تتفشى الوقاحة في مكان العمل، ولا تتوقف عن الازدياد. وقد استطلعنا، على مدار الـ 14 عاماً الماضية، الآلاف من الموظفين بشأن المعاملة التي يتلقونها في العمل، إذ أفاد 98% منهم أنهم عانوا من السلوك غير المتحضر. وفي عام 2011، قال نصف هؤلاء الموظفين إنهم عوملوا بوقاحة مرة واحدة في الأسبوع على الأقل، مقارنةً بربعهم في عام 1998. فما هو تأثير الوقاحة على العمل بشكل عام؟
تنطوي التكاليف الناجمة عن الوقاحة على تقويض النتائج المالية للشركات، إذ يستجيب معظم الأشخاص، إنْ لم نقل جميعهم، للوقاحة في مكان العمل بطريقة سلبية، وفي بعض الحالات يقابلون الأذى المترتب عليها بمثله، بشكل سافر. ويصبح الموظفون أقل ابتكاراً عندما يشعرون بعدم الاحترام، ويضيق الكثيرون ذرعاً من هذه الوقاحة ويتركون الشركة. ويقلل حوالي نصف هؤلاء الموظفين، بشكل متعمد، الجهد الذي يبذلونه، أو يقللون جودة العمل الذي يؤدونه. ومن شأن الوقاحة إفساد العلاقات مع العملاء. إذ يُظهر بحثنا أن من المستبعد إقدام الأشخاص على الشراء من شركة يوجد بها موظف يرون أنه وقح، سواء أكانت هذه الوقاحة في معاملتهم أو معاملة موظفين آخرين. وتدفع مشاهدة العملاء موظفاً يسيء المعاملة إلى تعميم هذا السلوك على بقية الموظفين والمؤسسة وحتى على العلامة التجارية.
اقرأ أيضاً: دروس مستقاة من القيادة الأخلاقية
وأجرينا، لأغراض هذا البحث، مقابلات مع موظفين ومدراء ومسؤولين عن الموارد البشرية ورؤساء شركات ورؤساء تنفيذيين. ووزعنا استبيانات، وأجرينا تجارب، وعقدنا حلقات عمل، وتحدثنا إلى أطباء ومحامين وقضاة وموظفين مسؤولين عن إنفاذ القانون، ومعماريين ومهندسين ومستشارين ومدربين بشأن كيفية مواجهتهم للوقاحة وتعاملهم معها. وجمعنا بيانات من أكثر من 14 ألف شخص في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا، من أجل تتبع مدى تفشي الوقاحة في مكان العمل، وأنواعها وأسبابها، والتكاليف المترتبة عليها والمعالجة لها. وثمة أمران نعلم بشأنهما على وجه اليقين، وهما أن ثمن الوقاحة باهظ، وأن عدداً قليلاً فحسب من المؤسسات يدرك الوقاحة أو يتخذ تدابير للحد منها.
وسنناقش في هذه المقالة النتائج التي توصلنا إليها، ونخوض في تفاصيل التكاليف المترتبة عليها، ونقترح بعض التدخلات. ولكن دعونا أولاً نلقي نظرة على الأشكال المختلفة التي يمكن أن تتخذها الوقاحة.
أشكال الوقاحة
سمعنا جميعنا عن المدير الشنيع، أو تعاملْنا معه، إذ تؤدي الضغوط الناتجة عن المعاملة العدائية المستمرة من قِبل المدير إلى عواقب تكون وخيمة في بعض الأحيان. وقد تحدثنا إلى شخص، سنُطلق عليه اسم مازن، كان رئيسه في العمل شخص يُدعى مصعب، وهو شخص متنمر ومضطرب، كان لا يتوانى عن إهانة مرؤوسيه المباشرين والتقليل من شأن جهودهم التي يبذلونها وإلقاء اللوم عليهم في أشياء ليس لهم يد فيها. (خضعت الأسماء في هذه المقالة للتغيير وأُخفيت هويات الأشخاص). وكانت وقاحة مصعب تطال العملاء أيضاً. فعندما رافق مازن إلى متجر أحد العملاء، قال مصعب لمالك المتجر "أرى أنك تتبّع خطى والدك. إذ كان هذا المتجر في عهده في حالة مزرية، وما يزال على الحالة نفسها تحت إدارتك".
وبعد أن طفح كيل الضغوط التي يعاني منها مازن، قرر المجازفة وإبلاغ قسم الموارد البشرية بشأن مصعب، (ولم يكن مازن أول شخص يقدّم شكوى ضد مصعب). وامتنع مصعب عن الاعتذار، عند استدعائه لتبرير تصرفاته قائلاً إنه ربما "استخدم قنبلة ذرية" عندما "كان بإمكانه استخدام مضرب لقتل الذباب". وبعد أسابيع من ذلك، اختير مصعب أفضل مدير مقاطعة لهذا العام. وبعدها بثلاثة أيام، أصيب مازن بنوبة قلبية.
