ملخص: لا يصحُّ أن تستعد للتغيير وقت حدوثه، بل يجب أن تستعد له قبل وقوعه وخلال أوقات الهدوء النسبي. فحينما تتعامل مع التغيرات المتلاحقة بأسلوب رد الفعل في لحظة حدوثها، فإن هذا سيُبقيك في موقف دفاعي إلى الأبد، وقد تكون العواقب وخيمة. وستعجز حينها عن رؤية الاتجاهات المستقبلية لأن انتباهك سيتركز حينها على ملاحقة الأحداث غير المتوقعة الناجمة عن حالة عدم اليقين. وهذا من شأنه أن يعرّض مؤسستك لمخاطر أنت في غنى عنها ويحرمك من استغلال الفرص الجديدة المتاحة. وتُعد هذه وصفة مثالية للإحباط وتراجع مستوى الأداء في أحسن الأحوال، والانهيار التام في أسوئها. وفي حين أن العثور على "الوقت المناسب" للاستعداد للتغيير قد يكون أمراً صعباً، فإن ثمة طرقاً لا تُعد ولا تُحصى للبدء. وتستعرض مؤلفة المقالة 4 خطوات يمكن للقادة اتخاذها لإعداد مؤسساتهم للازدهار في خضم الأمواج المتلاطمة من أجل التغيرات المتلاحقة.
يكفي أن نعود إلى الوراء قليلاً لنجد أن عام 2020 وجزءاً كبيراً من عام 2021 كانا بمثابة دعوة لليقظة ومعرفة مدى التغيير الذي قد يحدث وسرعته. لكنهما كانا أيضاً بمثابة إحماء لما هو قادم، ليس بالضرورة حدوث جائحة أخرى تحفل بتغيرات متتالية، بالطبع، ولكننا قد نكون بصدد تغيرات متلاحقة يصعب تخيل مداها.
فلن يكون المستقبل أكثر استقراراً أو يقيناً. وسواءً كنا نتحدث عما سيحدث في ظهيرة هذا اليوم أو الأسبوع المقبل أو الربع المقبل أو العام المقبل أو العقد المقبل، فلا شك في أن المستقبل بات الآن أكثر غموضاً ويصعب التكهن بأحداثه ويحفل بعدم اليقين. ولعلنا نتساءل الآن (وغالباً بمشاعر ممزوجة بالقلق) عن مصير وظائفنا ورفاهتنا ومستقبل أطفالنا. وصرنا نعاني على مستوى المؤسسات زعزعة نموذج العمل والتحول الرقمي وموجة الاستقالة الكبرى. وغدونا نواجه على المستوى الاجتماعي تغيرات غير مسبوقة في المناخ والاقتصاد والتركيبة السكانية والنظم السياسية (على سبيل المثال لا الحصر). ومن المتوقع أن تتلاحق هذه التغييرات وتتقاطع آثارها.
وبصفتي عالمة مستقبليات، فإنني أقضي الكثير من الوقت في مساعدة الشركات والمسؤولين التنفيذيين وفرق العمل على فهم القوى التي تسهم في تشكيل المستقبل والاستعداد له بروح تنم عن المسؤولية. ولا أهدف من وراء ذلك إلى التنبؤ بالمستقبل (وهو مسعى عديم الجدوى)، بل الاستعداد بالأحرى لمختلف الظواهر المستقبلية المحتملة التي يمكن أن تتكشف عمّا قريب. وقد أتاح لي العمل في هذا الحقل والسفر عبر أكثر من 100 دولة لأكثر من 25 عاماً أن أشهد مراراً وتكراراً معاناة المؤسسات مع التغيير وكيفية مواجهتها له بطرق مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، فهناك بارقة أمل أمام المؤسسات التي تخطط من أجل المضي قدماً في مواجهة التغيير.
لا يصحُّ أن تستعد للتغيير وقت حدوثه، بل يجب أن تستعد له قبل وقوعه وخلال أوقات الهدوء النسبي. فحينما تتعامل مع التغيير بأسلوب رد الفعل في لحظة حدوثه، فإن هذا سيُبقيك في موقف دفاعي إلى الأبد، وقد تكون العواقب وخيمة. وستعجز حينها عن رؤية الاتجاهات المستقبلية لأن انتباهك سيتركز حينها على ملاحقة الأحداث غير المتوقعة الناجمة عن حالة عدم اليقين. وهذا من شأنه أن يعرّض مؤسستك لمخاطر أنت في غنى عنها ويحرمك من استغلال الفرص الجديدة المتاحة. وتُعد هذه وصفة مثالية للإحباط وتراجع مستوى الأداء في أحسن الأحوال، والانهيار التام في أسوئها.
