لا تعني ألا يعمل لديك موظفون لا يتحلون بالصراحة الشديدة.
كيرت نيكيش: فكرتها الرئيسية، وهي خلاصة ما اكتشفته، تفيد بأنّ الموظفين الذين استطاعوا التحدث عن أخطائهم وما تعلموه انتهى بهم الحال إلى أن يكونوا أكثر فعالية.
غاري بيسانو: هذا صحيح. ولهذا لا أظن أن هذه الأفكار متناقضة أبداً. وعادة ما يساء تفسيرها كما تعلم، فهناك استعداد للإفصاح عن الرأي على الملأ. وللإفصاح طريقان: إذا تحدثت بصراحة وانتقدت أفكارك، فعليّ أن أكون مستعداً لتقبل النقد الموجه لأفكاري. ونتيجة لذلك، عندما يكون للموظفين حرية التعبير عن الرأي، وعندما تجلس معهم على الطاولة، ستدرك أنّ طاولة الاجتماعات مكان قاس جداً. وأعني أنه عليك التحلى بقوة التحمل. لقد حضرت العديد من هذه الاجتماعات ورأيت الناس يتبادلون الانتقادات اللاذعة. الآن، السر يتمحور في جوهره حول الفكرة والبيانات والمفهوم لا حولك أنت.
إنّ التعرض للنقد ليس أمراً محبباً. ليس من الممتع أن يمزق الناس الفكرة التي كنت تعمل عليها لشهور إرباً وكنت تظنها رائعة. فهؤلاء ليسوا مؤسسات ترتاح بالضرورة لوجودك فيها. هذا هو الواقع. أعتقد أنك بحاجة إلى ذلك لدفع عجلة الابتكار.
كيرت نيكيش: هل الأمر صعب في الشركات الكبرى تحديداً؟
غاري بيسانو: أظن ذلك، لأن بعض الشركات تخلط ما بين هذه الفكرة والاحترام. خلال أحد أبحاثي التي أجريته في إحدى الشركات، أسر لي أحدهم بثقافة شركته، وهي أنهم يتحلون باللطف الشديد. أي أنهم يعتبرونك غير متعاون إذا بدأت في انتقاد أحدهم خلال أي اجتماع.
كيرت نيكيش: أعرف العديد من الشركات على هذه الشاكلة.
غاري بيسانو: أجل، والأمر لا علاقة له بالسلامة النفسية تحديداً، وليس الأمر أن الناس شعروا بأنهم ليسوا بمأمن إذا أفصحوا عن مكون صدورهم. إنهم لا يشعرون بأن إفصاحهم فعل سديد. أما الآن، فإن هذه مشكلة كبيرة في رأيي. وما يحدث أغلب الوقت هو أن النقد واقع لا محالة، لكنه يحدث في الأروقة وفي طريق الخروج إلى المرأب، حيث يقول أحدهم سراً: "دعني أخبرك عن رأيي في هذه المسألة".
وهذه مشكلة، لأنني أظن أنها تخلق ثقافة مسمومة، ولأنك تفقد المعلومات بسبب الحوارات التي تدور في الأروقة، ولو أنها دارت على الطاولة لقلنا "مهلاً، إنّ بياناتك إشكالية، لكن إليك طريقة أفضل للنظر إليها". أو لعلها ليست إشكالية إلى هذا الحد.
إنني أقصد أننا نستطيع التعلم وهذا هو ما تحصل عليه، لكنك تجازف بالكشف عن فكرتك ثم تتلقى ضربة بين الفينة والأخرى، مجازاً.
كيرت نيكيش: هذا ينتقل بنا إلى حقيقة أخرى من الحقائق التي كشفتها بشأن الثقافات الإبداعية؛ وهي تزامن التآزر مع المساءلة الفردية. وهذا أمر صعب بحق لأنني أظن أنّ هناك إحساساً بأنك إذا عملت في إحدى تلك الشركات التي تتحلى بدرجة عالية من التآزر، فلا بدّ أن تنتهي مساعيها كلها دائماً بعبارة "أنجزنا الأمر!" ولا تُمنح المكافآت بالضرورة فيها لأفراد بأعينهم، ولكن لا ينزل العقاب فيها أيضاً على أفراد بأعينهم. يبدو أن هذه الفكرة لا تروق لك.