وفي حين أن ما انتهت عليه قصة مازن ليس أمراً مألوفاً، إلا أن من المستغرب تفشي الوقاحة بلا رادع، إذ إننا سمعنا عن مدير كان يسيء معاملة الآخرين باستمرار لدرجة أن الموظفين والموردين كانوا يستخدمون شيفرة لتنبيه بعضهم البعض عند اقتراب وصوله، وهي عبارة: (وصل النسر!). وكان الجانب الإيجابي الوحيد في هذه الحالة هو أنّ الكراهية التي يتشاطرها الموظفون لمديرهم قد ساعدتهم على تكوين روابط وثيقة فيما بينهم. وبعد انهيار الشركة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، شكّل خريجوها شبكة ما تزال تنمو حتى يومنا هذا.
وتتفشى الوقاحة، في بعض الحالات، في قسم بأسره. إذ عملت غادة في صناعة اجتذبت أعداداً كبيرة من المهنيين الشباب المتعلمين الراغبين في العمل مقابل أجر زهيد لكي يكونوا في مجال إبداعي. وكان من المسلّم به على نطاق واسع أنّه يتعين عليهم دفع ضريبة ذلك. وكانت هذه البيئة تنطوي على أشياء من قبيل: صفع الأبواب والمحادثات الجانبية والإقصاء والاستخفاف السافر بوقت الأشخاص. وما تزال غادة، بعد سنوات، تقشعر وهي تتذكر مديرها وهو يصرخ في وجهها قائلاً "لقد ارتكبت خطأ!" عندما تجاهلت خطأً مطبعياً طفيفاً في مذكرة داخلية. وكان الموظفون في الدرجات الدنيا يتعرضون للكثير من الاستنزاف، بيد أن أولئك الذين استمروا منهم في العمل بدا أنهم امتصوا السلوكيات التي يتعرضون لها، وكانوا يعاملون الموظفين الجدد المعاملة السيئة نفسها التي كانوا يتلقونها.
وكانت فدوى إحدى كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة عالمية للمنتجات الاستهلاكية. حيث وجدت نفسها، بعد عدة أشهر من تحقيق نمو بارز على الرغم من تراجع الاقتصاد، في مواجهة يوسف، وهو وافد جديد في المناصب التنفيذية العليا بالشركة. وكان على فدوى التصدي للعقبات لمدة ستة أشهر للدفاع عن الشركة، على الرغم أنها تحدّت حالة الركود الاقتصادي. ولم تفهم أبداً سبب تعرضها للمضايقات، ثم غادرت في نهاية المطاف، ليس من أجل تولي وظيفة أخرى بل هرباً مما أسمته "تجربة محطمة للنفس".
ويمكن أن يتخذ تأثير الوقاحة على العمل أشكالاً أكثر خفاءً، وغالباً ما يكون الدافع وراءها هو الطيش وليس الخبث الفعلي. ومن أمثلة ذلك المدير الذي يرسل رسائل بريد إلكتروني إلى موظف أثناء تقديمه عرضاً تقديمياً، أو المدير الذي "يثير أعصاب" مرؤوسيه المباشرين بطرق لاذعة، أو قائد الفريق الذي ينسب الفضل لنفسه عند حدوث أمور جيدة بيد أنه يُلقي المسؤولية على أعضاء الفريق عندما لا تسير الأمور على ما يرام. إذ من شأن مثل هذه الأفعال البسيطة نسبياً أن تكون أكثر فداحة من التنمر العلني، لأنها أقل وضوحاً ويسهل التغاضي عنها، بيد أنها تتراكم وتؤدي إلى تقويض المشاركة والروح المعنوية.
تأثير الوقاحة على العمل
من الممكن أن يقول العديد من المدراء إن الوقاحة أمر غير صائب، لكن لا يدرك جميع المدراء أن الوقاحة تنجم عنها تكاليف ملموسة. إذ غالباً ما يعاقِب الأشخاص المستهدفون بالوقاحة مرتكبيها والمؤسسة نفسها، على الرغم أن معظمهم يُخفون مشاعرهم أو يخبّئونها ولا ينظرون إلى تصرفاتهم بصفتها انتقاماً بالضرورة. وقد اكتشفنا، من خلال استطلاع شمل 800 مدير وموظف في 17 قطاعاً، كيف تحدث ردود فعل الأشخاص. فمن بين الموظفين الذين كانوا الطرف المتلقي للوقاحة:
قلل 48% منهم، عمداً، الجهد الذي يبذلونه في العمل.