وفي حين أن العثور على "الوقت المناسب" للاستعداد للتغيير قد يكون أمراً صعباً، فإن ثمة طرقاً لا تُعد ولا تُحصى للبدء. وإليك 4 خطوات يمكن للقادة اتخاذها لإعداد مؤسساتهم للازدهار في خضم الأمواج المتلاطمة للتغيرات المتواصلة:
مراجعة "الجاهزية للتغيير"
يُنصَح دائماً بإجراء تقييم شامل للتعرّف على مدى استعداد مؤسستك لخوض غمار عالم يمر بهذه الحالة غير المسبوقة من التغيرات المتلاحقة لأن هذا يسهم في إرساء أسس التعامل السليم مع مستقبل الثابت الوحيد فيه هو التغيير تلو التغيير، وعلى الرغم من ذلك، فمن النادر أن تجد قادة يواظبون على إجراء هذا التقييم باستمرار. وتهدف مراجعة "الجاهزية للتغيير" إلى توفير الوضوح على مستويات متعددة.
أولاً: ما الجوانب الأكثر تأثراً بالتغيير في مؤسستك وقطاعك وفريقك وحياة عملائك؟ فمن السهل أن تعزل التغييرات وتقصرها على أقسام أو تخصصات محددة، ولكن هذا الإجراء غالباً ما يغفل الديناميات والعلاقات الترابطية الرئيسية التي يمكن أن تسهّل تقييم أثر التغيير على كل مفاصل المؤسسة. فاحرص على مراعاة الوضوح بشأن الأقسام أو التخصصات التي تكون دائماً أكثر استعداداً للتغيير من غيرها: مَن الذي برع على مدار الأشهر الثمانية الماضية، ولماذا؟
ثانياً، ما أصعب التغييرات المطلوب إجراؤها؟ يحب الإنسان التغييرات التي يختارها بمحض إرادته (كوظيفة أو علاقة أو قَصّة شعر جديدة) ويخاف التغييرات التي لا يستطيع التحكم فيها أو يقاومها (كتسريح العمال أو الانفصال أو المخاطر الصحية). وتنتقل هذه الديناميات في الغالب إلى مكان العمل، ولكن آثارها تتضخم هناك.
ثالثاً، وأخيراً: ما العوائق التي تعترض مؤسستك وتمنعها من التعامل مع التغيير جيداً؟ هناك عدد من العوائق الشائعة، ومن أهمها:
- إصابة الفريق بالاحتراق الوظيفي أو القلق: من الصعب تقييم حالة عدم اليقين عندما نصاب بالإرهاق. فعندما نشعر بالتعب، فإننا ننظر إلى الأمور على الأرجح من منظور ضيق ونشعر بالقلق.
- انعدام الثقة: عندما يحدث التغيير، فإنك ستحتاج إلى الثقة المتبادلة أكثر من أي مورد آخر. ولك أن تتمعن في السؤالين التاليين: من الذي تلجأ إليه عندما تحتار ولا تعرف ماذا تفعل؟ إلى الشخص الذي تربطك به علاقة تقوم على الثقة المتبادلة. وهل تثق في أن جميع الموظفين سيتصرفون بطريقة تحقق المصالح العليا للمؤسسة وتدعم قيمها على المستويين العملي والشخصي؟
- ثقافة "تعامل مع الأمر فحسب": هل الكشف عن العيوب مسموح به، بما في ذلك الشعور بالضعف، ليس هذا فحسب، بل ويجري تشجيع كل العاملين عليه في المؤسسة على كافة المستويات (بما في ذلك القيادة)؟ عندما لا تسير الأمور كما هو مخطط لها، فهل يُنظر إلى ذلك باعتباره خسارة أم فرصة للتعلم؟
- المقاييس غير الكافية: لا يمكن تقييم القدرة على التعامل مع التغيير جيداً بالمال وحده. فعلى سبيل المثال: ما "قيمة" الخسارة المالية الناجمة عن الإصابة بالإعياء أو المكاسب الناتجة عن اكتساب الجدارة بالثقة؟ لن تظهر أشياء كهذه في أي بند من بنود الميزانية، ومع ذلك فهي لا تقدر بثمن. فأين وكيف تفسر مثل هذه الأشياء؟ يجب أن نختار مقاييس تتجاوز المعايير قصيرة الأجل للإنتاجية والعوائد ربع السنوية في عالم يشهد تغيرات متواصلة.