غاري بيسانو: إنها لا تروق لي بتاتاً. بل تروق لي قاعدة أن كل امرئ يتحمل عاقبة أخطائه كما يقولون. لنلقي نظرة على أسس الابتكار. نحن نعلم أن السرعة ضرورية بحق للابتكار؛ وأعني سرعة اتخاذ القرارات. فيستطيع الأفراد اتخاذ القرارات أسرع من اللجان. أعلم ذلك يقيناً لأنني أكاديمي.
لكن الفرد – ومرة أخرى يظهر هذا التوازن – سواء كان مديراً أو رئيس مشروع، إذا ألقيت المسؤولية على عاتقه وحده، سيجد في نفسه حافزاً كبيراً للتعاون وسيحصل على إسهامات من كثير من الموظفين على اختلافهم. لذلك، هذه المساءلة تخلق، على الأقل، حافزاً للتآزر. وعندما نحلل التآزر نجد أنّ لكل فرد أهدافه الفرعية – كأن تود هذه المجموعة مثلاً أن تحمي نطاقها وتريد تلك المجموعة أن تصون مجال عملها.
وعندما تكون المسارات المهنية للأفراد ووظائفهم وعلاواتهم على المحك، يتشكل لديهم حافز كبير يدعوهم للحرص على استخلاص المعلومات من الأشخاص المناسبين ودفع عجلة التآزر بأنواعه المختلفة. وأرى أن المشكلة تنشأ عندما تبدأ في إشراك مجموعات الموظفين. أو كما تعلم، قد يتفكك التآزر بسرعة ويتحول إلى إجماع، ويشوب الناس البطء والتلكؤ.
وحينئذ لن تتخذ قرارات صعبة، بل ستتخذ قرارات عادية. أتعرف؟ لن تستطيع الاختيار بين الشوكولاتة والفانيلا فتختار مزيجاً بينهما. ستصل في نهاية المطاف إلى مساومات نوعاً ما. وكلنا شهدنا منتجات كهذه يبدو وكأن لجاناً هي التي صممتها، بدلاً من شخص واحد اتخذ قراراً تقديرياً وقال "علينا أن نختار، إما "أ" أو "ب". كل ما توصلت إليه بعد أن وضعت في الاعتبار آراء مختلف الموظفين واسترشدت بمختلف البيانات، أن بعضكم انحاز للقرار (أ) والبعض الآخر انحاز إلى (ب) – وإليكم سبب اختياري للقرار (أ)".
أظن أن هذا الأسلوب أكثر فاعلية بكثير، ثم تقول لذاك الشخص: "أثق بحكمك على الأمور، وسوف نحملك مسؤولية قرارك. يتعين عليك اتخاذ قرار سليم، فهذا ما نتوقعه من القادة". وإذا كان لديك قادة عاجزين عن اتخاذ قرارات سليمة، فهذا يعني أنهم يشغلون المنصب الخطأ.
كيرت نيكيش: وهنا يتسرب الأمر إلى ثقافة الشركات الناشئة، حيث تكون المؤسسات عادة أكثر تسطيحاً. وهي مصممة بهذا الشكل كي تحاول استقطاب المشاركات من الجميع وأن تضمن أن إدارة المنتجات ملمة بما تقوم به إدارة التسويق، وهكذا دواليك. غير أنّ هذه الثقافة لا تزال بحاجة إلى القيادة، أو هكذا يبدو.
غاري بيسانو: هذا صحيح لأن القيادة هي التي تضع الحدود. قد تكون شركتك مسطحة إذا كنت تعرف وجهتك عين اليقين. إذا كانت شركتك لا مركزية تماماً – وهذه طريقة أخرى للنظر إلى الإدارة المسطحة – لكن كل شخص ينطلق في طريقه ليعمل ما يشاء، وإلا لن تجد إجماعاً واضحاً بشأن الرؤية أو الوجهة التي نحن بصددها، وستنهار الشركة وتسقط في براثن الفوضى.