قلل 47% منهم، عمداً، الوقت الذي يقضونه في العمل.
قلل 38% منهم، عمداً، جودة عملهم.
أضاع 80% منهم وقت العمل قلِقين بشأن واقعة وقاحة تعرضوا لها.
أهدر 63% منهم وقت العمل في تجنب الشخص مرتكب الوقاحة.
قال 66% منهم إن أداءهم انخفض.
قال 78% منهم إن التزامهم تجاه المؤسسة انخفض.
قال 12% منهم إنهم تركوا عملهم بسبب المعاملة غير المتحضرة التي تلقّوها.
اعترف 25% منهم أنهم نفّسوا إحباطهم على العملاء.
وتقدم التجارب والتقارير الأخرى حول تأثير الوقاحة على العمل أفكاراً إضافية بشأن التأثيرات التي تنطوي عليها الوقاحة. وفيما يلي بعض الأمثلة لما يمكن أن يترتب على الوقاحة:
تقويض الإبداع أحد أبرز تأثير الوقاحة على العمل
في تجربة أجريناها مع أمير إيرز، أستاذ الإدارة في “جامعة فلوريدا"، كان المشاركون الذين كان ثمة أشخاص آخرون يعاملونهم بوقاحة أقل إبداعاً بنسبة 30% من المشاركين الآخرين في الدراسة. وطرحوا أفكاراً أقل بنسبة 25%، وكانت الأفكار التي توصلوا إليها أقل ابتكاراً. على سبيل المثال، عندما سئل المشاركون في الدراسة عما يمكن فعله بطوبة، اقترح المشاركون الذين كانوا يتلقون معاملة سيئة أنشطة منطقية بيد أنها لم تكن إبداعية بشكل خاص، مثل "بناء منزل" و"بناء جدار" و"بناء مدرسة". بينما كانت أفكار المشاركين الذين كانوا يعامَلون بشكل متحضر أكثر تألقاً، فتضمنت اقتراحاتهم: "بيع الطوبة على موقع إيباي" و"استخدامها كقائم مرمى لمباراة كرة قدم تُلعب في الشوارع" و"تعليقها على حائط أحد المتاحف وتسميتها بالفن التجريدي" و"تزيينها كحيوان أليف وإعطاؤها هدية لطفل".
اقرأ أيضاً: كيف يتحول السلوك غير الأخلاقي إلى عادة
تدهور الأداء وروح الفريق
تشير نتائج الاستطلاعات والمقابلات إلى أن مشاهدة واقعة وقاحة فحسب تنطوي على عواقب سلبية. ففي إحدى التجارب التي أجريناها، كان أداء الأشخاص الذين شاهدوا سلوكاً سيئاً أقل بنسبة 20% في حل الكلمات المتقاطعة من الأشخاص الآخرين. وتبيّن لنا أيضاً أن الأشخاص الذين يشاهدون واقعة وقاحة يكونون أقل إقداماً لتقديم المساعدة مقارنة مع الآخرين، حتى عندما لا يكون للشخص الذي كانوا سيساعدونه أية صلة واضحة بالشخص غير المتحضر، إذ تطوّع 25% فحسب من الأشخاص الذين شاهدوا واقعة وقاحة لتقديم المساعدة، بينما أقدمَ 51% ممن لم يشاهدوا واقعة وقاحة على تقديم المساعدة.
من المستبعد إقدام الأشخاص على الشراء من شركة يوجد بها موظف يرون أنه وقح، حتى في حال لم تكن هذه الوقاحة في معاملتهم.
انصراف الزبائن
وفق استطلاع أجريناه مع 244 من المستهلكين، تشيع الوقاحة العلنية بين الموظفين. ومن شأن السلوك غير اللائق أن يضايق الأشخاص، وسرعان ما يغادرون المحل دون إجراء عملية شراء، سواء أكان هذا السلوك توبيخ نادلات لزميلاتهن أو انتقاد موظفين في متجر لزملائهم.
وقد درسنا تأثير الوقاحة على العمل مع أستاذَي التسويق في "جامعة جنوب كاليفورنيا"، ديبي ماكينيس وفاليري فولكيس. وفي إحدى التجارب، شاهد نصف المشاركين مندوباً مصرفياً مفترضاً يوبخ مندوباً آخر علانيةً على تقديمه معلومات بطاقة ائتمان بشكل غير صحيح. إذ قال 20% فحسب من الذين شاهدوا المواجهة بينهما إنهم سيستخدمون خدمات البنك في المستقبل، مقارنة بـ 80% ممن لم يشاهدوا هذه المواجهة. وقال ما يقرب من ثلثَي الذين شاهدوا الحوار إنهم سيشعرون بالقلق من التعامل مع أي موظف في هذا البنك.
