التطور سمة العصر، فبينما يمضي الزمن، تحدث التحولات من تلقاء نفسها، لكن أحداثاً بعينها قد تتحكم في هذا التطور لتدفعه على نحو لم يكن متوقعاً، مثل ما أحدثته جائحة "كوفيد-19" في كافة المجالات عامة، وفي المسار المهني خاصة، لدرجة تجعل تقسيم الزمن إلى "ما قبل الجائحة" وما بعد الجائحة" أمراً منطقياً.
غيّرت جائحة "كوفيد-19" طريقة تفكيرنا جميعاً، ومنحتنا لحظة للتأمل فيما يجري حولنا، وفي مسارنا الذي أوقفته بعدما وصلنا إليه بشق الأنفس في لحظة غير متوقعة، وفي عادات العمل التي غيرتها تماماً بين ليلة وضحاها.
ففي دراسة أجرتها كل من شركة "أوراكل" (Oracle) و"وورك بليس إنتلجينس" (Intelligence Workplace)، تشير نتائجها إلى أن الأشخاص في جميع أنحاء العالم شعروا بأنهم عالقون في حياتهم الشخصية والمهنية، حيث أدى استمرار حالة عدم اليقين لأكثر من عام بسبب الجائحة إلى شعورهم أن حياتهم الشخصية والوظيفية خارجة عن نطاق سيطرتهم.
ونُشرت الدراسة التي شملت أكثر من 14،600 موظف ومدير في مجال الموارد البشرية والإدارة التنفيذية وتنفيذيين من المستوى المتوسط في 13 دولة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، حيث تأثر 91% من الأشخاص سلبياً بسبب مجريات العام الماضي، ويكافح 42% من المشاركين من الناحية المالية، ويعاني 26% منهم من تدهور صحتهم العقلية، فيما يفتقر 26% إلى الدوافع الوظيفية، ويشعر 22% بانفصال عن حياتهم الشخصية.
هذه الظروف القاسية، والتحولات المفاجئة، والأولويات المختلفة للموظفين، والتي باتت في مقدمتها التوازن بين العمل والحياة الشخصية والمرونة والصحة العقلية، تفرض على أصحاب العمل المهنيين، تغيير طريقة تعاملهم مع الموظفين، وفقاً لاحتياجاتهم الجديدة، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة. وهذه طرق فعالة يمكن للمدراء الاستعانة بها في سبيل تحقيق ذلك:
المبادرة بفهم احتياجات الموظفين
يُقال إن الأزمات هي الاختبار الأصدق للقيادة، فوحده القائد الكفؤ يستطيع تجاوزها بل ويمكنه الخروج منها ببعض المكاسب. ومن المنطقي أن تصبح الخطوة الأولى للاستجابة لتحدي التغير الذي فرضته جائحة "كوفيد-19"، هو تقدير المدراء لهذا التغيير، فتوضح نتائج الدراسة أن 96% من المشاركين أفادوا بتغير معنى النجاح بالنسبة إليهم منذ بروز الجائحة. وكلما استطاع المدير فهم الاحتياجات الوجودية لدى الموظفين، ازداد قدرته غلى استبقائهم والاستفادة منهم.
إجراء المحادثات الفردية مع موظفيك خطوة ستساعدك على فهم احتياجاتهم. وعلى الرغم من أنك ربما لن تستطيع تلبية جميع التفضيلات، على اختلافاتها، ولكن مجرد شعور الموظفين بأن مديرهم يضع مصالحهم في الاعتبار ستزداد احتمالية تحسن معدلات استبقاء الموظفين والإنتاجية والابتكار.
الاهتمام بتطوير مهارات الموظفين
أوقفت الجائحة المسار المهني للكثير من الموظفين، وأفقدتهم الثقة في مهاراتهم خاصة في لحظات الغموض. لذا، تفيد الدراسة محل النقاش أن الأشخاص في جميع أنحاء العالم يتوقون إلى إحداث تغييرات في حياتهم المهنية، وأنه بعد نحو عامين من بدء الجائحة، ربما سيتصدر التطور المهني الأولوية في أذهان الأشخاص في جميع أنحاء العالم إلى إحداث تغييرات في حياتهم المهنية.
يقول قالدان شاوبل، الشريك الإداري في شركة "وورك بليس إنتلجينس": "إن النتائج تشير بوضوح إلى أن الاستثمار في المهارات والتطوير الوظيفي أصبح الآن عاملاً رئيسياً لأصحاب العمل، لأنه سيعزز شعور الموظفين بأنهم يسيطرون على حياتهم الشخصية والمهنية. وستجني الشركات التي تستثمر في موظفيها وتساعدهم على إيجاد الفرص فوائد قوة عاملة منتجة ومحفزة على العمل".
المرونة
غيرت جائحة "كوفيد-19" طبيعة العمل الجامدة، وأضفت إليها نوعاً من المرونة من الصعب الاستغناء عنها مجدداً. لذا أصبحت المرونة أحد العوامل التي سيبحث عنها الموظفون في 2022، إذ يعتبرها 40% من المشاركين في الدراسة ضمن أولوياتهم الأولى.