وحبذا لو تضمنت مراجعة الجاهزية للتغيير الحصول على آراء كل أصحاب المواهب في المؤسسة، بداية من المسؤول التنفيذي الأكثر تمرساً إلى آخر الموظفين المعينين حديثاً. وهذا لا يعيدنا إلى أهمية الثقافة الشاملة فحسب، بل ويؤكد أيضاً حقيقة أن كل شخص لديه أفكار وتصورات تختلف عن غيره فيما يتعلق بالتغيير.
إعطاء الأولوية للعقلية على حساب الاستراتيجية
يفترض القادة في كثير من الأحيان أن التغيير يمكن "إدارته" والسيطرة عليه، كما لو كان يحدث في الفراغ. وقد شهدت الساحة صدور الكثير من كتب إدارة التغيير التي تغذي هذه الفكرة. ولكن في عالم اليوم الذي يشهد تغيرات متلاحقة، فإن إدارة التغيير لم تعد كافية. إذ يجب أن يبدأ القادة بعقلية التغيير.
ويعتبر التعامل الجيد مع التغيير فناً وعلماً في الوقت ذاته، فهو يتطلب توافر الاستراتيجية الصحيحة والعقلية الصحيحة أيضاً. فإذا كنت تمتلك عقلية تتجاوب مع التغيير وتشعر نحوه بالارتياح، فلن ترى كل تغيير إلا كفرصة للنمو والتحسُّن، سواءً كان هذا التغيير جيداً أو سيئاً، كبيراً أو صغيراً، مُتوقَّعاً أو غير مُتوقَّع.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أغلبية القادة ينظرون إلى هذه الديناميات من منطلق تجاربهم في الماضي، في حين أن العقلية هي التي تغذي الاستراتيجية، وليس العكس. وبالمثل، فإن علاقة الإنسان بالتغيير تتطور وتتبلور من الداخل إلى الخارج. وهذا ما أسميه "عقلية مجاراة التغيير". فعندما يمتلك القادة والموظفون عقلية مجاراة التغيير، سيصبح هذا السلوك والحماس لتطوير علاقة الفرد بالتغيير جزءاً من الثقافة المؤسسية. وتظهر عقلية مجاراة التغيير بعدة طرق، بداية من الطريقة التي نتحدث بها عن التغيير، وصولاً إلى كيفية وضع الاستراتيجيات والسياسات وأولويات المواهب. ويلعب القادة دوراً رئيسياً في لفت الانتباه إلى أهمية العقلية.
توضيح المسؤول عن استعداد مؤسستك للتغيير وإعادة تقييمه
استحدث بعض المؤسسات في السنوات الأخيرة منصب الرئيس التنفيذي لشؤون التغيير. يحدث هذا في معظم الأحيان في سياق التحول الرقمي، حيث يتم تكليف مسؤول التغيير بالإشراف على تحول الشركة إلى العمليات والخدمات الرقمية وحضور الشركة عبر الإنترنت. وفي الوقت نفسه، قد يُتوقع من كبار المسؤولين التنفيذيين الآخرين أن يضيفوا التغيير إلى أجنداتهم ومجالات عملهم. ويعتبر الرؤساء التنفيذيون والرؤساء التنفيذيون للعمليات والرؤساء التنفيذيون لشؤون الموارد البشرية والرؤساء التنفيذيون للتكنولوجيا والرؤساء التنفيذيون للابتكار والرؤساء التنفيذيون للرؤى والأفكار وكبار مسؤولي الثقافة جميعاً مسؤولين جزئياً عن "التغيير" أيضاً (على الرغم من أنك قد تجد صعوبة كبيرة في العثور على تعريف مشترك بينهم). والأسوأ من ذلك أن بعض الشركات تعيِّن رئيساً تنفيذياً لشؤون التغيير كنوع من الحيل التسويقية، لا أكثر ولا أقل.
ولكن في عالم يمر بتغيرات متلاحقة، مثل العالم الذي سنشهده في المستقبل المنظور، فإن دور الرئيس التنفيذي لشؤون التغيير يكتسب معنى جديداً وضرورة جديدة. فلم يعد يقتصر دوره على كيفية تغيير طبيعة المناصب الوظيفية الأخرى، كما أنه لم يعد يقتصر على تخصص أو قسم أو مشروع أو هدف نهائي واحد.