وفضلاً عن ذلك، عندما اختبرنا سيناريوهات مختلفة، تبيّن لنا عدم أهمية ما إذا كان الموظف المستهدف بالوقاحة غير كفء، وما إذا كان التوبيخ قد جرى خلف أبواب مغلقة (ولكن بصوت مسموع)، أو ما إذا كان الموظف قام بشيء مريب أو غير قانوني مثل ركْن سيارته في الموقف المخصص للمعوَّقين. إذ لا يرغب الأشخاص في رؤية الآخرين يتلقون معاملة سيئة، بغض النظر عن الظروف المحيطة بهذه المعاملة.
إدارة حالات الوقاحة مكلفة
يقول اختصاصيو الموارد البشرية إن من شأن حالة وقاحة واحدة فحسب امتصاص أسابيع من الاهتمام والجهد. ووفق دراسة أجرتها شركة "أكاونتيمبس" (Accountemps) ونُشرت في مجلة "فورتشن"، يقضي المدراء والمسؤولون التنفيذيون في الشركات الموجودة في قائمة مجلة "فورتشن" لأكبر ألف شركة 13% من وقت عملهم - أي ما يعادل سبعة أسابيع في السنة - في إصلاح العلاقات بين الموظفين، وبخلاف ذلك التعامل مع التداعيات المترتبة على الوقاحة. وتزداد، بالطبع، التكاليف عندما يتطلب الأمر الاستعانة باستشاريين أو محامين للمساعدة في تسوية الموقف.
يقضي المدراء والمسؤولون التنفيذيون في الشركات الموجودة في قائمة مجلة "فورتشن" لأكبر ألف شركة ما يعادل سبعة أسابيع في السنة في التعامل مع التداعيات المترتبة على الوقاحة.
ما يتعين على القائد عمله من أجل تجنب تأثير الوقاحة على العمل بشكل صحيح؟
يمكن أن يتطلب الأمر توخي اليقظة المستمرة للحفاظ على السلوك اللطيف في مكان العمل، وإلا فالغالب أن تتسلل الوقاحة إلى التعاملات اليومية بين الأشخاص. ويمكن للمدراء استخدام العديد من الاستراتيجيات للسيطرة على سلوكهم وتعزيز الكياسة بين الآخرين، مثل:
إدارة نفسك
القادة هم القدوة للآخرين. لذا، يجدر بك أن تكون على دراية بأفعالك وكيفية تواصلك مع الآخرين.
كُن القدوة في السلوك الجيد
في أحد الاستطلاعات التي أجريناها، قال 25% من المدراء الذين اعترفوا أنهم كانوا يتصرفون بشكل سيئ إنهم كانوا غير متحضرين لأن قادتهم – وهم قدواتهم – كانوا وقحين. إذ في حال رأى الموظفون أن الأشخاص في المناصب الإدارية العليا متسامحون أو أنهم يتبنون سلوكاً غير متحضر، فمن المرجح أن يحذوا حذوهم. لذا، أغلِق هاتفك أثناء الاجتماعات، وانتبه إلى الأسئلة التي تُطرح، وتابع الوعود التي تقدمها.
ويتثمل أحد سبل المساعدة في إشاعة ثقافة الاحترام وإبراز أفضل ما لدى موظفيك في إبدائك التقدير. وتعد الملاحظات الشخصية فعالة بشكل خاص، لا سيما إنْ كانت تركز على تقديم نموذج يحتذى، والمعاملة الطيبة للأشخاص والالتزام بقيم المؤسسة. ويدرك دوغلاس كونانت (دوغ)، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "كامبل سوب" (Campbell Soup)، قوة التقدير الشخصي، إذ أرسل، خلال فترة عمله رئيساً ومديراً تنفيذياً للشركة، أكثر من 30 ألف ملاحظة شكر مكتوبة بخط اليد للموظفين.
طلب الملاحظات
يمكن أن تحتاج إلى تمحيص الواقع من الأشخاص الذين يعملون لديك. إذ قرر أحد المدراء في شركة "هانوفر إنشورانس" (Hanover Insurance) أن يسأل موظفيه بشأن ما يروقهم وما لا يروقهم في أسلوب القيادة الذي ينتهجه. وعلم أنّ تصفّحه لهاتفه أو رده على رسائل البريد الإلكتروني أثناء الاجتماعات كان يضايقهم. وقد كفّ الآن عن هذا، وأضحى هذا التغيير موضع تقدير فريقه.