وحتى بعد انتهاء الوباء، ينتظر الموظفون من مؤسساتهم، وفقاً لتقرير صادر عن شركة "ماكنزي آند كومباني" التركيز بشكل أكبر على المرونة والتعويض التنافسي والرفاهية. كما أفاد نصف الموظفين أنهم سيتركون عملهم إذا لم يجر منحهم خيار العمل الهجين، حيث تنقسم أيام العمل بين العمل عن بعد والعمل في مقر الشركة. ويشير إلى أن هذا النموذج قد يساعد على تحقيق أقصى استفادة من المواهب أينما كانت إلى جانب خفض التكاليف وتقوية الأداء التنظيمي.
ويمكننا هنا الاستعانة بالقصة التي أوردتها المؤلفة دوري كلارك، خلال مقال "كيف تعيد تنظيم عملك في أعقاب الجائحة"، المنشور عبر منصة هارفارد بزنس ريفيو، لآن ماري نيل، مسؤولة تنفيذية ناجحة في مجال الموارد البشرية، والتي تمكنت على مدار ربع قرن من إقناع رؤسائها بالسماح لها بالعمل من بلدتها البعيدة، إذ كانت تطرح عليهم باستمرار سؤالاً مهماً ربما سيكرره الموظفون في فترة ما بعد الجائحة مراراً: "هل تريد تعيين أفضل شخص لهذا المنصب أم أفضل شخص في المنطقة؟".
الاهتمام بالصحة العقلية للموظفين
ألحقت الجائحة أضراراً جسيمة فيما يتعلق بصحتنا العقلية، خاصة مع وضع الحجر الصحي، وفرض العزلة، واهتزاز المسار المهني، والغموض الذي يكتنف المشهد بأكمله. إذ يفيد 26% من المشاركين في الدراسة أنهم عانوا من تدهور في صحتهم العقلية. فيما وضعها 40% من المشاركين على رأس أولوياتهم في العمل بعد الجائحة.
وعلى الرغم من الضرر الذي ألحقته الجائحة، فإنها كشفت عن الوجه القبيح لبعض أماكن العمل التي تتبع ثقافات غير مرنة ولا تراعي الرعاية الصحية للموظفين. إذ أفادت دراسة شملت 2,700 موظف في أكثر من 10 قطاعات أن 40% من المشاركين أبلغوا أن شركتهم لم تستطلع أحوالهم منذ تفشي الجائحة.
وفي عام 2021، كان أكثر من نصف (66%) الأشخاص يعانون من مشاكل في الصحة العقلية في العمل أكثر مما كانوا عليه في عام 2020. وتضاعف عدد الأشخاص الذين لا يشعرون بأي سيطرة على حياتهم الشخصية والمهنية منذ بداية الجائحة. لذلك، ستكون مبادرة المدراء بإعطاء أولوية للرعاية الصحية خطوة فعالة للاستفادة من قدرات موظفيهم، والاستبقاء عليهم. إذ عبر 3 من كل 5 موظفين، خلال دراسة حديثة، عن رضاهم لقيام مدرائهم بشكل استباقي بالسؤال عن صحتهم العقلية.
وتقول إيفيت كاميرون، نائبة الرئيس الأعلى في شركة "أوراكل كلاود آتش سي إم" (OracleCloudHCM): "إن العام الماضي حدد مساراً جديداً لمستقبل العمل، ومن المدهش أنه من بين الإجهاد والقلق والوحدة التي فرضتها الجائحة العالمية، وجد الموظفون صوتهم، وأصبحوا أكثر تمكيناً، ويتحدثون الآن عما يريدونه".
الاستفادة من التكنولوجيا
في ظل مستقبل العمل المتقلب، وديناميات أماكن العمل المتغيرة، يسعى الموظفون اللجوء إلى التكنولوجيا للحصول على المساعدة وللاحتفاظ بأعلى المواهب، لذا يتعين على أصحاب العمل إيلاء الاهتمام لاحتياجات الموظفين أكثر من أي وقت مضى والاستفادة من التكنولوجيا لتوفير دعم أفضل.
فيعتقد 91% من المشاركين في الدراسة أن الآلات يمكنها دعم حياتهم الوظيفية على نحو أفضل من الإنسان بتقديم توصيات غير متحيزة، أو الرد بسرعة على الأسئلة المتعلقة بحياتهم الوظيفية، أو إيجاد وظائف جديدة تناسب مهاراتهم الحالية. غير أن الأشخاص لا يزالون يؤمنون بأهمية دور البشر في تقديم الدعم عن طريق تقديم المشورة على أساس الخبرة الشخصية، وتحديد مواطن القوة والضعف، والنظر إلى أبعد من السيرة الذاتية للتوصية بوظائف التي تناسب الشخصيات.
لذا، سيكون من الأهمية بمكان أن يستفيد المدراء من التقنيات الجديدة، وأدوات التكنولوجية في تحسين بيئة العمل للموظفين، إذ يرجح 74% أنهم سيستمرون في شركة تستخدم تكنولوجيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي لدعم النمو الوظيفي.
في النهاية، ما نمر به ليس طبيعياً أبداً، سواء مع الجائحة أو الأتمتة اللذين تم وصفهما في المنتدى الاقتصادي العالمي بـ "الاضطراب المزدوج الذي يواجهه العالم"، ومع ذلك، فإننا نمضي قدماً ونستجيب لتحديات باغتتنا فجأة، لذلك تقع على عاتق المدراء الاستجابة بدورهم إلى هذه التغييرات، وإعادة النظر في استراتيجيتهم مع موظفيهم.