وربما يكون الوقت قد حان لاستحداث منصب "رُبَّان التغيير" الذي يكرّس جهوده من منطلق منصبه متعدد التخصصات الوظيفية لمساعدة الشركة بأكملها على الاستعداد لمستقبل يشهد تغيرات متلاحقة، وهذا يتوقف على حجم مؤسستك. ويسترشد تصميم المنصب وتحديد مهماته بمبادئ التغيير، بحيث يتمكن صاحبه من متابعة التطور بمرور الوقت. وتشمل الخصائص المطلوبة كلاً مما يلي:
- التداخل وعدم الانعزال: يرتبط "رُبَّان التغيير" بعلاقة واضحة بالثقافة المؤسسية ويعتبر بمثابة النسيج الذي يربط بين التغييرات التي لا تُعد ولا تُحصى التي تؤثر على المؤسسة. وهكذا، فإنه يرتبط بعلاقة متداخلة بين أصحاب المناصب التنفيذية العليا وقسم الموارد البشرية وكبير مسؤولي الثقافة ومجلس الإدارة، وهو مسؤول عن توجيه هذه الوظائف وتقديم المشورة لها.
- مسؤوليات واضحة ولكنها سلسة: يمكن تشبيه "رُبَّان التغيير" بعالِم مستقبليات داخل الشركة يتمثل دوره في إعداد المؤسسة لمستقبل مُحاط بالمجهول إلى حدٍّ كبير. (وهذا يشمل العوامل التي يمكن أن تسرّع أعمال الشركة أو تفاجئها أو تطغى عليها أو حتى تدمرها، ولكنها تتجاوز العمليات اليومية). ويتمثّل جزء من هذا الدور في قيادة عملية تخطيط السيناريوهات التي تعزز الاستعداد المؤسسي لعدد من العقود المستقبلية المحتملة وإنشاء منظومة داخلية يمتلك أفرادها هذه المهارات.
- التركيز على المواهب والمستقبل بلا هوادة: يسهم "رُبَّان التغيير" في مساعدة كافة الموظفين على تطوير عقلية مجاراة التغيير وتحسين علاقاتهم بالتغيير.
تضمين "عقلية مجاراة التغيير" ودمجها في الثقافة المؤسسية
يمكن تعريف الازدهار في خضم الأمواج المتلاطمة فيما يخص التغيرات المتلاحقة بأنه يعني، على المستوى الأوسع، وضع التغيير في صميم ما تفعله. فهو يعني إحداث تحول في العقلية والفرضيات والتوقعات. وبدلاً من الشعور بالتوتر أو القلق أو الانزعاج عند حدوث التغيير، فستكون جاهزاً لمجاراة أي تغيير. وبدلاً من مطاردة وهم السيطرة، ستتكون لديك رؤية واضحة بشأن الجوانب المهمة حقاً.
وعلى الرغم من أننا نعيش في ظل "حالة مؤكدة من عدم اليقين"، وعلى الرغم من أن هذه الحالة باتت هي القاعدة، فهناك الكثير من الطرق المتاحة أمام القادة لتحسين مناهجهم في التعامل مع التغيير بصورة هادفة. ويعد تحديث بيانات رسالة الشركة وقيمها الثقافية بحيث تعكس عالماً يشهد تغيرات متلاحقة نقطة انطلاق جيدة. لكن دمج عقلية مجاراة التغيير في الثقافة المؤسسية يجب أن يكون متجذراً في الإجراءات والمعايير والممارسات بمرور الوقت.
فاحرص على مكافأة الموظفين على المرونة عندما يصوغون حلولاً جديدة وطرقاً جديدة بدلاً من الاكتفاء بمحاولة التعافي من الانتكاسات. ولا تستهن بالعقلية، فهي لا تقل أهمية عن الإدارة. وامنح مزيداً من المسؤوليات للموظفين الذين يمكنهم الاستفادة من حالة عدم اليقين، وثق فيما يمكن أن تعلمهم إياه، ووجّه الآخرين نحو الأفكار والرؤى الرئيسية. وهكذا، عندما يحدث التغيير، فبدلاً من انتظار أسوأ السيناريوهات، سيكون الموظفون قد طوروا ممارسة طرح السؤال التالي: ما أفضل شيء يمكن أن يحدث؟
***
نواجه جميعاً فرصاً جديدة وضرورات مُلحة جديدة للتعامل مع التغيير جيداً. ويجب على القادة والشركات إعادة صياغة علاقتهم من جديد بحالة عدم اليقين من أجل استشراف المستقبل بطريقة صحية ومنتجة. وبينما نتطلع إلى مستقبل "الثابت" الوحيد فيه هو التغيير تلو التغيير، فقد حان الوقت لتبني عقلية مجاراة التغيير وتطوير "القدرة على مجاراة التغيرات المتلاحقة" في مؤسستك والاستعداد للازدهار في خضم الأمواج المتلاطمة للتغيرات المتواصلة.