ولن يكون الموظفون صريحين دائماً، بيد أنه توجد وسائل يمكنك استخدامها بنفسك. على سبيل المثال، احتفظ بكراسة تقوم فيها بتتبع حالات الكياسة والوقاحة، ولاحظ التغييرات التي ترغب في إجرائها.
اقرأ أيضاً: 5 إشارات تدل على أن مؤسستك تتجه نحو فضيحة أخلاقية
إيلاء الاهتمام للتقدم الذي تحرزه
عندما تسنى لجوزيف، وهو متخصص في تقنية المعلومات، معرفة المزيد عن الوقاحة، أصبح مدركاً لميله إلى الاستخفاف ببعض زملائه السيئين خلف ظهورهم. وقال لنا "لم أكن أفكر في الأمر كثيراً إلى أن نظرتُ في القدوة السلبية التي كنت أمثلها. ولم أكن أنتقد سوى الأشخاص الذين كانوا ذميمين بالنسبة إلى الآخرين، ولم أكن أصرّح بانتقاداتي سوى إلى أشخاص أثق بهم وعلى انفراد، وهذا ما جعل الأمر يبدو لا ضير فيه إلى حد ما. ثم بدأت أفكر في كيف أنني كنتُ أوسّع الشُقة عبر نشر القيل والقال وخلق "أطراف". وكانت تلك بمثابة تبصرة حقيقية، وقررت أنني أود أن أتصرف بصورة بناءة أكثر". وفي غضون فترة زمنية قصيرة، لاحظ جوزيف انخفاض عدد حالات انغماسه في الأقاويل وشعوره برضا أكثر حيال نفسه ومكان عمله. وقال "لا أعرف ما إذا كان أي شخص آخر قد لاحظ فرقاً – إذ كان الأشخاص بالفعل يعتقدون أنني شخص منصف وداعم – بيد أنني أعلم أنني قد تغيرت". وثمة فائدة أخرى لنا جميعاً، وهي أنني لم أعد أشاهد سوى القليل من الوقاحة في محيطي. وأعتقد أنه عندما يتصرف الزملاء أو المرؤوسون بوقاحة، فمن شأن التحدث معهم حول الأمر أن يُحدث فرقاً بالفعل. إذ إن ذلك ينبههم إلى وجود شخص يراقب كيفية معاملة الجميع ويبالي بشأنها".
إدارة المؤسسة. تُعد مراقبة سلوكك وضبطه جزءاً مهماً من الاستراتيجية، ولكن يتعيّن عليك اتخاذ إجراءات في الشركة ككل أيضاً.
تضمين الكياسة في معايير التوظيف
تجنّبْ استقدام الأشخاص الوقحين إلى مكان العمل من أجل الحد من تأثير الوقاحة على العمل لديك. إذ تضع بعض الشركات، بما في ذلك شركتَي "ساوث ويست أيرلاينز" (Southwest Airlines)، و"فورسيزونز" (Four Seasons)، الكياسة في صدارة معايير التوظيف عند إجراء مقابلات مع المتقدمين لشغل الوظائف لديها.
ومن المفيد إفساح المجال لأعضاء فريقك لإبداء آرائهم بشأن زملائهم المحتملين، فربما يلاحظون سلوكاً لم يكن ليبدو جلياً في المقابلات التي تتسم بالطابع الرسمي أكثر. إذ تُجري "رابسودي" (Rhapsody)، وهي خدمة موسيقى متوفرة بالاشتراك عبر الإنترنت، مقابلات جماعية مع المتقدمين لشغل الوظائف لديها، كيما يتسنى للموظفين تقييم زملائهم المحتملين. ومن المعروف رفْض المتقدمين للوظيفة الذين يتمتعون بالقوة على الورق بيد أنهم يجعلون الفريق يشعر بعدم الراحة بطريقة أو بأخرى. وفي إحدى الحالات، شعر فريق كان يدرس اثنين من المتقدمين لوظيفة أنّ المرشحة الأقوى على ما يبدو تفتقر إلى الذكاء العاطفي، إذ كانت تتحدث كثيراً، وبدت غير مستعدة للإصغاء. لذا، عيّنت الشركة المرشح الآخر، الذي نجح بشدة في القيام بالدور الوظيفي.
وأفادت نسبة 11% فحسب من المؤسسات بإيلاء الكياسة اعتباراً خلال عملية التوظيف، ولم تتحقق العديد من هذه المؤسسات من الكياسة سوى بطريقة سطحية. بيد أن الوقاحة عادة ما تترك أثراً من نوع ما يمكن كشفه إذا كان أحد الأشخاص على استعداد لرؤيته.