القادة الأقوياء إذاً يضعون الحدود المتعلقة بالاتجاه الذي نتخذه والأولويات القصوى التي نتبناها. والآن سأترك لك حرية القرار في كيفية التحرك، لكني سأحدد الأولوية. وهذا ما يتعين على القائد إتاحته، ألا وهو ذلك النوع من الوضوح.
كيرت نيكيش: وهل يضيع ذلك الوضوح؟
غاري بيسانو: قد يضيع بالفعل، أحياناً نفقده في الإدارة المسطحة، فنكلف آخرين باتخاذ قرارات لا ينبغي ألا نكلف أحداً بها، وبذلك نثير الارتباك.
كيرت نيكيش: أجل. ما يعجبني هنا هو أنك تثبت أنه يصعب جداً إنجاز الابتكار والابتكار المستدام، لكن إن تمكنت من إنجازهما، فإن ذلك يمنحك أيضاً ميزة تنافسية. أي أنه لو لم يكن الأمر سهلاً، لأنجزه الجميع ولوجدت نفسك في ذات المركب مع الآخرين.
غاري بيسانو: بالضبط. إن قيمته مستمدة تحديداً من صعوبته. وما أعدكم به أمرين في المقالة والكتاب، آمل أن أسهل هذه الرحلة الشاقة فعلاً عليكم. لكن الأمر ليس سهلاً ومجرد استعدادك لهذا الأمر مفيد ويمكنك اعتبار هذا الكلام إرشادات للانطلاق. وهناك الجانب الشاق. لقد تحدثنا عن التوازن وما وصفته لك هو الجانب المبهج؛ الجانب المتعلق بتقبل الفشل وحرية التعبير والاستعداد للتجريب وهكذا – وهذا أشبه بالجانب الحلو المكون من المثلجات، لكن هناك جانب آخر.
لعلي أظهر بمظهر الشخص عتيق الطراز نوعاً ما، لكن عندما كنت صغيراً، كنت أتناول زيت كبد سمك القد للحفاظ على صحتي. يُعرف زيت السمك بفوائده الطبية اليوم. وهذه مادة بشعة، ومن ثم، فالوضع أشبه نوعاً ما بأن تقول أنك ستتناول المثلجات وتسكب عليها زيت كبد سمك القد. ومهمتك كقائد هي التأكد من تحقيق التوازن بينهما. إذا حصلت على جانب زيت كبد سمك القد البشع فقط، فلن تتشكل لديك مؤسسة إبداعية.
على الجانب الآخر، إذا ركزت فقط على جانب المثلجات، فلن تكون مبدعاً. إنّ ذلك التوازن هو ما ينبغي أن تكون مهووساً به.
كيرت نيكيش: تبدو لي أشبه بمسؤول الابتكار الصارم في هذا السيناريو، أليس كذلك؟ هل تستمتع بهذا الدور؟
غاري بيسانو: لعلي أستمتع بدور تحري الصدق حيال ما أرى. فأنا لست ممن يبادرونك بأن الوضع سيكون رائعاً وممتعاً. بل هناك جانب شاق. لذا، أنصح الشركات قبل أن تسلك ذلك الطريق أن تتأكد من أن الجميع على دراية بكافة جوانبه كفريق من كبار الموظفين وأنهم على استعداد للقيام بهذا الأمر.
لأنك إذا انطلقت في دربك زاعماً أن الدرب حافل بالمرح والبهجة ثم اصطدمت بالواقع، فسيتحتم عليك إذاً إجهاض بعض المشروعات. وعلينا أن نتحلى بالاستعداد للتجريب، لكن علينا كذلك أن نتّسم بالانضباط. إذا تبين لك مباشرة وجود مفارقة ينبغي معالجتها، فظني أنك بذلك أفضل حالاً من ذي قبل. ستشرع في إجهاض المشروعات، وسيقول الموظفون أنهم لم يكونوا جادين بالمرة حيال الاستعداد للتجريب. لأنك وقتها ستبدأ في الشعور بالإنهاك مرة أخرى.
كيرت نيكيش: أنني أشكرك على هذا اللقاء الممتع.
غاري بيسانو: شكراً، كل الامتنان لك.
اقرأ أيضاً: كيف تتكلم عن نفسك