وكاد أحد المستشفيات أن يرتكب خطأ عند استقدام اختصاصي أشعة جديد. إذ عرضَ هذه الوظيفة على منذر، وهو طبيب موهوب أوصى به زملاؤه بشدة وتفوق في مقابلات التوظيف التي أجريت معه. بيد أن إحدى المساعِدات في القسم المعنِي انتابها حدس بوجود خطب ما بشأن منذر. وعلمتْ، عن طريق إجراء مجموعة من الاتصالات الشخصية، أنّ منذر كان يُسيئ معاملة عدد من مرؤوسيه، وهي معلومات لم تكن لتظهر أبداً في سيرته الذاتية. لذا، أوقف رئيس القسم توظيف منذر، وأخبره أنه في حال وافق على عرض التوظيف، فسيُسرّحه المستشفى على الفور، وهو أمر سيثير شكوك أصحاب العمل المحتملين بشأنه.
تعليم الكياسة
دائماً ما يفاجئنا عدد المدراء والموظفين الذين يُخبروننا أنهم لا يفهمون ما يعنيه أن تكون متحضراً. وقال رُبع مَن أقدموا على إبداء سلوك وقِح مِن الذين شملهم استطلاعنا إنهم لم يكونوا مدركين أن سلوكهم غير متحضر.
ويمكن للأشخاص تعلّم الكياسة في مكان العمل عند معرفة تأثير الوقاحة على العمل بشكل دقيق، ويُعد تقمص الأدوار أحد أساليب تعلمها. ففي أحد مستشفيات لوس أنجلوس، يتعين على الأطباء متقلبي المزاج الالتحاق بـ"مدرسة تعليم آداب التعامل"، لتقليل تهورهم (وتقليل الدعاوى القضائية المحتملة بسبب تهورهم). كما تُقدم بعض المؤسسات دروساً في إدارة تنوّع الأجيال، تناقَش فيها الاختلافات في معايير الكياسة، وكيفية تحسين السلوك عبر الأجيال.
ويمكن أن يكون الفيديو وسيلة تعليمية جيدة، لاسيما عند اقترانه بالتدريب. صوِّر الموظفين خلال تعاملاتهم المختلفة كي يتسنى لهم ملاحظة تعبيرات وجوههم والوضعيات التي يتخذونها والكلمات التي ينطقونها ونبرة الصوت التي يستخدمونها. وسيستغرق الأمر بعض الوقت لتعلم كيفية تجاهل الكاميرا، بيد أنهم سيعودون في نهاية المطاف إلى أنماط سلوكهم المعتادة.
وأخبرنا الرئيس التنفيذي لشركة طبية، بعد مشاركته في عملية من هذا القبيل، قائلاً "لم أكن أدرك مقدار وقاحتي". وما يُحسب له أنه استخدم هذه البصيرة في صياغة تواصل أكثر تحضراً، وأنه أصبح أقل وقاحة. كما أفاد مسؤول تنفيذي كبير آخر أنه دائماً ما كان يعتقد أنه يحافظ على وجهه خالياً من التعابير، بيد أن الفيديو كشف "إشارات" واضحة كان يُبديها. على سبيل المثال، كان يُشيح بوجهه إذا فقد الرغبة في المناقشة.
ونوصي أن يشاهد الأشخاص الفيديو، بعد تسجيله، بثلاث طرائق: أولاً، مشاهدته بكل من الصوت والصورة للتعرف بشكل عام على سلوكهم. وثانياً، مشاهدته دون صوت للتركيز على السلوكيات غير اللفظية مثل الإيماءات والتباعد وتعبيرات الوجه. وثالثاً، الاستماع إلى الصوت فحسب لتسليط الضوء على نبرة الصوت ومقدار الكلام وسرعته واختيار الكلمات. إذ إن الأشخاص لا يواجهون مشكلة مع الكلمات فحسب، فنبرة الصوت أيضاً يمكن أن يكون لها مفعول مساوٍ أو أكثر.
استنباط قواعد للفريق من أجل الحد من تأثير الوقاحة على العمل
ابدأ حواراً مع أعضاء فريقك بشأن التوقعات. إذ أخبرَنا مسؤول تنفيذي في مجال التأمين أنه تحدث مع فريقه بشأن السلوكيات، ما نجح منها وما لم ينجح. وبنهاية الاجتماع الأول، كان الفريق قد وضع قواعد ملموسة للكياسة، وتولى زمامها، من قبيل الوصول في الوقت المحدد، وتجاهل البريد الإلكتروني أثناء الاجتماعات.
وقد استعرنا، في أحد أماكن العمل الخاصة بنا، ممارسةً من الألعاب الرياضية لتخفيف وطأة الضغوط ومساعدة بعضنا البعض على تجنب الوقوع في براثن حالات الغِلظة التي تحدث من حين لآخر. ففي عالمنا، يمكن أن تندلع الوقاحة أثناء العروض التقديمية، لأن الأساتذة المتحمسين أكثر من اللازم ربما يستجوبون الزملاء والأساتذة الزائرين بشدة في محاولة لإظهار ذكائهم. ونُحذر الزملاء الذين ينخرطون في هذا السلوك باستخدام إشارات اليد للإشارة إلى ما يقابل البطاقات الصفراء والحمراء في كرة القدم. إذ ترسل إشارة "البطاقة الصفراء" (وهي قبضة اليد المرفوعة إلى جانب الرأس) تحذيراً، وتخبر الشخصية المستجوِبة بأنه يتعين عليها التفكير في صياغة كل من تعليقاتها وأسئلتها ونبرتهما وحدتهما. وتعني إشارة "البطاقة الحمراء" (المتمثلة في أصبعين مرفوعين، يليهما الأصبع الإبهام مسحوباً بطريقة تقليدية) أنّ الجلسة قد انتهت بالنسبة إلى الشخصية المستجوِبة، إذ إنها كانت هجومية للغاية مراراً وتكراراً، وبعد تلقيها تحذيراً واضحاً، يلزم إخراجها من اللعبة. وقد أدرك أعضاء هيئة التدريس أنهم عندما يتلقون إشارة البطاقة الحمراء، يتعين عليهم أن يضغطوا عليها، وهو ما يعني ألّا مزيد من الوقاحة في هذا اليوم.
واعتمدت منظومة "أوشنر" (Ochsner) الصحية، وهي إحدى المنظومات الكبيرة التي تقدم الرعاية الصحية في ولاية لويزيانا بالولايات المتحدة، ما تسمّيه "طريقة 10/5"، وهي طريقة قوامها أنك في حال كنت على بُعد 10 أقدام من شخص ما، فتواصل معه بالعين وابتسم له. وإنْ كنت على بعد خمسة أقدام منه، فألقِ عليه التحية. ونتيجة لاستخدام هذه الطريقة، شهدت منظومة "أوشنر" درجة أكبر في رضا المرضى وزيادة في إحالات المرضى.
مكافأة السلوك الحسن
ينبغي أن تؤخذ الروح الجماعية في الحسبان في كل مراجعة للأداء، لكنّ العديد من الشركات لا تفكر إلا في النتائج، وغالباً ما تتغاضى عن السلوكيات الضارة. ما السلوك الذي يحفزه نظامك الخاص بمراجعة الأداء؟ نرى المؤسسات، في أغلب الأحيان، تُخفق في هذا المنحى بشدة، فهي تبتغي التعاون، لكنك لن تعرف ذلك أبداً من استماراتها الخاصة بالتقييم، التي تركز بالكامل على التقييم الفردي دون وجود مقياس واحد للعمل الجماعي.
ونفذت شركة "زابوس" (Zappos) برنامجاً للتقدير سمّته "يا للروعة" صُمم لاقتناص الأشخاص أثناء قيامهم بأمر صائب. إذ يمكن لأي موظف في أي مستوى يرى زميلاً يقوم بشيء مميز أن يمنحه علامة "يا للروعة"، التي تتضمن مكافأة نقدية تصل إلى 50 دولاراً. ويصبح الأشخاص الحاصلون على هذه العلامة مؤهلين تلقائياً للحصول على جائزة "البطل"، إذ يجري اختيار الأبطال من قبل كبار المسؤولين التنفيذيين. ويحصلون على موقف لركن سياراتهم مدفوع التكاليف لمدة شهر، وبطاقة هدايا شركة "زابوس" بقيمة 150 دولاراً، وقبعة البطل التي تكتسي بحس رمزي كامل. ومن شأن الجوائز المرحة مثل هذه أن تكون دلالات قوية على أهمية الكياسة.
يمكن لأي موظف في شركة "زابوس" يرى زميلاً يقوم بشيء مميز أن يمنحه علامة "يا للروعة"، التي تتضمن مكافأة نقدية تصل إلى 50 دولاراً.
معاقبة السلوك السيئ
تُخطئ حتى أفضل الشركات في بعض الأحيان بتعيين موظفين سيئين، ويمكن أن يعتاد الموظفون في شركة جرى الاستحواذ عليها على معايير مختلفة. وتكمن البراعة في تحديد أي سلوك مقلق ومحاولة تصحيحه. بيد أن الشركات غالبًا ما تتجنب اتخاذ أي إجراء، ولا يجري الإبلاغ عن معظم الحوادث، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن الموظفين يعرفون ألا جدوى من الإبلاغ عن السلوك السيئ. خذ الشكاوى بجدية وتابعها، إنْ كنت ترغب في تعزيز الاحترام.
وغالباً ما يختار القادة، بدلاً من مواجهة مرتكبي السلوك السيئ، حلاً أسهل، وهو نقلهم إلى موقع مختلف. وتكون النتيجة المترتبة على ذلك متوقعة، وهي استمرار هذا السلوك في بيئة جديدة. أخبرنا أحد المدراء أن قسمه قد أستُهلِك كثيراً بحيث لم يعد ينظر في المرشحين الداخليين لشغل المناصب الإدارية.
ويكون أفضل مسار، أحياناً، هو تسريح الشخص صاحب السلوك السيئ. فإن داني ماير، وهو صاحب العديد من المطاعم الناجحة في منطقة مانهاتن، لن يتوانى في فصل شخص بارع في العمل إنْ كان سلوكه غير متحضر. ولا يستمر الطهاة الموهوبون، بيد أنهم وقحون، في مطاعمه لأنهم يطلقون العنان للمشاعر السيئة. ويعتقد ماير أنه يمكن للعملاء تذوق وقاحة الموظف، حتى عندما يحدث هذا السلوك في المطبخ.
وقد أدركت العديد من كبرى شركات المحاماة والمستشفيات والمؤسسات التجارية التي تعاملنا معها، بالطريقة القاسية، أنها لا تدفع ببساطة لإيواء مرتكبي السلوك السيئ بصورة اعتيادية، حتى إنْ كانوا جالبي ثروات لها أو أشخاصاً محميين. سواء تسبب مرتكبو السلوك السيئ في دعاوى قضائية بملايين الدولارات أو كانوا مسؤولين عن مغادرة حشود من الموظفين للشركة، فغالباً ما كان من الممكن تخفيف الخسائر عن طريق اتخاذ إجراءات مبكرة وحازمة. وقد أخبرنا مؤخراً مسؤول تنفيذي كبير في إحدى الشركات الناجحة للغاية قائلاً "كان كل خطأ ارتكبناه في فصل موظف مشكوك فيه هو في اتخاذ الإجراء بشأنه بشكل متأخر للغاية، وليس على نحو سابق لأوانه".
إجراء مقابلات مع الموظفين بعد مغادرتهم الشركة
تتلاشى الذاكرة المؤسسية بسرعة. لذا، من الأهمية بمكان جمع المعلومات من تجارب الموظفين الذين يغادرون بسبب الوقاحة ومن ردود فعلهم، والتفكير ملياً بشأن هذه المعلومات. ففي حال سألتَ الأشخاص المستهدفين بالوقاحة أثناء مقابلات مغادرتهم عن سبب رحيلهم عن الشركة، فلن تحصل عادةً سوى على ردود غامضة فحسب. بينما يمكن أن تسفر المقابلات التي تُجرى بعد ستة أشهر أو نحو ذلك عن صورة أدق. ويمكن للتحدث مع الموظفين السابقين بعد ابتعادهم عن المؤسسة واستقرارهم في بيئات عملهم الجديدة أن يمنحك نظرة ثاقبة حول انتهاكات الكياسة التي دفعتهم للمغادرة. وتحسب الشركات التي تعاملنا معها أن تكاليف الوقاحة تصل إلى الملايين.
وقبل بضع سنوات، وضعت شركة "سيسكو" تقديرات مفصلة للتكاليف التي تتكبدها الشركة بسبب الوقاحة. ولأنها أخذت في الاعتبار سمعتها كمكان رائع للعمل باستمرار، فقد افترضت وجود احتمال ضئيل للغاية لحدوث الوقاحة بين موظفيها، ونظرت في ثلاثة تكاليف محتملة فقط. وحتى في مكان العمل المثالي هذا، قُدّرت التكلفة الناجمة عن الوقاحة بمبلغ 12 مليون دولار في السنة. وقد أدى هذا الإدراك إلى إنشاء برنامج شركة "سيسكو" العالمي للكياسة في مكان العمل.
وفي نهاغية الحديث عن تأثير الوقاحة على العمل بشكل عام، بتحذير أولئك الذين يعتقدون أن الكياسة المستمرة مبالغة، إذ يمكن لموظف عدواني بصورة منتظمة ويتولى منصباً حساساً في الشركة أن يكلفك غالياً فيما يتعلق بفقدان الموظفين والعملاء والإنتاجية.
اقرأ أيضاً: كيف نحقق التوازن بين القرار الاستراتيجي بتحقيق الأرباح ومعايير الأخلاق؟